| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. ناجي نهر

 

 

 

                                                                                      الأحد 12/6/ 2011

                                                 

الحد الفاصل بين العلم والمثال
(1)

د. ناجي نهر

المقصود بمعنى مفردة (المثال) هو الفكر الغيبي المتخيل عامة ، والفكر الديني المسّخر فى السياسة بأنتهازية مفضوحة فى مجتمعات العالم الثالث خاصة ، حيث يصبح الفاصل بين العلم والمثال كالفاصل بين العلم والجهل ، وبين الواقع والخيال ، وبين الحقيقة النسبية والحقيقة المطلقة ، وهو فاصل متناقض يتسبب بتداعيات مأساوية على مختلف الأصعدة ، بسبب تحركه على مسارين متوازيين لا تسمح شروط الواقع الموضوعي بألتقائهما البتة مهما تفنن الأنتهازيون الدينيون فى التلاعب بمفردات اللغة السائدة فى مجتمعهم ، ومهما فبركوا وحرّفوا فى معانيها ، وذلك بسبب قوة ومكانة العلم الموثقة بالأدلة الموضوعية الدامغة وقدرته على تسهيل فهم الحقائق المستخلصة واستيعاب خصائصها وفوائدها للأنسان المعاصر من جهة ، وكشفه عن عورة المعارف المثالية الضبابية ومصدرها الميتافيزيقي المتخيل والأهداف والمصالح التي تبتغيها عند مقارنتها بالواقع الموضوعي المتحرك والمتغير من جهة ثانية. ولاهمية العلم ومكانته الموثقة فى عملية التطور الحياتي ، يلاحظ اليوم ان الأنتهازية الدينية تحاول التقرب من العلم والأدعاء بممارسته لما له من مكانة واثر مباشر وملموس فى حياة الناس وحركتهم الأنتاجية ، بيد ان الأنسان المعاصر قد اكتشف بوعيه الخاص ان الأنتهازية الدينية حينما تلجأ الى هذا التلاعب والتزوير بمفردات اللغة للتقرب من العلم ، فهي انما تدّعي كذبآ ، لكنها تؤكد على ان لا طريق آخر فى الطبيعة يؤمن لها الأستمرارية الحياتية واسباب العيش غير طريق العلم ، فهي اذن مجبرة بالضرورة على ذلك ، والا ستموت وتنقرض ، وكتحصيل حاصل فهي تهدف الى تجميل وترغيب صورتها المبهمة فى وعي الأنسان البسيط ، لكي يتقبل افكارها المعقدة ، ويحافظ عليها مدة اطول لكي تترسخ بحكم العادة فى وعيه بشكل كامل ، وهو أسلوب تحايلي من اساليبها فى غسل ادمغة من لا ادمغة لهم !!، حيث يبدأ هذا المغسول بتكرار التسبيح بما لقن به بمناسبة وبغيرها ، اما الغاية الأهم من التقرب للعلم فهي للتخفيف من هول الجرائم النكراء التي ترتكب بسبب ممارساتها الأنتهازية عبر التاريخ. وكما هو معلوم فلقد دوّن التاريخ بكل فخر واعتزاز ما حققه جهد الأنسان العلمي من خير عميم للأنسانية جمعاء دونما تمييز ، بعكس ما دوّنه عن الأنتهازية الدينية من خزي وعار ودمار ودماء وتداعيات مأساوية ما زال انينها يتصاعد من احاسيس مختلف شعوب العالم الثالث بكل حرقة وألم.

