| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حميد الخاقاني

 

 

 

الخميس 13/10/ 2011



جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (4)

 "الطائفية السياسية" صناعةُ عقليات مُغلَقَة لمجتمعات مُغلَقَة

حمـيد الخاقاني

المثير للاستغراب أن السيد حسين، في الوقت الذي يعيبُ فيه عليَّ، وعلى كثيرين سواي، نقدَنا للمحاصصة الطائفية ـ الإثنية وساستها، يشيرُ نفسه، في كتابات له،على سبيل المثال، إلى "أن الشعب ما يزال يعاني من التخندق الطائفي والإثني".

ألا تستدعي معاناة الشعب، والوطن بالتالي، من هذا التخندق نقدَه ونقدَ من حفرَ خنادقَه، يا سيد حسين،، خاصة وأنه قد امتد إلى السياسة، وطبعها بطابعه؟

وفي رد له على الدكتور كاظم حبيب يؤكد السيد حسين بـ"أن المحاصصة شر لا بد منه في المرحلة الراهنة". هذان المثالان وحدهما يبعثان على الضحك من وصفه نقدَ غيره لهذه "المحاصصة ـ الشر" بـ"النغمة النشاز"، في وقت يعزف فيه، هو نفسُه، النغمةَ ذاتَها.

ألا يعرف هذا الرجلُ ما كتبه أو قاله لحظةَ الكتابة عمن يخالفه الرأي، أم أنه مسكونٌ بنقد من لا يتطابق معه لأجل النقد كما يبدو!؟

أوافق السيد حسين على أن "المحاصصةَ شرّ". هذا أمر قلناه ونقوله دائماً. لكنني لا أتطابق معه في أنها "شرٌّ لا بد منه". هي، في الحقيقة، شرٌّ منه ألفُ بُدٍّ وبُدّ.
يحق للسيد حسين ولغيره، بالطبع، أن يعتقدوا بأن "المحاصصة الطائفية ـ الإثنية" قدرُ العراق وأهله، وأن لا مفرَّ لنا منها، ولا مخرجَ للناس إلا بقبولها، والصبر عليها في هذه المرحلة، كما يقولون. ولكن لِيَدَعوا لغيرهم الحقَّ، أيضاً، في أن لا يروا في هذا "الشر" قدراً لا محيص عنه، لأنه، في حقيقته، قدرٌ خادعٌ، مصنوعٌ، لم يطلبه الناس، بسطاؤهم خاصة، ومن أتباع المذاهب جميعها، وانما اصطنعه لهم ساسةٌ طلبوا السلطان به، جاعلين من المذاهب والأديان وإيمان الناس بها آلةً لطلب السلطة وسحر دنياها ( المال، الجاه، النفوذ، التسيّد على الناس والتحكّم بمصائر البلاد، واصطياد مُتَع الدنيا . . وغيرها).
ثمّ أن هذا القدرَ المُصطنَع لم يأتِ للبلد وأهله، المؤمنين منهم بقصص المذاهب ومقولاتها، وغير المؤمنين كذلك، بغير الوبال والشرور. تجارب السنوات الثمان الماضية لا تقول لنا غير هذا.

فالدولة التي ينبغي أن تكون دولة قانون مدنية، ودولةَ مواطنة كاملة، تدير شؤون البلد وتخدم أهله بتكليف منهم، وتتعامل معهم بحيادية وفق القانون، وتحترم عقائدهم ومقدساتهم وخياراتهم الدينية والفكرية والسياسية دونما أي تمييز بينهم، لا يُمكنها أن تحافظ على صفاتها هذه، وتقوم بوظائفها الوطنية كما ينبغي، وهي دولةُ "اقطاعيات" طائفية واثنية. فالهوى الطائفي ـ الاثني، الغالبُ الحاضرُ في وزارات الحكومة ومؤسسات الدولة يجلس متربعاً، على الدوام، بين وزير هذه الطائفة أوتلك، وموظف هذه الفرقة أو تلك، وبين واجبه المدني والوطني الذي يتلقى لأجله أجرَه، هنا في الدنيا، وهناك في الآخرة.

