| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حميد الخاقاني

 

 

 

الجمعة 14/10/ 2011



جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (5)

  حكومة "الشراكة الوطنية" وواعظ السلطان!

حمـيد الخاقاني

يرى السيد حسين أن الحكومة الحالية هي "حكومة المشاركة الوطنية"، وليست بـ"حكومة محاصصة"، وما تسميتي لها بهذا الاسم (لقد رأينا أن أطرافها نفسها تسمّيها هكذا أيضا) إلا للحطّ من قيمتها، ولتبرير "صبّ اللعنات عليها".

من ناحيتي لا أسعى في كتابتي لصبّ اللعنات على شيئ أو شخص ما، قدرَ سعيي للاجتهاد في منح الأشياء والظواهر ما أراه أنه صفاتها.

أعتقد، مرة أخرى، أن السيد حسين نظرَ إلى شعار "الشراكة الوطنية"، وسمِع به فصدّقه، دون أن ينظرَ إلى الحياة وتجارب ساسة "المشاركة" وما أتتنا به حكوماتهم في السنوات الماضية من ثمار مُرَة، وهي جميعُها (الحكومات) حملت، كما يعرف السيد حسين، نعتَ "وطنية" كذلك.

يبدو لي أن السيد حسين شغوفٌ بتصديق ما يظنّه "خطاباً جميلاً"، كأنه ذلك الواعظ يُطلق أحكامه بلهجة الواثق، المُصدّقِ بما يقوله سلطانه، حتى لو كذَّبت الحياةُ وتجاربُها قولَ السلطان هذا!

ومثلما ناقض السيد حسين نفسَه في موضوع "المحاصصة الطائفية" فوصفها بأنها "شرٌّ" و"تخندقٌ طائفي وإثني" يعاني منه الناس، يعود هنا إلى تناقض مشابه كذلك!

في ختام نقده لكتابتي يذكر الاستاذ حسين ما يلي: "نعم، الحكومة الحالية ليست مثالية كما نتمنى أن تكون، ولكن في الظروف الراهنة، هذا هو الممكن، فإما أن تكون بهذا الشكل أو لا تكون". وفي مقالة أخرى له بعنوان (التظاهرات كعلاج نفسي)، غريبة العنوان والمتن كذلك، نًشِرت في (الحوار المتمدن) بعد ثلاثة شهور من ردّه على مقالتي، نراه يذهب لتكرار ما أورده هنا فيقول: "لا ندعي أن الحكومةَ الحالية مثالية، ولا يمكنها أن تكون كذلك في الظروف الراهنة بعد أربعين عاما من الخراب البشري والاقتصادي الشامل، خاصة حكومة مترهلة غير منسجمة مؤلفة من 42 حقيبة وزارية الغرض من هذا العدد إرضاء العدد الكبير من الكيانات السياسية المشاركة في السلطة. وليس هناك كيان يقبل أن يكون خارج السلطة أو يقود معارضة ديمقراطية تحت قبة البرلمان. إن الوضع العراقي الشائك المعقد هو الذي فرض هكذا حكومة، فإما أن تكون بهذا الشكل أو لا تكون".

أمن الوطنية حقاً أن نُهدِيَ هذا البلدَ المُخَرَّبَ وشعبَه المُبْتَلى "حكومة مترهلة غير منسجمة" كهذه؟ ألا تبدو هذه الحكومةُ، في الأساس،"هديةَ" الساسة لأنفسهم، يُرضون بها بعضَهم بعضاً؟ فكيف يصبح نقدي، ياسيد حسين، ونقد سواي لها، حطّاً من قيمتها، وقد حطَّ ترهلُها وعدمُ انسجامها، في الأصل، فضلاً عن طابع المحاصصة فيها، من قيمتها ومن شرعيتها معاً؟

ألا تؤخَذ الأمور هكذا في الديمقراطيات الصحيحة؟

لقد وجد أهل "الحكومة المترهلة" أنفسَهم مُجبَرين، بعد حركة الاحتجاجات وضغط الشارع، رغم محدودية هذه الحركة حتى الآن، على "ترشيق الترهّل"، وتظل معضلة "عدم الانسجام"!