ولقد اكتسبت الأنتهازية الدينية عبر تاريخها المشين تجارب مؤثرة فى الخداع وكسبت لها شرائح مختلفة من ضعفاء النفوس ، وليس بمستغرب ان يعد بعض من هؤلاء الأزدواجيين مثل هذه الكتابات المتسمة بالشفافية والوضوح تطرفآ مبالغ فيه ، برغم انه لا يتعدى ان يكون حواراً علمياً مبسطاً يهدف الى توعية المغرر بهم وانقاذهم من هذا الوباء الخطير. وكان المحفز القوي لمثل هذه الكتابات هو رد الفعل من ممارسات الأنتهازية الدينية اللا انسانية ، ولما تتمشدق به بكل زهو وافتخار من سيئات تعتبرها فضائل ، ولما تقوم به من تحريف للحقائق العلمية خلافاً لكل الأعراف والسجايا الانسانية المعروفة فى الأمانة العلمية والمصداقية الأخلاقية وهو رد موضوعي متسامح للغاية. لذا اجد من الضرورة القصوى بهذه المناسبة ، الأهابة اولآ بجميع الشباب المناضل الثائر مستخدم اجهزة التواصل الأجتماعي ، الذين هم اليوم أمل المظلومين المرتجى ومحرك الحياة الأقوى ومعهم كل العلمانيين والسياسيين وعلماء الأجتماع والأدباء والفنانين والمثقفين ، للقيام بواجب التوعية لشعوبهم المضطهدة وتهيأتها الى نبذ الخرافات والثقافات العشائرية واستبدالها بثقافة العصر المتطورة للأنتقال الى الحكم المدني المؤسساتي الديمقراطي. فالمناضلون لا يكتفون بوصف جرائم الأنتهازية المعاصرة النتنة ضد الأنسانية فى هذا البلد او ذاك وحسب ، بل عليهم ان يتناخوا فيما بينهم وينتفضوا مستلين اقلامهم العلمية وغائصين نحو الداء المستفحل فى اعماق شعوبهم لأقتلاعه من الجذور وكويه بالتحليل العلمي الدامغ لكي لا يعود ثانية الى تشويه الحياة ، وعليهم كمناضلين واجب دفع شعوبهم المتخلفة الى الاقتداء بما حققته المجتمعات الغربية من مكاسب ، وان لا يتوانوا فى فضح جرائم الأنتهازية المعاصرة ومن يقف ورائها ، فهي جرائم لا يمكن تغطيتها بالسفسطة والتمادي بالممارسات المسيئة لمكانة الأنسان ونتاجه العلمي المتعاظم والألتفاف عليه وسرقته وتجييره بأسمها كنتاج من نتاجات عقولها الخرفة العاجزة عن مثل هذا النتاج بمثل افكارها اللاعلمية ابداً.

واليوم فان المحلل المنصف لا يحتاج الى ثمة عناء لكي يكتشف ان كل ما اصاب مجتمعات العالم عبر التاريخ كان نتيجة تمسك المثال الغيبي الأنتهازي بعقائده المربكة وبتقاليد السلف المتخلفة ، والأنكى من كل ذلك ، ان هؤلاء الرجعيون كثيراً ما يطلقون على عتاتهم وكبار اغبيائهم صفة (العالم) التي لا تمت بصلة لا من قريب ولا من بعيد الى افكارهم الغيبية. فهل من الصحيح ولو بنسبة ضئيلة منح رجل الدين صفة عالم؟؟؟ كلا والف كلا ، لأن مفردة العالم مشتقة من العلم ، والعلم نتاج مادي محسوس لعمل انساني خالص مرئي ومجرب ، وله مقومات متفق عليها ومعترف بها من العلماء على اختلاف اختصاصاتهم ، كما ان مقومات العلم تتناقض تمامآ مع ماهية الدين كونه نتاج فكري غيبي تأملي متناقض وموزع على ما لا يحصى من الأجتهادات الفردية والتيارات والمدارس المختلفة المتعارضة فيما بينها بالوصف والتفسير والتوثيق .

ولكي يكون هذا البحث فى الجانب الصحيح من وصف الأنتهازية الدينية وتاريخها المعمد بالدم ، لا بد من الأشارة الى ان جميع تيارات معتنقيها ومدارسها الفقهية متفقة على مصدر وحيد لأنتاج افكارها ، يطلقون عليه (الحقيقة المطلقة) ويتخيلون وجودها خارج وعي الأنسان وهي القادرة على منحه العقل والرزق وجميع مقومات الحياة الأخرى ، وهذا التصور الغيبي يقصدون منه تصغير متعمد لمكانة الأنسان ونفي تام لدوره الأساس فى التطور ، وهو بالتالي لا يتطابق مع ماهية العلم المادية ونتاجها التجريبي الملموس لا شكلآ ولا مضمونآ. ولذا وبسبب أعتماد الفكر المثالي على الغيبيات فلا يصح تسمية المتفنن بالأمور الدينية (عالم) ، غير انه وبالأعتماد على التحليل الموضوعي ونتاج الفكر المثالي ذاته سوية ، يجوز تسمية المتفنن بالأمور الدينية ب[المفتي او المجتهد] او ما يماثل ذلك من تسميات أخرى.