لم يعد من النادر، مثلاً، أن يسأل الوزير الطائفي من يتقدم من الناس، حتى العلماء منهم، للحصول على وظيفة ما: رئيس جامعة، عميد كلية، أو مدير عام، وغيرها من الوظائف، عن "شيعية" هذا المُتقدمُ أو "سنيًّته". وإذا ما كان أحد والديه من هذه الطائفة، والآخر من تلك، واحتار المواطن (التكنوقراط) بماذا يُجيب، حرص الوزير "الوطني!" على معرفةِ إلى أي الوالدين يميل المتقدم مذهبياً!. ولا ينسى مثل هذا الوزير أن يذكر أمام المواطن (التكنوقراط) حزبَه الحاكمَ، أو المشاركَ في الحكم، داعياً إياه، تصريحاً أو تلميحاً، إلى أن يطرق أبوابه كي ينعم بخير الوظيفة مُطمئناً، هادئاً!. وغالباً ما يحدث أن يخرج الوزير، أو المسؤول "الطائفي"، بعد أمثال هذه المقابلات، إلى الملأ وقد طلى لسانه بحلاوة "الوطنية" و"المدنية" وبلاغتهما!

لقد بلغ الأمر، وفي حالات كثيرة، أن شقَّ على المسؤول الطائفي أن ينظر بعين العدل والمساواة لضحايا الطغيان، حتى الشهداء منهم، ما داموا من طائفة مخالفة، أو من تيار فكري وسياسي مغاير. وكلنا نعرف أنَّ من يعجز عن العدل بين الضحايا والشهداء لن يكون عادلا مع غيرهم، ويدعَ حقوقَ الناس تمضي إليهم، دون حسبان لانتماءات دينية أو طائفية أو قومية أو فكرية.

في ظل العصبيات والاستقطابات الطائفية والقومية، والانشداد إلى قيم التخلف و"ثقافته"، تظل الاستقلالية الوطنية لوزراء الطوائف والأعراق وموظفيها مُفتَرضة، غير مُتحققة إلا نادراً. في مثل هذه الأحوال يزداد حبلُ السُرَّة الطائفي ـ الاثني لديهم متانةً، في حين يضعف حبل السرة الوطني، أوحتى ينقطعُ.

هذه الظاهرة يضع السياسي العراقي (محمود عثمان) يده عليها في لقاء له مع صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية، في الخامس من شهر أيلول الماضي، يقول فيه :"العراق اليوم هو عراق الكُتَل وليس عراق المواطن ولا عراق المؤسسات ولا عراق الدستور، بل عراق الكتَل التي تتحكم بكل شيئ، وهي كتلٌ مختلفة فيما بينها، وتُفضّل مصلحتها الخاصة على مصلحة البلد والمصلحة العامة".

الوطن والدولةُ إذن عليلان مٌمدَّدان في أسرة الكتل. كل واحدة منها لها قطعتها منهما، وجميعها تتخاصم لتأمين نفوذها على ما حصلت عليه وتوسيعه.
ألا يُحيلُنا هذا، يا سيد حسين، إلى ما أشرتُ إليه، في الحلقة الثانية من مقالاتي هذه، عن حالات يصادر فيها الحكام الوطنَ والدولةَ على السواء، ويدفعون الناس إلى الاغتراب عنهما؟