مرة أخرى يُلقي السيد حسين سوء النتائج وتبعاتها على "الوضع العراقي الشائك المعقد"، وعلى الخراب القديم، ولا يرى للساسة المتنفذين مسؤولية في مُراكمة خراب جديد على الأول، وتكريس هذا الوضع المعقد عبرَ اختيارهم لنهج "المحاصصة الطائفية ـ الاثنية" وحرصهم عليه، وتصويرهم إياه للناس، يُعينُهم في هذا وعاظهم وكتبتُهم، بأن "شرٌّ لا بدَّ منه!".

هل صاغت "الظروف الموضوعية التي أوجدتها الحكومات الطائفية المتعاقبة قبل 2003"، مثلما يذكر في مقالته (التظاهرات كعلاج نفسي)، للعراقيين دستورهم الجديد الذي يقول عنه رئيس الوزراء، مثلاً، أنه "أنتج حكومة على أساس طائفي وقومي"، أم أن ساسة "الظروف الجديدة" هم من تولّى صياغته، وزرع فيه "ألغاماً بدأت تتفجر وليس حقوقاً"، كما ذكر رئيس الوزراء نفسه؟  

ألا يُدرك السيد حسين، ومعه من يُنافح عنهم من الساسة، أن الخروج من الأوضاع الشائكةُ المعقدةُ لا يتحقق باختيار دساتير وصيغ حُكمٍ وأنظمة سياسية وفكرية تُكرّسُها أو تبررها، وإنما بالذهاب، ومنذ اللحظة الأولى، إلى صيغ تضع الأسسَ الصحيحة لتجاوزها في الميادين كافة؟.

كان هذا خيار عقلاء الساسة في بلدان كثيرة عاشت، في تاريخها، تجارب وأحوالاً تتشابه وأحوالَنا بمقادير مختلفة.

البقاء عند "المحاصصة"، والتشبثُ بالحكم على هديِها، هما ما يؤديان إلى "حكومة مترهلة غير منسجمة" ويجعلان من ترهّلها هذا ترضيةً لشراكة يُراد لها أن تظلَّ "طائفية ـ اثنية"، وليس إرضاءً لمصالح الوطن وحاجات أهله الحقيقية.

وهذا الاختيار ليس خيار الناس، ولا هو اختيار "الوضع العراقي الشائك"، بل خيار الساسة الساعين للسلطة على ظهور الطوائف، الخائفين من/ أو العاجزين عن حلّ التناقض بين ضيق الأفق الطائفي وسعة الآفاق الوطنية.

ومن هنا يُصبح الحديث عن أن ما أعطانا وضعُنا العراقي الشائك هو خير الممكن، وأن الحكومة الحالية "إما أن تكون بهذا الشكل أو لا تكون" وأن ما ينتظرنا بعدَها هو أسوأ السوء، أقول يصبح هذا النوع من الحديث تمويهاً على الناس، وخداعاً لهم، ودعوة لاستسلامهم لما يُصَوَّر لهم أنه أقدارُهم، وأنه "نتاجُ التاريخ والجغرافيا"، مثلما يتوهم كاتب (التظاهرات كعلاج نفسي).

ولست أظن أن السيد حسين، إذا ما عاد لقراءة العلامة الوردي بروية ووعي، سيجد لديه دوراً آخر لـ"وعاظ السلاطين" غير الوعظ بمثل هذه الأحاديث.

مثل هذا الحديث يقول به الساسةُ المتحاصصون كذلك. ولا أظننا بانتظار حديث آخر، مختلف، منهم، فهم من اختاروا هذا السبيل الشائك، وأخذوا الناس إليه، ولم يبق لهم غير أن يجدوا له ذرائع خارجهم، ويتِمَّ تسجيلُ جريمة "المحاصصة" وآثار آفاتها على "مجهول"، كما هو الحال دائماً!

في الثاني والعشرين من آب الفائت ألقى رئيس الوزراء كلمة أمام "نخبة" من الإعلاميين ذكر فيها أنه لا يُنكر أن الحكومة تشكلت على أساس قومي ـ طائفي، وأن الشركاء في الحكومة والدولة يحملون حاسباتهم معهم ليحسبوا حصصهم بالسنتميترات، وأقرَّ بأن هذه " هي أبرز مشكلاتنا . . . ولا خيار لنا إلا بتشكيلها على هذا الأساس"!

