| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. كاظم حبيب

 

 

 

الخميس 8/11/ 2007

 

أوضاع إقليم كُردستان العراق الجديدة
الحلقة الرابعة والأخيرة

كاظم حبيب

سبل تطوير المنجزات ومعالجة المشكلات
ليس هناك من ينتظر أن تزيل فيدرالية إقليم كُردستان العراق خلال الفترة الوجيزة المنصرمة ما تراكم عبر العقود الماضية من مظاهر التخلف والتمييز والإهمال والفقر العام المصحوبة بسيادة الاستبداد والقسوة والمظالم والقهر للفرد والمجتمع. كما لم يكن غير متوقع أن تترك عقود الهيمنة البعثية الشوفينية والدموية بصماتها الشديدة على المجتمع الكردستاني أو المجتمع العراقي بشكل عام والتي تتجلى اليوم في العلل الاجتماعية والسلوكية الناجمة عن مصادرة كاملة للحرية الفردية والحياة الدستورية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع وحقوق القوميات والأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية.
ولهذا فأن الكثير من الظواهر والمظاهر السلبية ليست نتيجة السنوات الأخيرة , بل هي نتيجة تراكم طويل الأمد وأصبحت جزءاً من سلوك الفرد اليومي والتي لا يشعر في غالب الأحيان بعواقبها الوخيمة عليه وعلى الآخر والمجتمع , إذ لم يعرف الفرد والمجتمع سلوكية غير تلك التي عاش تحت وطأتها عقوداً كثيرة. وأن إزالة أو معالجة كل ذلك سوف يستغرق سنوات كثيرة. إلا أن المعالجة الفعلية والسليمة تستوجب ابتداءً وضع الأسس والقوانين التي تساهم في الحد من تلك الظواهر السلبية وتسمح بنمو وتطور الظواهر الإيجابية في المجتمع الكردستاني , بما في ذلك سبل إعادة بناء الفرد والمجتمع. وهذه العملية تستوجب تحلي وامتلاك الهيئات السياسية والاجتماعية والأحزاب الفاعلة والحاكمة الإرادة والقدرة على دفع الفرد والمجتمع بالاتجاه الصحيح المنشود لعملية التغيير الكبيرة.
يسعى المسئولون في كُردستان , كما يرد ذلك في تصريحاتهم الكثيرة والمهمة , إلى بناء المجتمع المدني في إقليم كُردستان. ومثل هذا المجتمع لا يبنى بصورة عفوية أو ينشأ بصورة أوتوماتيكية , إذ أن هناك الكثير من المجتمعات المدنية التي تحولت إلى نظم فاشية أو غير ديمقراطية في أوروبا وفي غيرها من البلدان. لهذا فبناء المجتمع المدني الديمقراطي الحديث يستوجب فعلياً تأمين عدة مسائل جوهرية , منها بشكل خاص :
1. وضع الأسس النظرية لهذا المجتمع والتي تتجلى في إقرار دستور ديمقراطي علماني وعقلاني يستند إلى المؤسسات الدستورية والقوانين والنظم التي يقرها الإقليم والفصل بين السلطات والفصل بين الحكم المدني في الإقليم والدين ورفض التمييز بكل أشكاله , وخاصة التمييز بين الرجل والمرأة أو بين أتباع الأديان والمذاهب أو التمييز القومي والفكري. وهي عملية معقدة دون أدنى ريب بسبب تشابكها مع المؤسسات الدينية وشيوخ الدين الذين بتكوينهم الفكري الديني المتخلف يرفضون الجديد ويصرون على القديم.
2. وضع القواعد الأساسية أو توفير المستلزمات العملية للمجتمع المدني , وهي إقامة الصناعة الحديثة ونهوض الطبقة الوسطى أو البرجوازية ورديفها الطبقة العاملة , وتحديث الزراعة واستخدام العلوم والتقنيات والمنجزات الحديثة لثورة المعلومات أو الانفوميديا.
3. تعزيز مؤسسات المجتمع المدني إلى جانب دور الحكومة ومؤسساتها التنفيذية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في الإقليم. ولا يمكن أن تنجز هذه المهمات دون أن تكون هناك نظم للعمل والمراقبة والمتابعة والمحاسبة الاقتصادية ونظام الحوافز الاقتصادية لدى المؤسسات والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية الخاصة والحكومية لإشباع رغبة الأفراد والجماعات والمجتمع بما يسهم في خلق منافسة عقلانية بين البشر لصالح التنمية والتطوير المستديمين , لصالح الإنسان.
4. إن إعادة بناء الفرد والمجتمع يستوجب العمل باتجاهين أساسيين, وهما:
