| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

قرطبة عدنان الظاهر

 

 

 

 

الأربعاء 27/6/ 2007

 

كتابات أخرى للكاتبة على موقع الناس

 

وصية حمورابي ..حكمة ام لعنة بابلية؟
(5)


قرطبة عدنان الظاهر *

وصية حمورابي (1792-1750 ق.م.)
من خلال هذا السرد المفصل في خمسة أجزاء لدولة بابل الكبرى تتضح لنا معالم الدولة البابلية بنشأتها، بمؤسساتها الادارية والقانونية، بسياستها الداخلية والخارجية وبمجتمعها المتنوع الذي يعد مجتمعا متطورا متقدما بمهاراته الحرفية والصناعية والزراعية والمعمارية والتجارية والذي ساهم في بناء دولة مدنية حضارية.

عند إستلام الملك والمشرِّع حمورابي لمقاليد الحكم كانت بلاد الرافدين ارضا مقسمة غير موحدة تشمل إمارات متحاربة بين بعضها البعض تعيش فيها عدة مجتمعات تتحدث لغات عدة وتمارس طقوس وعادات وتقاليد مختلفة (كما هو الحال في عراقنا اليوم). لتوحيد هذه الاراضي ، تمكن حمورابي من تحدي كل العقبات المتراكمة (على أثر إنهيار دولة أور الثالثة) بفرض قوانين صارمة على جميع مجتمعات بلاد ما بين النهرين التي لم تكن متكافئة ومتجانسة قط. إستطاع أن يبسط نفوذه السياسي من خلال (282) مادة قانونية، دوَّنها في مسلة يعد الجزء الثاني منها بمثابة دستور للدولة البابلية. حمورابي الملك كان بأمس الحاجة الى كسب ولاء شعبه كي يدعم نفوذه السياسي لتوحيد الدولة البابلية الكبرى والتصدي للعدو من الخارج. لذا كان حريصا على بسط العدالة والتعاضد الإجتماعي، كذلك المساواة بين أبناء الدولة على حد سواء، المحسوبين على البلاط الملكي او الضعفاء. من هنا أضفى حمورابي على تشريعاته مبدأ السمو، أي القانون فوق الجميع.

عمل الملك حمورابي على وضع نظام ٍ أقرب الى اللامركزية في إدارة الدولة و بأشراف مركزي من "العاصمة" بابل، إذ منح صلاحيات معينة بموجب مرسوم رسمي الى مدن ودويلات كانت تدار من قبل قضاة محليين ودوائر حكومية . هنا إستوعبت كفاءة حمورابي الإدارية مجتمعات متباينة بنظام إداري لامركزي أقرب الى الفيدرالية.

إضافة إلى ذلك أكد حمورابي على مركزية الاقتصاد المتمثلة بالتبادل التجاري بين الشعب والبلاط فقط. إذ لم ُيعرف السوق بعد في تلك الازمنة ولم يكن هناك سوق يذكر في بابل. كان البلاط البابلي هو من يأمر بما يزرع او ينتج وهو الموزع الرئيس للبذور او الادوات الزراعية على الفلاحين عن طريق موظفين حكوميين. والبلاط الملكي البابلي هو من كان يحرص على توفير معيشة كريمة لمواطنيه. هذا يعني ان حمورابي هو اول من أسس نظاما ً إقتصاديا ً ـ إشتراكيا ً مركزيا ً! كانت الاشتراكية مفروضة على المجتمع في بابل لمواجهة الازمات التي تعصف بالبلاد كالحروب والكوارث الطبيعية.

كان حمورابي يعلم جيدا أن أي تدخل من قبل كهنة المعابد في شؤون الدولة سوف يؤدي إلى حلحلة الوضع الامني الداخلي بسبب التركيبة الاجتماعية المختلفة وتعدد الالهة في بلاد الرافدين. لذا اعتمد على استمرار تطبيق نظام فصل الدين عن الدولة (العلمانية) الذي بدأ في الالفية الثالثة قبل الميلاد.. وأحترام معتقدات كل المجتمعات مع الالتزام باله الحق والعدالة، شمش.

بعد 43 عاما من حكمه على دولة بابل الكبرى أعد الملك حمورابي وصية مكتوبة ومحفورة في حجر الديوريت الاسود طولها 2,25 مترا تحتوي على ثلاثة اجزاء. الجزء الاول (Prolog) يتضمن الانجازات التي حققها الملك إبان حكمه للدولة والجزء الثاني القوانين والاحكام )دستور الدولة). اما الجزء الثالث
(Epilog) فيتضمن النص الرئيس للوصية. لم يعلم الملك العادل عندما دوَّن هذه الوصية بان كل من سوف يخلفه في الحكم لن يتحلى بعقليته النيرة وحنكته السياسية العالية و أن الشعوب المتعاقبة سوف تتميز بالكلام بلغة غير اللغة البابلية الاشورية وبحضارة ومعتقدات ٍ دينية وسياسية مختلفة لا تستطيع استيعاب محتوى ما جاء في مسلته. ولم يعلم أيضا بان مسلته سوف تكون إحدى غنائم ملك عيلام شوتروك ناخونته ليُعثرعليها في سوسة وتجلب لمتحف اللوفر الفرنسي في باريس لتكون شاخصة حضارية فريدة وعملاقة لكل الحضارات والشعوب المتعاقبة والمصدر الاول والاساس في علوم القانون والدولة....