هل حقاً أن خيار التحاصص هذا حالٌ لا مناص منه، أم أنه إرادةٌ واعيةٌ لدوافع ومشاريع محسوبةٍ طائفياً واثنياً وحزبياً، وحتى شخصياً، يتحمل مسؤوليتها من سعى إليها، وشارك فيها، وما يزال؟

لقد أغفل أهل المحاصصة أن أسوأ شيئ بالنسبة لشعب خرج لتوه من نظام حكم استبدادي، وأخطرَه عليه، هو أن نأتي له بنموذج سيئ في إدارة شؤون الحكم والدولة. فكيف وقد حفلت ممارسات المحتلين والحكومات المتعاقبة، منذ 2003، وكذلك علاقات الساسة وكتلهم مع بعضها البعض، وأشكال تفاعلهم مع مشكلات البلد والناس الحقيقية، بأمثلةٍ صارخة السوء

لا تُحصى؟!

وإذا ما عدنا إلى مثال حكومة "الشراكة الوطنية"، وحالُها أسوأ، في تقديري، من أحوال سابقاتها، نجد أنها، وبعد مضي أكثر من عام على ولادتها العسيرة، "شراكة مناصب وامتيازات" في المقام الأول، وأن شريكها الأول هو الفشل.

فهي ما كادت تقوم حتى بدأت (الصحيح استُؤنِفتْ) نزاعاتُ أطرافها، ولم تتوقف حتى الساعة. ولم يعد أحدٌ يؤمن، بما فيهم أطرافها، بـ"شراكتها الوطنية". ربما ما يزال السيد حسين وحده مؤمناً بهذا!

في 29 آذار الماضي نشرت (السومرية نيوز) تصريحاً لعزت الشابندر، من كتلة (دولة القانون)، قال فيه: "إن حكومة الشراكة الوطنية الحالية التي يضع المشاركون فيها رِجل في الحكم وأخرى في المعارضة مسرحيةٌ هزلية يجب أن تتوقف".

بعد ذلك بفترة قصيرة نقلت صحيفةُ (العالم) قولاً للنائب شاكر كتاب الذي كان ناطقاً باسم (العراقية) في حينها، ورد فيه:

"أساساً لا توجد حكومةُ شراكة وطنية، ومن يُعلنُ عكس ذلك فهو واهمٌ، أو يتعمد إيهامَ الآخرين".

وفي منتصف أيار الفائت، كما أذكر، أوردت (أور نيوز) تصريحاً للدكتور محمود عثمان من (التحالف الكردستاني) يصف فيه "حكومة الشراكة الوطنية بأنها وصفة أمريكية تحولت إلى باص لنقل الركاب"!

وقد بلغ الحالُ ببعض أطراف "الشراكة الوطنية" هذه أنْ صار يصف نزاعات شركائه الآخرين على مواقع النفوذ والتأثير بـ"التكالب!".

في مؤتمر صحفي له، سبق مغادرته لزيارة كوريا الجنوبية، شدد رئيس الوزراء، مثلاً، على "أنه لا يجوز وجود معارضة في الحكومة أو في البرلمان، مع وجود جميع القوى ممثَّلَة فيها". ثم أكد على "أن لا يتكالب الجميع لأخذ ما يريدون من الدولة لاستخدامه ضد الآخر".

وإلى مثل هذا ذهب النائب عن (التحالف الوطني) جمعة العطواني، في حديث له نشرته (آكانيوز) في 29 أيار الماضي، بعد استقالة السيد عبد المهدي من نيابة رئيس الجمهورية (هذه النيابة حصّة "المُكوّن" الشيعي. مع تشكيل حكومة الشراكة أصبحت لأحزابه حصّتان!) ذكر فيه أن "هناك مصالح حزبية تعالت على المصالح الوطنية". ثم أوضح انّ "التهافت والتكالبَ على السلطة أصبح ديدن العملية والقوى السياسية، فلا أستبعد أن تتقدم الكثير من القوى السياسية للحصول على هذه الغنيمة الباردة باستغلال منصب عبد المهدي"!

وفي رسالته إلى رئيس وأعضاء هيئة النزاهة البرلمانية اهتدى السيد رحيم العكيلي، رئيس هيئة النزاهة المستقيل، إلى استخدام لفظ "التكالب" نفسه، لتوصيف ظاهرة النهب في "العراق الجديد"، حيث قال: "إن التكالب على نهب أموال الدولة وعقاراتها هو الجزء غيرُ المُعلَن من الصراع على السلطة في العراق اليوم"!

وأظن أن السيد حسين، والناس عندنا، يعرفون بأن (التكالبُ) مُشتَقٌّ من (الكَلَب). وكما تذكر قواميس اللغة فإن (الكَلَب) داء يُشبه الجنون، يأخذ الكلابَ فتعضّ الناس فيكلِب الناس مثلها. ويُقال دهرٌ كلِبٌ بمعنى أنه يُلِحُّ على أهله بالشرّ والسوء.

ودهر العراقيين ما يزال كَلِباً عليهم منذ قرون.

وبهذا المعنى ورد اللفظُ في حديث للإمام علي (ع)، وقد كتب لابن عباس حين أخذ هذا من مال البصرة: "فلما رأيتَ الزمان على ابن عمك قد كَلِب، والعدوّ قد حَرِب". ويُنقَلُ عن الحسن البصري قوله: "إن الدنيا لما فُتِحت على أهلها كلِبوا عليها أشدَّ الكلَب"، أي حرِصوا عليها، وتمسكوا بها.

وإذا قيل تكالب القوم على شيئ، قصَدَ القائلُ أنهم تواثبوا عليه، مثلما تثبُ الضباعُ والذئاب (والكلب من سلالة الذئب) على فرائسها، تتناهش لحومَها.

فهل أراد من استخدم لفظ (التكالب) من ساسة البلاد هذا المعنى يا تُرى؟ وهل تقتصر حالة (التكالب) هذه على فريق دون آخر؟!

حماسةُ السيد حسين في الدفاع عن "حكومة شراكة" كهذه، قامت لفظاً ولم تَستَقِم معنىً، أخذته، مرة أخرى، إلى قراءة مأزومة لكتابتي، فإذا به يدُسُّ على لسانها ما لم يقلهُ لسانُها، ويُجانبُ الحقَّ والأمانةَ فيما وضعَه عليها وادَّعاه فيها. فصار يستنتج من نفسه ما يشاء، ويُلصِقُه بها (كتابتي) رغم أنه ليس منها. ويظهر ذلك جلياً في قوله عني: "إن إلغاء السيد الكاتب شرعيةَ الانتخابات وصناديق الاقتراع التي تشكلت من خلالها الحكومة، مخالف لقواعد الديمقراطية، ولكي يبرر عدم شرعية الحكومة وبالتالي اسقاطها، يلبس الحكومة ثوب ابليس فيصفها بأنها حكومة المحاصصة الطائفية".

لقد أشرت في حلقات مقالاتي الخمس هذه إلى ظواهر وممارسات في أساس تشكيل هذه الحكومة وحركتها، وعلاقات أطرافها ببعضهم البعض، تؤدي جميعها، بالنتيجة وفي نظام ديمقراطي حقيقي، إلى عدم شرعيتها، خاصة ما يتعلق منها بمخالفة الدستور الذي لا يُبيح تقاسمَ السلطة أو"التوازن" في وظائف الدولة على أساس طائفي ـ اثني. لكنَّ كتابتي التي يناقشها السيد حسين لم تتناول، في حينها، موضوعَ الانتخابات وشرعيتها، وما نتج عنها أبداً، ولم تُشِر إليهما، من قريب أو بعيد، حتى يَشُطَّ بمخيلتِه إلى وهم "الإلغاء" هذا، ومخالفةِ ما يُسمّيه قواعد الديمقراطية!

ومن ناحيتي أؤمن بأن حريةَ بلدٍ ما، وديمقراطيته، لا تتحققان فعلياً إلا بحرية مواطنيه واستقلاليتهم أفراداً وجماعات، وأن "ديمقراطيةَ" الاستقاطابات الطائفية ـ الاثنية والقبلية، تظل، بهذا المعنى، "ديمقراطية" شكلانية، خادعة، ستأخذ الناس يوماً، إذا ما تكرَّست، إلى نظام استبداد سياسي ـ فكري، بآليات انتخابية. جارتنا الشرقية مثالٌ ساطع على ذلك.