المحاصصة الطائفية ـ الإثنية ليست نتيجة لتجارب الماضي المريرة، وسواد الشكوك بين الفرق والجماعات فقط، وإنما هي تعبيرٌ عن عصبيات مشغولة بنفسها فقط، وبمنظومتها الفكرية وهويتها الفرعية، واعتقادها بامتلاك الحق والحقيقة مطلقاً، سواء تعلق الأمر بالدين أم بالسياسة. عصبياتٌ كهذه، شأن غيرها من العصبيات، لا تفرزها إلا أيديولوجيات وأنماطُ تفكير مغلقة، ولا تُنتِج هي بدورها إلا مجتمعاً مغلَقاً. وتجارب العقليات المغلقة هذه غير صالحة، أبداً، للمجتمع التعددي المفتوح ولدولته الديمقراطية المدنية المنشودة، دولة الحريات والمساواة الكاملة والعدالة، وغير قادرة على بنائه.
هذه الدولة التي يتحدثون عنها وكأنها قائمة تظل، مع هذا النمط من التفكير وتطبيقاته، غائبة في الحقيقة، منزوية في وحدتها، حبيسةَ مواد دستورية لا تجد سبيلها للحياة. تظل كلاماً، حبراً على ورق، نوعاً من سخرية بائسة، تتردد أصداؤها بين جدران عقول مُغلقَة، ومجتمعات مغلقة كذلك!

عن مثل هذا المجتمع المُغلق وعقوله المماثلة له، وتشوُّهِ علاقة ناسه بالدولة، كتب (موسى عاصي)، أحد الناشطين في حملة إسقاط النظام الطائفي في لبنان، نصاً في ملحق صحيفة (النهار) البيروتية، في الرابع من نيسان الماضي، حمل عنوان (نريد دولة ننتمي إليها)، يذكر فيه: "كنا دائما أبناء طوائف، ندين بالولاء لزعماء كرّسوا أنفسهم أولياء أمورنا، فصاروا مع تراكم الترابط بالعلاقة ملاذنا الأخير، حماتَنا من بعضنا البعض ومصدر رزقنا، واستقرارنا. في ظل هذا النظام الذي اصطُلح على تسميته النظام الطائفي نمت علاقة بديلة بين المواطن والمؤسسة الطائفية على حساب العلاقة الطبيعية بين المواطن والدولة".

الأيديولوجيا المغلقة لا تريد مجتمعاً من أفراد أحرار ذوي وعي حرّ مستقل، ولا تُطيقُه بل تريد حشوداً مشدودة لها، متَّكئةً عليها، مطيعةً لأوامرها ولما توسوس لها به. آذان المواطن التابع، أو الحشد التابع، يجب أن تظل مفتوحة، على الدوام، لهمس العصبيات وساستها. ولا بدّ أن السيد حسين يعرف بأن الديمقراطية الحقيقية لا تنشأ وتتطور مع هذه العقلية وحشودها المطيعة. معها تحصل البلاد، في أفضل الأحوال، على ديمقراطية استقطابات طائفية وإثنية، لا تُنتِجُ انتخاباتُها غيرَ استقطابات مشابهة.

ولأن ما عندنا، في هذا المضمار، يُشبِهُ ما عند أهل لبنان، فدعونا نعود، ثانية، لما أورده (موسى عاصي) في كتابته المذكورة :"في ظل هذا النظام برز ارتباط عضوي بين الناس وطوائفهم، تحول مع الزمن ليصير علاقة تبعية خالصة، وصناديق الاقتراع تشهد على هذه التبعية".

وفي ظروف الجهل والتشدد وديمقراطية الاستقطابات هذه تُصبح الحشود التابعةُ جنودَ الحاكم وصاحب الأمر، أياً كان هذا الأمر، يغيرُ بهم، عند الحاجة، على خصومه ومخالفيه.
ألم تشهد ساحة التحرير عندنا مثل هذه الإغارة يوماً؟ ذلك المشهد لن يكون الأخير بالتأكيد. مطلعَ القرن الماضي (1901) أنار لنا المصلح الديني عبد الرحمن الكواكبي (1849 ـ 1902) في مؤلفه (طبائع الاستبداد) جدليةَ العلاقة بين الجهل والاستبداد.