أ‌. تغيير بنية ومناهج وأساليب التربية والتعليم في جميع المراحل الدراسية , بحيث ينشأ لدينا جيل جديد قادر على الاعتماد على النفس وتغيير طريقة التفكير لدى الفرد ووعي المجتمع والتعرف على مشكلاته وأهمية المشاركة في العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية , إضافة إلى تغيير واقع وأسس الثقافية الشائعة في المجتمع وتجاوز السلبي والمتخلف المورث منها, ونشر الثقافة الحرة والديمقراطية وتأمين السير على طريق التنوير الديني والاجتماعي وتخليص الفرد والمجتمع من مظاهر الاتكالية واللاأبالية وعدم الشعور بالمسئولية إزاء المجتمع أو ازدواجية الشخصية والروح الانتهازية والخشية أو ممارسة العنف والقوة في حل المعضلات في المجتمع. ولا يمكن إلا أن ترتبط هذه الجامعات بالمؤسسات الدولية وتعليم اللغات المختلفة وخاصة الإنجليزية , إضافة إلى اللغتين الكردية والعربية والفرنسية والألمانية. ومن الضروري تدريس اللغة الكردية في الجزء العربي من العراق أيضاً.
ب‌. تطوير مؤسسات ومراكز ومختبرات البحث العلمي وربطها بوجهة التنمية المنشودة في الإقليم من خلال ربط ذلك بالجامعات والكليات والمعاهد من جهة , وبالمشاريع الاقتصادية الإنتاجية والخدمية ومنظمات المجتمع المدني والفئات الاجتماعية من جهة أخرى , إضافة على تطوير علاقات هذه المؤسسات بمؤسسات دولية متقدمة لأغراض التنسيق والتطوير والاستفادة من المعارف والخبر المتراكمة لديها.
5. وتتطلب هذه الوجهة تأمين إعلام عقلاني وموضوعي صريح وجرئ وفعال يحترم القوانين والحكومة ولا يخشاهما , إعلام مسئول يساهم في عملية التغيير والتقدم وإعادة البناء والتثقيف بمبادئ الحرية , ومنها حرية الفرد , والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والمساواة والاعتراف بالآخر ورفض التمييز والعنف والكراهية والحقد وغير محبوس بقيود شيوخ الدين والسعي لتحقيق التلاقح الفكري والسياسي بين الداخل والخارج والانفتاح على الإعلام والثقافة العالمية.
6. إن المجتمع بحاجة ماسة إلى ضمان الفصل الفعلي والقاطع بين الدين والنظام السياسي أو نظام الحكم , إي أن يكون الحكم في الإقليم مستقلاً عن الدين , وأن يكون الدين مستقلاً عن حكم الإقليم. وأن تسود الحيادية إزاء الديانات , إذ أنها ستسمح بممارسة التنوير الديني والاجتماعي والسياسي.
7. إن الديمقراطية في بلد ما تعني , ضمن ما تعني , وجود قوى في الحكم جاءت عبر الحملات الانتخابية والتنافس في البرامج والانتخابات الحرة والنزيهة من جهة , ووجود معارضة سياسية عجزت عن الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات وتمارس النقد البناء والمعارضة المسئولة من جهة أخرى لتأتي ربما إلى السلطة في دورة لاحقة.
كل هذه وغيره سوف يستغرق وقتاً طويلاً لكي تستتب الأسس والمبادئ والعلاقات الإنسانية الجديدة الخالية من أمراض الشرق المعروفة والمتوارثة في إقليم كُردستان العراق وفي العراق عموماً. ولهذا يفترض أن لا يستغرب الإنسان من وجود تلك السلبيات التي جرى الحديث عنها في الحلقة الثالثة. إلا أن المهمة يفترض أن لا تكون تبرير هذه الحالة بمخلفات الماضي أولاً , وأن لا تزداد ممارسة تلك السلبيات ذاتها وتتسع قاعدتها ثانياً , بل يفترض إدانتها والعمل الجاد والمسئول لإزالتها وعبر تعبئة كل الناس الذين يهمهم مستقبل الإنسان في كُردستان ومستقبل الأجيال القادمة. ومن هنا ينطلق النقد الذي يتوجه صوب السلبيات والدعوة إلى التغيير والتحسين عبر خطوات مدروسة ومدققة ووفق برنامج واضح المعالم والسياسات والإجراءات. وهو الذي لم نتلمس معالمه في السياسات الممارسة حالياً في الإقليم.