الوصية (Epilog):

"..لقد كتبت أنا قوانين العدالة. فالمظلوم الذي يقع ظلم عليه أن يشخص امام مسلتي التي تعكس شخصي انا ،الملك حمورابي، وليقرأ ما كتبت وليستمع لكلماتي الغنية. مسلتي سوف ترشده إلى فعل الحق ليواجه القضاء العادل وسوف يتنفس الصعداء.
كل ملك (حاكم) يخلفني و يحكم هذه الارض عليه طوال فترة حكمه وحتى آخر يوم في حياته أن يحافظ على كلمات العدالة التي كتبتها أنا في مسلتي. قانون هذه الدولة الذي وهبته إياها أنا والقرارات التي اصدرتها أنا عليه ان لا يهملها وعليه ان لا يحتقر مدوناتي ومخطوطاتي. وإذا كان هذا الحاكم عاقلا وحكيما ويجيد حكم البلاد بعدالة عليه ان يراجع دوما تلك الكلمات التي كتبتها على مسلتي. فكل امور الدولة وقانونها والقرارات التي اصدرت في شأنها والمثبتة في المسلة هي خير دليل ومرشد له فيها.
أي حاكم يخالف القانون والعدالة يلعنه أبو الملوك [ آنو ] ويسحب منه مقاليد الحكم والسلطة. وإنليل إله المصير يسلط عليه كل المصائب والحيرة والتشوش الذهني لتسقط مملكته ويحرق في قصره. بل تكون فترة حكمه عسيرة بأيام مليئة بالفقر والعوز وسنوات يسودها الجوع والظلام وإنعدام الضوء، فيصاب بالعمى الكامل. ولتعصف الالهة نينليل زوج إنليل بالارض دمارا شاملا. وليأخذ الاله [ آيا ] اله الحكمة من هذا الطاغوت العقل َ والحكمة َ ويجعله فاقداً ذاكرته لا يفقه ما يفعل. وليتحكم في كل انهاره من منابعها وليترك له أرضا ً من غير بشر وترابا ً من غير زرع.
ليسقط شمش إله الحق والعدالة مملكته وياخذ منها كل ما هو حي يرزق. أما تحت الارض فلياخذ من روحها الماء ويجعله يلطع كل شي يحتسى. أما إله القمر [ سن ] فيجرده من الايام والاشهر والسنوات ويحولها إلى حقبة مرة مليئة بالشجون والحسرات ويجعل مصارعة الموت اليومية من مصيره. إله الجو [ أدد ] يسلط الفيضان والاعصار على البلاد، والمحارب الالهي [ زبابا ] يقوم بتخريب سلاحه اثناء المعركة ويحول يومه إلى ليل دامس ويجعل عدوه يدوس عليه بأقدامه. والالهة عشتار (هي ليست فقط الهة الحب وأنما ايضا ألهة الحرب والصراع) تهلك جيوشه وتملأ ارضه بدمائهم وتجعل منهم اكواما من الجثث ولن يرحمهم العدو ابدا فيسقطون على ارضهم اسرى مكبلين ويقتادون إلى ارض العدو مثل العبيد. وإله الاعصار [ نركال ] يحرق اتباعه في مزارعهم وبسلاحه العملاق يمزق اوصاله إربا إربا. ولتؤخذ منه كل الغنائم ويسحب منه الميراث ويصاب بمرض خبيث عضال غير معروف قط لا يتعافى منه ولا يستطيع الانجاب حتى يموت وحيدا ذليلا...
"

حكمة حمورابي أسست دولة مدنية لامركزية تحمي شعبها بقوة القانون. ثبتها الملك العادل في وصيته لكل حكام وشعوب وادي الرافدين المتعاقبين. ربما لم يتبادر الى ذهن هذا الملك العادل عندما دون وصيته حول حكم بابل بأن المستقبل سوف ينتج حكاما يخذلون حكمته في بناء الدولة العراقية الحديثة. فلا غرابة أن تحل لعنته عليهم وعلى كل من صادر ويصادر الدولة والقانون وينتهك وصية هذا الملك المتميز من بين كل الملوك..

فلنقرأ إذا ً تأريخ أبائنا وأجدادنا بدقة وبإمعان فهو مليء بالحِكم...

*
كلية العلوم السياسية  - المانيا

المصادر:
1. Michael Jursa: Die Babylonier, Geschichte, Gesellschaft, Kultur, München 2004
2. Klengel, Horst: König Hammurapi und der Alltag Babylons, Berlin 1991
 

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى