| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. ناجي نهر

 

 

 

                                                                                      الأثنين 20/6/ 2011

                                                 

الحد الفاصل بين العلم والمثال
(2)

د. ناجي نهر

ايهما كان الأسبق فى الوجود [الفكر المادي ام الفكر المثالي] وكيف يمارس كل منهما دوره المؤثر فى الحياة اليومية ، ويحافظ على وجوده ومصالحه؟ وقبل الأجابة على هذه الأسئلة ، لابد من توضيح ملاحظة مثيرة للجدل هي : هل ان بامكان الأنسان المتخصص العمل بغير اختصاصه او بالألمام به كمعرفة عامة ؟ ويجيب المختصون بفقه اللغة بأنه ، حينما تعطى صفة لأي انسان ، انما يعتمد فى ذلك على نوع العمل والأختصاص الفكري اوالتقني الأساسي الذي يمارسه ذلك الأنسان فعلآ ، ولكن هذا لا يتعارض مع معرفة الأنسان الموصوف بمهنته بعلوم اخرى ، فقد يكون رجل الدين اضافة على اختصاصه عارفاً بمعارف وعلوم اخرى كالفيزياء والكيمياء وغيرها ، لكن تبقى صفته الأساسية (دينية) مأخوذة من اختصاصه العملي الأساسي الديني ، مثلما هو الحال فى ان يكون الطبيب او المهندس وغيرهما من المختصين عارفين بالأمور الدينية ، لكنهما لا يمارسون الوعظ والفقه الديني كما يفعل رجل الدين ، فيحافظون بذلك على تسميتهم باختصاصهم الأساس ، ولذلك يفضل لرجل الدين العمل باختصاصه بعيدآ عن العمل فى السياسة بخاصة ، لكونها تربك الآخرين وتتقاطع مع اختصاص المرشد الديني كلياً ، وبالتالي فقد تفضح انتهازية الواعظ الديني ونواياه الأبتزازية.

اما الأجابة على ايهما كان الأسبق فى الوجود [الفكر المادي ام الفكر المثالي] وكيف يمارس كل منهما دوره المؤثر فى الحياة اليومية ويحافظ على وجوده ومصالحه من خلال هذه الأفكار؟ فالجواب على ذلك بسيط وميّسر وموّثق بالعلم والتاريخ ، حيث بات مؤكداً ان الفكر المادي كان هو الأسبق فى الوجود ، بسبب ارتباطه بوجود الأنسان وبعمله اساساً ، فالأنسان مادة كالمواد الأخرى خلق من مادة محددة وفق ظروف مناسبة لخلقه حينذاك ، ثم وبفضل عمله المطوّر لوعيه ، والتفاعل المتبادل التأثير بين العمل والوعي وقدرتهما سوّية على تحليل الواقع الموضوعي فى تلبية الحاجات الضرورية ، أصبح الأنسان هو الخالق لحياته وخالق لمواد اخرى جديدة ، وكل هذه الصفات مجتمعة منحت الأنسان القدرة والأستمرارية على الخلق الأفضل كلما سمى وعيه درجة أعلى وبأطراد.