الديمقراطية الحقيقية لا تتأسس، في رأيي، بمقادير ما يسمح به العقل التقليدي وثقافتُه، إذ كلما أبقيت على ما يُحجِّرُ التبعيةَ والطاعةَ والخضوعَ، وهي سمات بنيوية في الثقافة التقليدية دينياً، وسياسياً واجتماعياً، كلما تسعت مسافةُ البُعد بينك وبين الحرية والديمقراطية، وبالتالي بينك وبين الحياة الحقيقية. أقول رغم وعيي هذا للديمقراطية وقواعدها إلا أنني لم أقصد،

لا لفظاً ولا معنىً، "إلغاءَ شرعية الانتخابات وصناديق الاقتراع التي تشكلت من خلالها هذه الحكومة". ربما لأنني أرى أن "الانتخاب"، حتى في مثل هذه الظروف، أقل سوء من اللانتخاب، على الأقل أن يبدأ الناس، حتى الراسفين منهم في أغلال التبعية، بالتفكير في مسؤولياتهم إزاء من اختاروهم لتمثيلهم. مثل هذه الرؤية لا تأخذني، بالطبع، لمديح هذه الأحوال، وقبول ما نتج عنها، وإغفال مخاطره، وهو ما أسعى للكتابة فيه على قدر اجتهادي وطاقتي.

ولكن لا دهشةَ في أن يُلصقَ السيد حسين بمقالتي ما ليس منها، فللقراءات المأزومة منطقها الخالي من المنطق والعقل. فهي تبحث، عادةً، في النصوص والشخوص والأشياء عموماً، عما يلائمها، ويطابق، أو يقارب مقولات أصحابها، فتهلل له. ويطير صوابُها، كأنَّ صاعقةً أصابتها، إذا ما عثرت فيها على ما يخالفها، أو ما لا يشاطرها الإيمان بحقائقها، فيركبها الغضبُ متلبساً صاحبَها، مُرسلاً إياه في متاهات الوهم والظَنّ والتقويل وإطلاق الأحكام على عواهنها. مثل هذه السمات تتجلى في مقالة السيد حسين هذه، وعلى نحوٍ أوضح في مقالتين أخريين له (لم أقرأ له إلى النهاية غير هذه الثلاث)، هما (يسيرون نحو الهاوية وهم نيام) و (التظاهرات كعلاج نفسي).

منطق القراءة المأزومة هذه يقوم على اختلاق أنني قمت أولاً بـ"إلغاء شرعية الانتخابات"، وذهبت ثانياً إلى إلباس "الحكومة ثوب إبليس" حين وصفتها بـ" حكومة المحاصصة الطائفية"، وذلك لكي أبرر، ثالثاً، عدم شرعيتها، و"بالتالي إسقاطَها"!

أرى أن "شرعيةَ" الحكومة الحالية قد سلبَها عنها المتشاركون فيها جميعاً، عبر صراعاتهم الدائمة، ووقوفهم، إلى اليوم، عند ما بدأوا به منها، فضلاً عن أشياء أخرى أساسية أشرتُ لها في هذه الحلقة، وما سبقها، من هذا الجدل. كما أنني لم أُلقِ بنفسي على الحكومة "ثوب إبليس" لترتديه. منظومة أحزابها الفكرية ـ السياسية، وثقافةُ سياسييها ومشاريعهم، هي التي زيَّنت لها، في الحقيقة، هذا الرداء وألبستها إياه. وإذا ما كانت المحاصصة الطائفية "ثوب إبليس"، وهو ما أتطابق فيه مع السيد حسين تماماً، فإن ساسة حكومة "المشاركة الوطنية" أنفسهم، كما أوردتُ عنهم، يشكونَ هذه "المحاصصة" ويصبون لعناتهم عليها. أما لماذا لا يخلعون عن حكومتهم "ثوب ابليسها" هذا الذي يشكونه، فهو أمر أعلمه، ولا أعلمه!. ولعل السيد حسين يأتينا، يوماً، بالخبر اليقين عن هذا الأمر العجيب كذلك، فنكونَ له شاكرين!