المجيئ بالقسمة الطائفية ـ الإثنية إلى الحكم والدولة يضع الطوائف والأقوام، أي "المكونات" كما يقولون، في مواجهة بعضها البعض، على الدوام، وينقل معه إلى مؤسستي الحكم والدولة كلَّ هذا التاريخ المتوتر للعلاقة بين الطوائف وأزمته البنيوية القائمة على الثنائيات الحادة، والشكوك والانتقام لما يراه هذا الطرف أوذاك اغتصاباً للحقوق، وادعاء كل جماعة بأنها الأصدق إيماناً والأكثر قرباً إلى الله والأحرى بتمثيل الدين الحق، وهدايةِ الناس إلى الصراط المستقيم!.

وهكذا نجيئ باللامعقول (القسمة الطائفية ـ الإثنية) إلى ما لا يُمكن تسييرُه بغير العقل والمعقول (الحكم والدولة) فنفسده بما جئنا به إليه وهو ليس منه. أليس هذا ما نعيشه، بحدة، منذ أكثر من ثمان سنوات.

قد تجمع القسمةُ الأضدادَ على مأدبتها، لكن هذا الجمعَ لن يصبح، في ظل العصبيات والمصالح الضيقة وصراعات العقائد والتخلف، إجماعاً على الوطن ومصالحه، فضلاً عن أنها تُشرع الأبوابَ لتأثيرات الامتداد الطائفي الإقليمي ومنازعاته. كما أن مثل هذه القسمة تأخذ الناسَ، بمرور الأعوام، حتى لو لبست ثوبَ "التوازن" المهلهل، إلى انقسام شعبي وسياسي، فضلا عن الانقسام المذهبي الحاد القائم منذ قرون طويلة، أي أنها ستُهدينا انقساماً عمودياً ثلاثي الأبعاد، يظل يدور بنا في متاهة أزماته المتوالية.

هذا الانقسام الثلاثي الأبعاد، وردائفه الثقافية الطائفية في المجتمع والدولة، لا يدعان الشعبَ يصبحُ "شعباً" إلا في الظاهر، فهما يأخذانه إلى أن يكون "شعوب طوائف"، في النهاية، لا شعباً واحداً حقاً. وإذا ما أضفنا إلى ذلك توزّع "الشعب" على قبائل، والقبائل على الطوائف، وهما مؤسستان تقليديتان، تعود أولاهما إلى عصور ما قبل الدولة، نظاما وثقافة، استطعنا أن نقول بأن "الشعب الواحد" سيكون حاضراً في الخطاب السياسي فقط، لكنه غائبٌ في الحياة الحقيقة. مثل هذا يُمكن قوله عن الدولة المدنية كذلك.

كما أن هذا الانقسام الثلاثي الأبعاد وردائفه الثقافية سيؤديان بالنتيجة، وهو ما نرى ملامحه الآن، إلى نشوء مجتمعات متوازية في مجتمع واحد، لن يعود معها واحداً أبداً. مجتمعات مناطق أو أقاليم، يتباين فيها المُحَرَّم والجائزُ، ونُظم التعليم ومناهجه، والنظرة للمرأة، وقضايا الحريات، وتفسير التاريخ، خاصة الديني منه، وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وغيرها من الأمور. وهي مجتمعات مناطق أو أقاليم يقوم بعضها على أساس طائفي، تتحكم فيه تعاليم مذهب بعينه، وتضع له شروط حياته وتطوره اجتماعياً وسياسياً وثقافياً. ويقوم بعضها الآخر على اساس إثني. وبينها مجتمعات أفليات صغيرة، ستجد نفسها مأخوذةً، عنوةً، إلى انغلاق أشدّ، أو إلى هجرة جماعية مفروضة، حمايةً لوجودها المُهَدَّد على الدوام.