بيد ان أختلاف تفاسير مظاهر حياة الأنسان وعلومه ومجمل ثقافته ترجع الى تباين وعيه وتوافق مصالحه او تناقضها مع مصالح الناس الآخرين. وبعكس ولادة الفكر المادي ومسيرته ، ولد الفكر المثالي وترعرع متاخراً بزمن طويل عن الفكر المادي الذي تجسّدت اساسياته فى المعارف الدينية على تنوعها ، وتحددت ولادته ووجوده الفاعل تاريخياً عقب ولادة ونمو الملكية الخاصة الأستغلالية. فبحسب ما وثقه علماء الأنثروبولوجيا حول ماهية الفكر المادي النظيفة من الشوائب ، واسبقية ظهوره على الفكر المثالي بالاف السنين تخللتها عصور مختلفة التطور كعصر الجليد وعصر الحجر وعصر البرونز وعصر الحديد وغيرها ، وخلال تلك العصور مر الأنسان بمراحل اجتماعية متدرجة التطور حددها مقياس (افتراضي) للمفكر الأنساني وعالم الأقتصاد المعروف كارل ماركس 1818 - 1883م بخمسة مراحل لكيما يسهل على الناس فهمها واستيعابها وهي : [المشاعية الأولى ، الرق والعبودية ، الأقطاعية ، الرأسمالية ، الأشتراكية والشيوعية] وابتداءاً بمرحلة (الرق والعبودية) وحتى يومنا المعاصر جسّد الفكر المثالي بأساسياته ولحمته وسُداه المعارف الدينية المدافعة عن الطغاة ، والتي ارتبطت ولادتها مع ولادة الملكية الخاصة الأستغلالية التي ازدهرت فى المراحل الأربعة التي تلت المشاعية الأولى ، والتي اتسمت بظاهرة الأستغلال ونمو الملكية الخاصة الأستغلالية التي عجّلت بولادة شقيقها التوأم (الفكر المثالي الديني) الذي تفنن مفبركوه بصناعة التبريرات والدفاع عن الطغاة عبر التاريخ. فلقد اتسم وعاظ الرأسمالية بشيطانية متدرجة تضمنت الترغيب والترهيب والتعقيد فى آن واحد متناسب مع تطور الوعي لاغلبية الناس البسطاء ، بهدف تبرير الأستغلال والظلم والفقر والدفاع عن مسببيه ، وسوف يظل هذا الفكر فاعلاً للشر ومتميزاً بثقافته الأنانينة وانتهازيته المتلونة ، ما دامت الملكية الخاصة الأستغلالية فاعلة والسيد الرأسمالي حيآ ومعافى.