لقد رأينا أن السيد حسين قد وصف "المحاصصة"، مرة، بأنها "شرٌّ". والشرُّ، كما نعرف، هوالشيطان عينُه، سواء سكنَ الإنسانَ، أو تسلل إليه من خارجه. و"إبليس" هو الشيطان نفسه، كما يعرف السيد حسين، وهو مصدرُ "الشرِّ" وصِنوهُ،

لا فرقَ إن ظهرَ بهذه التسمية أو تلك. وعلى ضوء هذا المنطق العقلاني، كما أرى، فإن السيد حسين، نفسُه، قد ألبسَ الحكومةَ التي يقول عنها ساساتها، وتنطِق به ممارساتها، أنها حكومة محاصصة، "ثوبَ إبليس"، فـ"المحاصصة شرٌّ" وإبليس شرٌّ هو الآخر.

فهل يريد ساسةَ السلطة، والسيد حسين معهم، حسبَ منطق قراءته المأزومة، إذن، إلغاءَ شرعية الحكومة وإسقاطها، دون أن يعوا ذلك؟!

يبدو لي أن السيد حسين، وهو يتحدث عن نيَّتي في أسقاط الحكومة، أشبه بـ"قارئة وَدَعٍ" أو "فتّاح فال" يأخذ ما يخطر له ويُطلقه آراء قاطعة، لا يأتيها الشك من دُبُر، ولا من قُبُل!. ولكن يجدرُ بي أن أذكرَ له، بامتنان هنا، أنه آثر الرأفةَ بي، والحمد لله، إذ لم يكشفْ "خطتي" لأسقاط الحكومة، ويفضح "ساعة الصفر" فيها، ويُسمّي عناصرها وأدواتها، وما هيَّأْته لنجاحها، سوية مع ديمقراطيين علمانيين آخرين، من "أدعية" و"حروزٍ" علمانية تشدُّ من أزرها، وتعينها على الظَفَر بما تنشد!

أعتقد أن ما ذكرته، في "جدلي" هذا مع نمط التفكير الذي يسمُ تناولَ السيد حسين للظواهر والأحداث والآراء، وهو ليس نمطٌ خاص به وحده بالطبع، وما أشرتُ له من "شرعية" الحكومة، أو عدمها، يصحُّ على فرضية "الإسقاط" التي يذكرها.

أقول، وبعد مُضيّ ما يزيد على عام من تشكيل هذه الحكومة، أن حالةَ النزاعات الدائمة، والمرواحة، سياسياً، واقتصادياً، وخدمياً، في المكان ذاته، واتساع الفساد والتستر على وزراء ومسؤولين كبار فاسدين، ما داموا من الموالين، واستخدام المال العام لأغراض حزبية وشخصية، وإقطاع عقارات الدولة للأصحاب بأثمان بخسة، واستقدام المحاسيب وذوي القربى السياسية والطائفية والقبلية والحزبية، لارتقاء المناصب، واستمرار الفشل في حماية أرواح الناس وأملالكهم، من الارهاب وعصابات الجريمة المنظمة، وتواصل اغتيال موظفين في الدولة من قادة جيش وشرطة، وكذلك من الأكاديميين والإعلاميين، من ذوي الألسنة النقدية، وتسجيل جرائم قتل الكثيرين منهم على ذمة مجهول ـ معلوم، ودون نشر أية نتائج، لأية تحقيقات جرت بشأن مثل هذه الجرائم وسواها، رغم وعود الحكومة المتوالية في هذه الصدد، كلُّ ذلك، أو حتى قليلٌ منه، يكفي، ديمقراطياً، لإسقاط هذه الحكومة باستقالتها، أو سحب الثقة منها، أو عبر ضغط الشارع عليها، وإعادة الوديعة لأهلها، للناخبين. وهذه جميعها، كما يعرف السيد حسين، وسائل شرعية في أية ديمقراطية صحيحة.