وكما هو معلوم فقد ظل العلم بعكس الفكر الغيبي ، يستقي مادته واداته التنفيذية مما يعكسه الواقع الموضوعي فى احاسيسنا ، وبدافع من حاجتنا الماسة الى مقومات الحياة الروحية والمادية اولآ ، ثم ولكيما تظل عملية تجديد العلم متلازمة ومواكبة لمتغيرات حركة الواقع ومتناغمة مع الحاجة لمختلف الضرورات الأنسانية ، فان العلم لا يعتمد الا على ما هو موثق من نتاج الفكر المادي ، بمعنى آخر ان الأفكار العلمية هي مما يعد نتاج أنساني فى الواقع العملي المتحرك بمعنى (نتاج العمل) العلمي الأنساني المتغير والمتطور بتطور المكان والزمان وبأثر متفاعل فيما بين [نوع العمل ونوع الحاجة الحياتية] ، لذا عدّ العلم صناعة انسانية خالصة ووسيلة فعالة ووحيدة لتبادل الخبر والتجارب بين الناس من اجل التغيير والتطورالأفضل. غير ان العلماء برغم اهمية العلم وصحته ، يحذرون من الخطر المهلك الناجم عن الجمود على أفكاره ونتاجه التقني او تقديسهما ، خوفآ من التأثير على استدامة وادامة حركة عملية التطور او ابطائها فى زمان ومكان جديد مختلف ، ثم لتجنب تداعيات قراءة خاطئة للواقع المعاش ستسجل على القائمين بها مخالفة للعلم ، ربما ستكون ضارة بعلمانيتهم و ضارة فى مسيرة الحياة على حد سواء. ومع كل التوثيق العلمي الرصين ، قد يختلف بعض المثقفين والباحثين في تعريف مفهوم (العلم) او الخطاب العلمي السائد ، او الأفكار العلمية ، ، فبعضهم يعرف العلم بانه نتاج العلماء وحسب ، وبعضهم يصفه بانه همهمات وخلجات نفسية تعّبر عن ظروف قاسية وحسب ، وبعضهم ميّزه كاداة تحليلية ووصفية لظاهرة او اكتشاف احداث معينة وحسب ، او انه هذا وذاك مجتمعآ ، غير ان كل تلك التعاريف للعلم ، يمكن اختزالها بتعريف مبسط للعلم : بانه نتاج عمل انساني خالص ومحسوس ومجرب تفرضه ضرورة الحاجة الحياتية وهو يلد من رحمها فقط ،وليس للغيبيات او غيرها اي دور فيه. وظل عبر التاريخ الواقع المتناغم بين تطور نتاج الأنسان الفكري والتقني سائدآ من جهة ، ومتناقضآ بين شذوذ المتسيدين المهيمنين والمتلاعببن بهذا النتاج واحتكاره لأنفسهم من جهة اخرى ، وهذا الواقع المتناقض قد حفز جيشاً لجباً من العلماء والباحثين والمناضلين فى مختلف علوم الأنسان الى التصدي له وتحليل تناقضاته وتشخيص اسبابه، بسلاح العلم وفلسفته الصائبة (الفلسفة العلمانية التجريبية) التي تعتمد فى دراستها وتحليلها لمختلف الظواهر على اعلى مستويات التنظير العلماني الشامل للعلوم ، وكل ما يخص تطور بضائع الحياة المادية ، وعلى كل ما يخص الأرتقاء بالحضارة وبالوعي العام الهادفين الى أغاثة ضحايا الأستغلال والأحتكار ومعالجة شؤنهما بسلاح العلم لوحده ، وبهدف تغيير الواقع المأساوي ومعالجته بعلمية متوّجة بالشفاء التام ، وبالنصر على الجهل والتخلف بشكل عام. ولذلك وتلبية لنداء الأنسانية فى تحقيق الحرية وسيادة العلم وتجنب تداعيات صراع الأفكار العنيف ، ولحماية المظلومين من الأضطهاد الجسدي والفكري وايقاف نزف دمهم وبؤسهم ، ودفعهم الى النضال من اجل تحقيق ذلك ، وردم هوة التناقض بين ما تميّز به عصرنا من سمو الوعي وثورة التقنيات المذهلة ، وبين الممارسات الأستغلالية والشعوذة المهينة لكرامة الإنسان ودوره الأساس فى خلق الحياة وتقدمها اصبح العلم محركاً لشحذ الهمم وأدامة جذوة النضال بفاعلية اعلى ، من خلال نشر افكار الحداثة العلمية ومبادئ الأنسانية فى الحرية والديمقراطية والمساواتية.