وكما يؤكد التاريخ ، فقد برز من فلاسفة الأغريق الماديين قبل أكثر من الف عام ، قبل الميلاد [طاليس الأول واناكسيمنيس وديمقريطس وبطليموس وسقراط وطاليس وغيرهم] من الذين خدموا الأنسانية بعلومهم ، حتى ظهر المحروس بالله (افلاطون) 427 - 347 ق . م ، وهو تلميذ لسقراط وطاليس الثاني الماديين ، غير ان تلميذهما افلاطون النشمي!! شبّ عن طوق الفكر الفلسفي المادي لزمانه ، وابتعد عن الدفاع عن معاناة الأغلبية ، وانحاز الى عائلته الأرستقراطية المتسلطة الباذخة ودافع عن مصالحها بتفاني لا حياء فيه من العلم والأخلاق ولا خجل ، فقد اعماه التحيز اللاأخلاقي لعائلته الرأسمالية عن ان يتحسس ولو للحظة واحدة بألم المضطهدين وجوعهم ، بل وحاول ايهام الجياع باختراع تصور رأسمالي متخيل من عندياته ، اقنع فيه العامة بوجود مدينة فاضلة فى اليوم الآخر!!! ، سيعيش الناس فيها برخاء وطمأنينة ، محاولاً فى ذلك من ان لا يحّمل عائلته المتحكمة برقاب الفقراء مسؤولية ما سبّبوه لهم من معاناة ، وقد نجح فى ذلك نجاحآ باهراً ، بعد ان قام بتوحيد الإله بإله واحد أحد كان قد اخترعه بالأمس من بنات افكاره وحمّله اليوم مسؤولية ذلك الأستغلال , بفتوى ان اسباب كل ما يقع على الناس من خير وشر انما هو امر خارج ارادتهم وهو أمر يعود الى مشيئة خالقهم الواحد الأحد الذي لا يعرف اسراره ومكان وجوده غير الراسخون فى العلم والحكماء والآيات العظام !!!, وبهذه الفتوى الذكية أراح الناس من الصراع الفكري والجدل السفسطائي الذي كان محتدماً آنذاك حول كنه الآلهة وماهيتهم وكيف يتسنى للناس اكتشافهم ومكان وجودهم , فقد دعى افلاطون الفقراء بان لا ينشغلوا بعد الآن سوى بطاعة الله الواحد الأحد الموجود خارج حدود عقولهم وابصارهم ، وطاعة أولياءه الموكلون بأمره ، والذين تبصرهم العيون والعقول بمشيئته ، كما اقنع الفقراء الضاً بأنه توّصل الى توحيد الآلهة المتعددة بقدرة الله وبأمر منه ، مؤكداً على ان الله أجتباه وعائلته المقدسة لخدمة البشر!! , فتلاقفت هذه الأفكار الألهية مختلف الطبقات الرأسمالية المتجبرة فى كل مكان وانبرى الوعاظ الأنتهازيون لتثبيتها فى اعناق الناس البسطاء كأطواق عبودية ثقيلة الحمل , وقد توارثها الحكام بالتعاقب وفرضوها على الناس جيلاً بعد جيل ، حتى ترّسخت بوعيهم بحكم العادة سواء كانوا ظالمين او مظلومين وغدت مدارسها اللاهوتية لا تُحصى ولا تتوقف عن التناسل الأنتهازي ، وتجذرت ثقافتها الساكنة المعمدة بالدم فى وعي الناس بقوة الفرض السلطوي لدهور طويلة ، لحد ان الناس بما فيهم بعض المتعلمين واصحاب الشهادات الكبيرة المزورة!! تخيلوا انها ثقافة منزلة عليهم من السماء فعلاً ، وانها افضل الثقافات. بيد ان الناس عامة واغلب الفقراء المنتجين بخاصة كانوا فى ممارساتهم اليومية يطبقون بشكل غريزي وتلقائي افكار المدرسة (المادية) لأنهم جرّبوا اولاً ممارسة افكار المدرسة المثالية فأسترخوا منبطحين على الأرض وفغروا أفواههم الى السموات السبع ، عسى ان ينزل الرطب فيها ، غير ان الرطب لم ينزل وكادوا يموتون جوعاً ، فإضطروا الى العودة ثانية الى افكار المدرسة (المادية) بأقصى ما يملكون من السرعة ، وذلك لما تلمسوه منها من منافع تلبي حاجاتهم الضرورية وتشبعهم من جوع ، بالأضافة الى سهولة التعرف على منهجها واستيعاب قوانينها بيسر ، لكونها مدرسة تعتمد على تحليل الواقع المنظور ، فهي مدرسة واحدة غير متشعبة بأفكارها وماهيتها ومقوماتها وشروط بحثها الى مدارس وتيارات متناقضة واجتهادات كثيرة معقدة صعبة الفهم والأستيعاب كالمدارس المثالية المتعددة التي اضحت عصية الأستيعاب حتى على الأنتهازية المفبركة لها. ولذلك فقد بات واضحاً اليوم ان افكار المدرسة