فلماذا يلجأ "ديمقراطيون!"، إذن، إلى تخويف الناس، وإرعابهم، من احتمال استقالة حكومة ما، أو إسقاطها بوسائل ديمقراطية!؟

هل مصائر البلاد والناس مرهونة بمصير حكومة بعينها لا غير؟ وهل أصبحت الحكومات، ومناصب ساستها، أهمّ وأغلى من الأوطان والشعوب ومستقبل أجيالها، يا سيد حسين؟   

سوف أشير إلى قضية واحدة فقط، غير هذه التي ذكرتها، كان ينبغي أن تكون كافية، في أحوال الديمقراطية والوعي الديمقراطي، ويقظة الضمير الوطني والديني الحقيقييَن على السواء، لإلغاء شرعية هذه الحكومة، وصدقية هؤلاء الساسة، وأعني بها "ماراثون" الشهور الثمانية من الحوار والنقاشات والوساطات التي سبقت تشكيل "حكومة الشراكة الوطنية" هذه.

ثمانيةُ شهور والناس تتابع، مقطَّعَةَ الأنفاس، مناورات منِ انتخبوهم وألاعيبَهم، واتهاماتهم لبعضهم البعض. ثمانية شهور واصلَ الموتُ فيها إزهاق أرواح الناس دون أن يكون لهذا أثر في تطييب نوايا الساسة وتطهيرها، وتوجيهَ بَوصلاتِ مصالحهم نحو مصالح الوطن وأهله.

ثمانية شهور والزمن يفلتُ من أيدي الناس، في وقت تتهارش فيه "نخبُهم" السياسية على مواقع الحكم وامتيازاته، غيرَ مكترثة بحقيقة أن الزمان لا يُشفق على من لا إحساس له به. يدعَه واقفاً، أو نائماً، في مكانه ويمضي عنه مواصلاً حركته الهادرة.

ثمانية شهور أوقفوا فيها زمن العراقيين، وأخذوه معهم إلى كواليس جدالاتهم، واتفاقاتهم التي ظهر، فيما بعد، أنها عقيمة، خالية من المعنى، لم يروا خلالها، ولا بعدَها، أن الزمن هو زمن البلاد وأهلها، زمن حاضرها وغدها، وليس لأحد، أياً كان، أن يوقفَه، أو يسمح له بالحركة على إيقاع مصالحه هو وفرقته. كما أنهم لم يدركوا أن حركةَ التاريخ، حركةَ الزمان،

لا تعرف التوقف، وليس لها محطات استراحة أبداً. اليوم الذي يذهب ضائعاً، دون معنى، لا يعود البتةَ، مثلما حركةُ الفصول تمضي ولا تلتفتُ لمن يتأخر في بذاره عنها.

لقد كتب صاحب (نوبل) للأدب، الكولومبي ماركيز، لأصدقائه وهو على فراش مرض قاتل: "إن كل لحظة نغلق فيها أعيننا، تعني خسارةَ ستين ثانية من النور . . . . سوف أمضي فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلُّ نيام".

فكيف بنا نحن، وعيون الكثيرين منا مقفلةٌ، أو مفتوحة لا فرقَ، على ظلمة دامسة؟

تلك الشهور الثمانية، ظلوا يلتقون فيها ويتحاورون، دون أن يسمع أحدهم الآخر، كما يبدو. زفّوا للناس، في نهايتها، بشرى توافقهم على ما أسموه "حكومة شراكة وطنية"، فصدّقهم الكثيرون، وخرج البعض يرقص فرحاً لهذه البشرى، ظاناً أن وقت النزاعات الطويلة قد مضى، وأن "النخبَ" اهتدت إلى الوطن وحاجات أهله، ولكن ما إن أتى الصباح، وسكتت "شهرزاد" عن الكلام المباح، حتى عاد القوم إلى "سولَتِهم"، عاداتاهم السيئة في التنازع، وكأن حوار الشهور الثمانية الضائعة لم يكن سوى "حوار طرشان"، وظلَّ الواحد منهم يرى، بعده، في "شريكه" غريماً، ينظرُ إليه من "ثقب" مصالحه الضيقة.

ألا يعتقد السيد حسين أن هذا الأمر يكفي وحده، وطنياً، وأخلاقياً، وديمقراطياً، ودينياً كذلك، لاستقالة مثل هذه الحكومة، وتفويض الناس شأنَ ما بعدها؟

استقالةُ حكومة ما، أو اسقاطُها ليس مأساةً يا سيد حسين، فسقوط الجدران الخربةُ التي تحجب الرؤيةَ، وتعطل حركة الحياة، لا يبعث على الخوف، ولا يُفزعُ غيرَ من يستظل بظلِّها. الحكومات تأتي وتذهب، ياسيد حسين، أما الكارثةُ الحقيقية فهي أن ييأس الناس ويضيعَ أملهم في المستقبل.