مُرَبٍّ وصاحبُ فكرٍ تنويري، هو اللبناني عمر فاخوري (1895 ـ 1946)، كتب عن مثل هذه الشرور، وهو يرى أحوال بلده، إذ ذكر، وقد شغله كيف ينهض قومُه، بأن الحالة الطائفية تجعل من الوطن الواحد أوطاناً، ومن الشعب الواحد شعوباً، إذ يصبح "بين المذهب والمذهب، وبين الجنس والجنس، من الحدود والحواجز ما يحتاج إلى جوازات سفرٍ، كأننا شعوب في شعب، وأوطان في وطن".

محاولة اشباع الحياة السياسية والاجتماعية بالبعد الطائفي، بحيث لا يعود هذا إيماناً خاصاً بالناس، ينشأ عن اجتهاد حر وخاص في الدين، قد يؤدي إلى إغناء الدين والفكر عموماً، بل يصبح نظاما سياسياً يفضي، في نهاية الأمر، إلى تقسيم "الشعب" والمجتمع، أو جَعل وحدتهما شكليةً وهشّة، في أفضل الأحول، قابلة للانكسار والتشظي في اللحظات الرخوة، وفي أوقات الأزمة خاصة. وما أكثر هذه الأوقات في أنظمة كهذه، وفي ظل عصبيات تفتح الأبواب واسعة للنزاعات والصراعات التي لا تتخذ طابعا سياسياً فحسب، بل تكتسب صبغة طائفية ـ دينية، يهبط معها "المقدّسُ" المُسَيَّسُ إلى الشوارع مُدجَّجاً بأسلحته الكثيرة ليتظافر هو والجهلُ على سواد الاستبداد، وإسباغ صفة "القدسية!" الخادعة عليه هذه المرة!

المُقدَّسُ الحقُّ والاستبداد، سواء تجلّى هذا الاستبداد في الحكم، في السياسة، في الاجتماع، في الفكر والثقافة، أو حتى في فرض الأديان والعقائد على الناس، ضدان لا يجتمعان. المقدس الحقُّ رحيمٌ، عادلٌ، جميلٌ، مُحبٌّ ومحبوبٌ، خالقٌ للحياة، لا يُقيمُ جدراناً عالية بين البشر، وإنما يدعُ لهم إعمالَ عقولهم فيما يختارون والمسؤوليةَ عنه. أما الاستبداد فوحشٌ بمخالب وأنياب حادة، لا يأتي معه بغير الموت والخراب حتى وهو يُلوّح براية "المقدّس" ويزعم النيابةَ عنه فيما يقوم به. ألم نر من يُبسْمل ويُكبِّرُ وهو يحزُّ أعناق أناس أبرياء ليذهب بعدها مُطمئناً لرضى "المُقدّس" عنه؟!

مثل هذا الاستبداد، سواء اختفى وراء الأديان أو المذاهب، أو لبس أقنعةَ الدفاع عن "الثورة"، أيةَ ثورة كانت، لا يستيقظ إلا مع أفول العقل، والرحمةِ، والعدلِ والجمال، والمحبةِ والحرياتِ والمساواة بين الناس، وغياب وعيهم بحقوقهم وحقائقِ أحوالهم وأحوال من يحكمهم، وانعقاد ألسنتهم عن قول الحق والعمل على إحقاقه مطلقاً، ولجميع الناس، حتى من يخالفونهم.

ولأنَّ تشويه "المقدّس" وإساءة توظيفه من قِبَل أهل السلطان يكاد يَسِمُ تاريخَ ربطه بالسلطة كلّه، فلا أظننا نذهب بعيداً إذا ما رأينا في خيار الدولة المدنية، العلمانية الديمقراطية، رحمةً ونعمةً من الله على أديانه وعلى الناس معاً، وتحريراً لها ولهم من براثن أباطرة وقياصرة وخلفاء ظالمين، وملوك وحكام ركبوها سبلاً للتحكم بالناس،وألبسوها قبيحَ وجوههم، وأرادوها، في الحقيقة، وسيلة لتثبيت سلطانهم بدعوى إقامة سلطان الله على الأرض. وهكذا منحوا العلاقة بين البشر، المؤمنين منهم بأديان الله وغير المؤمنين، لونَ الدم. حتى العلاقةً بين أبناء الدين الواحد والطائفة الواحدة والأمة الواحدة لم تكن بمنأى عن لون العلاقة الدموي هذا. تاريخ الأديان والمجتمعات جميعها حافلٌ بشواهد لا تُحصى على ذلك.