كلنا يعرف بأن السياسة والاقتصاد هما وجهان لعملة واحدة , رغم إمكانية الفصل بينهما ومعالجة كل منهما على حدا , ولكن لا يمكن معالجة كل منهما إلا من خلال الربط الواقعي بينهما. فوجهة النظام السياسي وإجراءاته هي التي يمكنها أن تحدد وجهة التحول الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وهي لا تتم بالإرادة والرغبات وحدها , بل عبر احترام القوانين الموضوعية والتعامل الواعي معها وتعبئة الناس لتحقيقها. واللبرالية السياسية والحرية الاقتصادية التي تستوجب الاعتماد على القطاع الخاص يفترض أن لا يبعد حكومة الإقليم , في ظروف العراق الملموسة عموماً وكُردستان العراق خصوصاً عن أربع مسائل مهمة:
1. أن تلعب سياسة حكومة الإقليم دورها الأساسي في عملية تغير الإنسان وطريقة تفكيره وأساليب عمله وموقفه من الحرية والعمل والقانون والدولة واحترام الآخر ...الخ. وأن تتعاون حكومة الإقليم في ذلك مع منظمات المجتمع المدني والمؤسسات التربوية والتعليمية.
2. أن لا يكون هناك قطاع دولة بجوار القطاع الخاص للمساهمة في تلك المشاريع التي يعجز عنها القطاع الخاص , سواء أكان محلياً أم خارجياً , أو تلك المرتبطة بثروة الشعب الأساسية , النفط الخام.
3. تنشيط الرقابة والإشراف من جانب حكومة الإقليم على السياسات الاقتصادية والاجتماعية , وعلى السياسة المالية والنقدية والأسعار والاستيراد والتصدير أو التصنيع , أو على سبل مكافحة البطالة.
4. توفير مستلزمات حماية الفرد والمجتمع من الاستغلال المشدد والنهب والسلب لموارد الدولة عبر الفساد المالي والإداري , إذ يفترض وضع الأسس الكفيلة والضمانات الاجتماعية التي تساعد على تنظيم جيد لتوزيع وإعادة توزيع واستخدام الثروة الاجتماعية.
وهذه الأمور الأربعة هي الأخرى غير واضحة المعالم في الإقليم. وهذا لا يعني أن بعض المسئولين لا يعرفون ذلك , بل ربما لا يشعر البعض بأهمية ذلك في هذه المرحلة , رغم كونها تضع الأسس الفعلية للبناء اللاحق لإقليم كُردستان العراق والعراق عموماً.
نحن إذاً بحاجة إلى عمل وتنسيق بين السلطات الثلاث دون أن يكون أي تدخل من إحداها بشئون السلطة الأخرى أولاً , وأن يتحقق التعاون والتنسيق بين السلطة التنفيذية ومنظمات المجتمع المدني دون التدخل في شئونهما مباشرة , بل التأثير غير المباشر على بعضهما ثانياً , ونحن بحاجة إلة فصل الدين عن سياسة وحكم الإقليم وعملية التنوير الديني واجتماعي ثالثاً و ولكننا بحاجة إلى التثقيف الواسع وتطوير رقابة الشعب على سياسة الحكومة وعلى دورها والذي يتجلى في أساليب عدة بما في ذلك عدم منح صوتها لذا الحزب أو ذاك أثناء الانتخابات ...الخ. نحن بحاجة إلى المكاشفة أو المجاهرة والشفافية بين نشاط الحكومة والمجتمع , نحن بحاجة إلى إزالة الفجوة المتسعة بين الحكومة والمجتمع , وخاصة الفئات الكادحة وتأمين مستلزمات الثقة بها من خلال مكافحة الفساد المالي ة ومكافحة المحسوبية والمنسوبية , سواء أكانت عائلية أم عشائرية أم حزبية ضيقة وتحسين توزيع واستخدام الثروة.
ما قدمته هنا ليست سوى الأسس العامة التي يفترض أن نعتمدها في تغيير وتطوير المجتمع في كُردستان العراق. والتفاصيل كثيرة , ولكني سأبتعد عنها في هذه السلسلة من المقالات الأربعة , إذ كنت قد نشرت مع الأخ الدكتور جعفر عبد الغني رؤيتنا المشتركة لعملية البناء والتغيير في الجوانب الاقتصادية والإدارية والاجتماعية والسياسية والثقافية. ولكن من الضروري هنا الإشارة إلى أن ما تحقق في الإقليم ليس قليلاً أولاً , وأن الإقليم يمتلك قدرة كبيرة من ناحية الموارد البشرية والمادية والمالية لتحقيق التغيير المنشود ثانياً , وما يحتاجه يتلخص في إرادة التغيير والسياسة الواقعية التي تتناغم والمرحلة الراهنة وحاجات المجتمع حالياً وفي المستقبل والاستخدام الأكثر عقلانية للثروة والموارد البشرية المتوفرة ثالثاً.

3/11/2007

¤ الحلقة الثالثة
¤ الحلقة الثانية
¤ الحلقة الأولى


نشر المقال في جريدة المدى بتاريخ 7/11/2007
 


 

Counters