ثم أنني أرى، ولك أن تفزعَ أكثر، أن سقوط الحكومات، وحتى الأنظمة، لا يكفي وحده دائماً. سقوط حكومة مبارك وزين العابدين وغيرهما ربما، لا يكفي، في تقديري، على أهمية مثل السقوط. الأكثر أهميةً ومصيريةً لبلداننا وشعوبها هو، في اعتقادي، تجاوز المنظومة الثقافية ـ الاجتماعية التي أنتجت هذه الأنظمة، وأتت بهذه الحكومات. هذه المنظومة هي ذاتها من تجعل غير القليل من ضحايا الظلم والاستبداد توائمَ لظالميها، تُعيد بهم دورة الاستبداد والتخلف، وتأخذ أصحابها، في افرازاتها المتشددة والتكفيرية خاصةً، إلى توصيف قتلة الناس "مقاتلين" لأجل الحق، "مجاهدين" في سبيل الله!

لستُ أدري ما هي مصادرُ قراءة السيد حسين المأزومة لكتابتي. أهي القراءة العجولة وعقليتها ومنهجها؟ أم هو الحكم المُسبق وآثاره القادمة من خارج النص المنقود؟ أم أنه الإيحاء الآتي للناقد من مكان ما خارجه؟

لكنني، وبمعزل عن هذه الأسئلة وإجاباتها المحتمَلَة، استطيع القولَ، استناداً لكتابته، بأن من لا يُجيد قراءةَ الوردي يُسيئُ قراءة غيره. فلقد جمع السيد حسين في تناوله لكتابتي ناقدَ السلطة بواعظها، وهو جمعٌ غير موفَّق أبداً. ولو تمعَّن فيما قاله استاذنا الوردي عن "واعظ السلطان" لوجد أنه يذكر، مثلاً، "إن مشكلة الوعاظ عندنا أنهم يأخذون جانب الحاكم ويحاربون المحكوم" (وعاظ السلاطين، ص 12). وفي موقع آخر من كتابه هذا (ص 11) يقول الوردي: "ويُخَيل لي أن الطغاة وجدوا في الواعظين خير معوان لهم على إلهاء رعاياهم وتخديرهم". فهل نقد السلطة، أيةَ سلطة كانت، إلهاء لرعاياها وتخدير لهم، أم هو سعي لإيقاظهم، وإيقاظها معهم؟ ألا يبدو الترويج، مثلاً، لمقولة "إن الوضع العراقي الشائك المعقد هو الذي فرض هكذا حكومة، فإما أن تكون بهذا الشكل أو لا تكون" نوعاً من محاولة لتدجين الرعايا وتخديرهم، ودعوتهم لقبول الأحول على سوئها، وتعطيل وعيهم بحقائقها؟

ثم ألا يجد السيد حسين صلة بين ما يذكره العلامة الوردي (ص 12) عن منطق الواعظ الأفلاطوني الذي يقول للناس :

"لقد ظلمتم أنفسكم وبحثتم عن حتفكم بظلفكم"، وبين مقالته التي يرى فيها أن المتظاهرين لإصلاح الحال "يسيرون نحو الهاوية وهم نيام"!؟

ليس لي في ختام جدلي المتأخر هذا مع السيد عبد الخالق حسين غير أن أوردَ جملةً ذكرها هو، فأقول له بلسانه، هذه المرةَ،

"لا بد لهذه الجماهير أن تستيقظَ يوماً فتصب اللعنة على من خدعها" ، آملاً له أن لا يكون من بين هؤلاء الخادعين الملعونين، وهم كثرٌ والعياذ بالله.



جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (4)  "الطائفية السياسية" صناعةُ عقليات مُغلَقَة لمجتمعات مُغلَقَة
جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (3) في شـرور الطائفـية ومحاصصاتها
جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (2) في هويـة الدولــة وعلاقتـها بالناس
جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (1) نقـد السـلطة أم العـداء لهـا؟






 


 

free web counter