في محاضرة له حملت عنوان (التساهل الديني) ألقاها في نيويورك عام 1990 يضع الكاتب اللبناني أمين الريحاني (1876 ـ 1940) إساءةَ توظيف الدين وأبعاده الطائفية في تحقيق أطماع الحاملين لراياتهما، وتثبيت سلطانهم، موضعَ التساؤل، فيقول :" هل أوحيَ الدينُ ليساعدنا على الجشع والطمع والتحامل على أبناء جنسنا والإزدراء بهم؟ هل أوحي الدينُ ليكون سبباً للخصام والشقاق والقتال؟ هل أوحي الدين لتتسلحَ به فئة من الناس وتسلَه سيفاً على كلّ من لا يقرّ لها بالسلطة؟"(
نصوص وآراء، ص 153. بيروت 2002).
الريحاني يتحدث هنا عن تجارب مريرة عاشها وطنه وشعبه حتى قبل تكريس النظام الطائفي في لبنان دستورياً، وما يزال سجينَ دواماتها إلى يومنا هذا .

تجاربُ سوانا الكارثية وتجاربنا، فيما مضى وخلال السنوات الثمان الفائتة، تؤكد جميعها أنّ للبعد الديني ـ الطائفي خاصة، واعتماده هو ومصاحبه الإثني قاعدة للتحاصص في السلطة والدولة، له أبعاد مأساوية ووجودية تمس مصائر البلد والمجتمع، وتظل تهدد تعايشَ الناس فيهما مع بعضهم البعض.

تُرى هل يستيقظ الساسةُ المتنفذون على هذه الحقيقة، ويكونون، مرة واحدة في الأقل، عند ما يقولونه للناس ويَعِدونهم به؟ هل سيخرجون على أنفسهم، ويقومون بنقد حقيقي للذات (لم نسمعه منهم أبدا!) عما أتوا به للبلاد وأهلها؟ وهل سيفقهون، ما داموا يرون أنهم آباء الديمقراطية والمدنية والعقل عندنا، أن نقد الذات الصادق أمام النفس والملأ سمةٌ جوهرية في الديمقراطي الحق، وشرطٌ للتعلّم من الأخطاء، ومدخلٌ للخلاص مما أوقعوا أنفسَهم والناسَ معهم فيه؟
ولهم، بعد ذلك، أن يحاولوا الخروجَ صدقاً، وليس خطاباً كما يفعلون، على هذه المحاصصة، ويكفّوا عن الإتكاء فيها على البيئة والعقل الطائفيين والقبليَيْن، والصدور عنهما والتغذّي منهما والسكَن فيهما.
مثل هذا الخروج لا يعني، البتَّة، دعوةَ الساسة ،أو الناس عموماً، لمغادرة إيماناتهم المذهبية وارتباطاتهم الدينية، وهوياتهم الثقافية فهي حق لهم لا نزاع فيه، وإنما يُقصد منه الخروجُ بالوطن والدولة، والمجتمع بالتالي، من الفخاخ القاتلة التي أسقطها فيها هؤلاء الساسة على قاعدة القسمة إياها، ومحاولة تكريس ثقافتها ومنطقها بين الناس.