غير اننا ينبغي ان نحافظ على مقياس قيمة الأفكار بالممارسة الأستعمالية التي ستتحدد بمستوى وعي قراءة اصحاب الأختصاصات لواقعهم والتفاعل معه بمسئولية وبصيغة [الأثر والتأثير المتبادل]. فقد يضيف الناس البسطاء من العمال والفلاحين والحرفيين والأختصاصيين الآخرين أثناء ممارسة اعمالهم شذرة علمية لا يستهان بها ، وان لم يتحسسها البعض فى حينها ، غير انها سوف تؤدي بالنتيجة الى تراكمات كمية ستكون قادرة فى النهاية على احداث قفزة تغيير نوعية. اما مجمل الأفكار التأملية التي تعتبر مصدر الوعي خارج عمل الأنسان وتجتهد فى تعريفها للعلم بما لا يُحصى من الأجتهادات المبهمة المرتبة بدوغمائية سائبة ومعقدة ومفتقرة الى ابسط الشروط العلمية فهي أفكار لا علمية ، ولا تمت للعلم بصلة ، وتصنف بخانة (المعارف الساكنة) حمّالة أوجه الأجتهاد والتأويل غير الموثق. فهذه المعارف ، انما ولدت مع ولادة (الملكية الخاصة) ، وصنعت بشيطانية مقبولة ، بهدف تبرير الأستغلال والظلم والفقر.

ان المناضلين التنويرين الواهبين حياتهم طواعية لأحلال العلم بدل الجهل ، ليؤكدون بالأجماع على ان العلمانية ليست توجها معاديا للدين ، أو اتجاها إلحاديا كما يحلو للأنتهازية تصويره ، فمفردة العلمانية مشتقة من العلم ، وبالعلم وحده تقدمت الأنسانية الى ما هي عليه من خير عميم. غير ان العلماني فى الوقت الذي يتصدى فيه لنشر العلم بكل بسالة ووضوح ، فهو جريء فى استخدام حقه وحريته ، فى فضح الممارسات الاجرامية التي تنتهك حرية الأنسان وحقوقه وتحاول عرقلة تقدمه باسم الدين . ولذا كان العلماني فى الوقت الذي يمارس فيه عمله الأنساني ، لا يغفل حقوق الآخرين واحترام عقائدهم ، والتحاور معهم بأسلوب حضاري شفاف وغير متطرف ، فهدف العلمانية ليس مواجهة الدين ، بل فصله عن السياسة ، احترامآ له ولعقائد المتدينين الحقيقيين ، وبهدف قطع الطريق على الأنتهازيين الذين يرتكبون افضع الجرائم بأسم الدفاع عن الدين.

وشئنا ام ابينا فان كافة التجارب الأنسانية لتؤكد على ان الأكثرية ستقتنع آجلآ ام عاجلآ بان العلم منظومة افكار جدلية منعكسة من الواقع ومتفاعلة معه ، لا تحدها حدود ولا توقفها سدود ، وحيث يسمو الوعي القادر على قلع الأساطير المثالية من العقول وتدميرها ، مثلما جرى فى نهضة شعوب البلدان الغربية من كوكبنا ، تلك النهضة التي هبت باثرها الحشود الغفيرة وأنحت جانباً الأفكار الوهمية دون رجعة ، وسّخرت مضامين العلم لكي تهيب بشعوب العالم المتخلف ان تنتفض لكنس اوساخ الأفكار الوهمية المعطلة لوعيها وإمكاناتها، فقد طال لعب الأساطير بعقولها ، وغدا ترسيخ مفاهيم انتهازية تمّجد حب الذات على حساب تصغير الآخر وسرط حقوقه واستغلاله هو السائد بقوة فى مجتمعات العالم الثالث بخاصة .

فلقد برهن تطور العلم المادي بما لا يقبل الشك على ان العلم هو وحده الميّسر لطريق الوصول الى الحقائق النسبية والمسّهل لسبر غورها والتفاعل معها بنجاح ، من اجل تلبية كافة الحاجات المادية والروحية المتزايدة باستمرار. ولذلك واتكاءآ على سمو الوعي المعاصر ، سيتمكن العلم من الأجابة على السؤآل الكبير والأول والأخير : اذا كانت الحقيقة المطلقة مصدراً للوعي والتغيير كما تدّعي الأفكار الغيبية ؟ فلماذا لم يعم العدل والمساواة الناس اجمعين منذ نشوء الوعي حتى اليوم ؟ ولماذا ظلت الفروقات الطبقية سائدة على اساس الملكية الرأسمالية والعرقية والجنسية ؟ ولماذا ظلت الفلسفة المثالية مزدهرة بكامل فروعها واصولها ومنابعها الدوغمائية المعقدة لعملية التطور؟ ولماذا لم تغلق كافة الورش المتخصصة فى غسل العقول وتفخيخ الانتحاريين وينتهى الى الأبد صراع الأفكار العنيف وتداعياته النازفة ، ولم تبق ضرورة للأجابة على الأسئلة المربكة التي تناولتها الحياة؟. اما كيف يمارس العلم والمثال دورهما المؤثر فى الحياة اليومية ؟ ، وكيف يحافظ كل منهما على وجوده ومصالحه ؟ ، فهو ما سيتناوله الجزء الثاني .

 


 

free web counter