المثالية الدينية وبشهادة صانعيها والمروّجين لها ، لا تصلح لعصرنا كثقافة اجتماعية واقتصادية وسياسية ، بسبب ثبات وجمود افكارها المعرقلة للتطور ، غير ان الأنتهازية الدينية تحاول تجميلها بصور شتى ، كالأدعاء بنزول افكارها من السماء والقوة الالهية خارج وعي الأنسان ، والأدعاء بأن هذه الأفكار تتحرك بمشيئة تلك القوة ، وهي تتناسب مع كل زمان ومكان وتقضي حاجات معتقديها مهما كانت كبيرة وصعبة ، و لكونها افكار مقدسة فلا يجوز لأي كان التلاعب بمضامينها بأية حال من الأحوال . بيد ان العلم عارض وسيعارض مثل هذا المنطق الأفلج المبهم ، الذي يتقاطع كلياً مع الواقع المتحرك على الأرض ، ويتقاطع كلياً مع افكارالمدرسة المادية المتحركة التي تدعو الناس الى تجديد قراءة واقعهم بما يتناسب وزمانهم ، وتحثهم على تفكيكه وتركيب أجزاءه وتطويرها من خلال تجاربهم العلمية العملية المترادفة وحاجاتهم الضرورية المتزايدة. وكضرورة لعملية التطور المستدامة ، فقد تعمقت اهمية المدرسة المادية فى وعي الناس وسهل عليهم فهم مدارات حركتها العامة واكتشاف قوانينها العلمية ودقائقها وجزيئاتها الصغيرة التى لا ترى بالعين المجردة , وبدافع من هذه الضرورة الجديدة المتداخلة الأثر والتأثير ، فقد تخصص الأنسان بفروع علمها وأجزاءها المختلفة ، وسّخرها فى بناء مستقبله اللاحق. ومن هنا ايضاً ينبغي الأشارة الى اهمية فهم مصطلح (الصدفة والضرورة) الذين لعبا دوراً حاسماً فى تقدم العلم وبلورة تجارب الناس وصياغة ثقافاتهم وتطور حضارتهم واغناء افكار المدرسة المادية التي ساعدت الأنسان ومكنته من تحدي الصعاب وتسخير الظواهر لخدمته وتحقيق حاجاته ، فكان الأنسان الواعي يراقب بتلقائية مسؤولة ما حوله من ظواهر ، فأهتم أولاً بعلم [الفلك] كي يتجنب كوارث الكون والبيئة ثم توالت اختصاصاته فى العلوم الأخرى بما يتناسب مع حاجاته الضرورية كالعناية بالحيوان وتدجينه واختراع ما يلزم من ادوات وآلات تمكنه من تطوير زراعته وصناعته ونقل منتوجاته وعلومه من مكان الى آخر بالأستفادة من [وسائل المواصلات والأتصالات والأعلام وغيرها] . وكذلك فقد اتجه الأنسان بقوة نحو العلوم الطبية لكي يدرأ فيها اخطار الأمراض المهلكة ، فتوصل الى ما نراه اليوم من تطور فى العمل الجراحي ومن تشخيص مختلف الأمراض وعلاجها ، والتقدم فى صناعة مختلف الأدوية . وقد اشّرت كل تلك الأنجازات الأنسانية المذهلة ، تفوّق المدرسة المادية على جميع المدارس المثالية ، فلم تزل المدرسة المادية لوحدها موضوعة نشاط الأنسان فكراً وتطبيقاً وهي الأقرب الى ذهنه وقناعاته وبواسطتها استطاع الأنسان من تشخيص حركة الظواهر واكتشاف خفاياها واشكال تمظهرها , ومركباتها البنيويه (الفوقية والتحتية) ومساراتها ومداراتها واسباب صعود ونزول خطوط بياناتها الأنتاجية وبيانات لحمتها الأجتماعية والأنسانية فى فرقتها وصراعاتها العنيفة وحروبها المدمرة فى وحدتها واتحادها وتداعيات ما تنتجه من خير وشر ، يمكن استخلاص نتائجه الأيجابية والسلبية فى القدرة على المقارنة فيما بين الحالين.

ومن هنا فقد اكتشف الأنسان أن من شروط تطوير حياته وتقدمها ما يلزمه بين فترة واخرى من اعادة تقويم عمله بحسب مراحل تطوره ، بهدف دراسة تجاربه الفاشلة والناجحة وتقييمها واغنائها بالجديد وتعداد ما حوله من مواد ضارة ومفيدة ودراسة مكوناتها وخصائصها وفرز ما فيها من خالق ومخلوق للتأكد من صلاحية الجميع وتطويره بما يناسب واقعه الجديد فى الزمان والمكان.

ولكن ، هل تمكن الوعي المعاصر من تحديث وعي الناس وتحريرهم من عبودية الفكر المثالي وانتهازية الفكر الديني؟ انه موضوع الجزء الثالث .

 


الحد الفاصل بين العلم والمثال (1)
 

 

free web counter