مجرد محاولة الخروج الجاد من هذه المآزق يشير إلى "شجاعة" و"ذكاء" من يحاول ذلك، أي شجاعة الراغب حقاً في بناء الحياة لجميع الناس وذكائه، لا حماقة الذاهب، قصداً أو جهلاً، إلى خراب الناس والحياة وغبائه.
فهل ثمة أملٌ يُرْجى في أن يُظهر لنا من ورَّطنا فيما نحن فيه "ذكاءَه" مرةً واحدة لا غير. أن ينتصر على نفسه، وضيق الأفق فيه، مرة واحدة فقط؟

يرى السيد حسين بأن نقدي، ونقدَ سواي، لظاهرة التحاصص الطائفي ـ الإثني، والدعوة لدولة المواطنة الكاملة بديلاً عنها، "لا يختلف كثيراً عن كلام وعاظ السلاطين"!، ويذكرُ بأنه "وفي حالة أقوال الاستاذ الخاقاني فإنها لا تتعارض مع تركيبة الشعب العراقي فحسب، بل وهي على الضدّ تماماً من قواعد الديمقراطية ودولة المواطنة للجميع التي يدعو إليها، أي لكل مواطن فيه (ذات الفرصة ونفس الحق) . ."

يحق، بالطبع، للأحزاب أو الكتل الفائزة في الانتخابات، حتى انتخابات الاستقطاب الطائفي ـ الإثني، أن تتوافق، إذا ما رغبت في تكوين ائتلافات حاكمة،على توزيع المقاعد الوزارية فيما بينها، ويكون لكل طرف منها حصتُّه فيها. هذا أمر يحدث في الديمقراطيات الحقيقية كذلك. وفي مثل هذه الأحوال، وهو ما يعرفه السيد حسين كما أعتقد، يُعاد توزيع المقاعد الوزارية الموجودة بين الأطراف المؤتلفة وفقاً لما تشغله من مقاعد في البرلمان، ولما تملكه من كفاءات للقيام بمهماتها الوزارية. ولكن لم يحدث في أية ديمقراطية من ديمقراطيات الدنيا، حتى "ديمقراطية" النظام الطائفي في لبنان، أن أدّى "الاستحقاق الانتخابي" للأحزاب أو الكتل المؤتلفة إلى انتفاخ مجالس الوزراء فيها، هكذا فجأة ودونما حاجة فعلية، ليزيد على 40 وزارة، ظل هؤلاء الساسة يتنازعون عليها أكثر من سبعة شهور، وما زالوا!. هذه الوزارات المُضافة لم تُختَرَع لخدمة الناس والوطن بل جيئَ بها، على حسابهما، لخدمة المحاصصة الطائفية ـ الإثنية وإرضاء ساستها.
عبر هذا الانتفاخ المضحك أصبحت الحصص الانتخابية المشروعة، في النظام الديمقراطي الصحيح،"غنائم" انتخابية في "ديمقراطية" الاستقطابات الطائفية ومحاصصاتها!

لقد استعان السيد حسين في ردّه على كتابتي، في هذا السياق، بأمثلة بلدان كإيطاليا وألمانيا وبريطانيا. فهل حدث في أحد هذه البلدان، أو سواها من الديمقراطيات، أن انتفخ مجلس وزرائها ارتباطاً بزيادة عدد الأحزاب المؤتلفة في الحكومة أو قلتها؟

هذه الفعلةُ تنفرد بها "ديمقراطية العراق الجديد" فقط، وهي تكشفُ عن "طينة" هذه الكُتل وساستها وتشيرُ إلى معدنهم. وتكقي وحدها كذلك، في الديمقراطيات التي تحترم نفسها وشعوبَها، لإلغاء شرعية الانتخابات وما أتت به.

أفترض أن السيد حسين يعي، ما دام يرى أنه ديمقراطي، بأن "الفرص" التي يجب أن يتمتع بها المواطنون (وليس الوزراء، فهؤلاء ووكلاؤهم نالوا قسطهم من القسمة الوزارية) في الدولة الديمقراطية حقاً، دولةِ المواطنة الكاملة، هي غير "الحصص" في دولة القواطع الطائفية ـ الإثنية. "الفرصة" في النظام الديمقراطي حق دستوري وقانوني لجميع المواطنين ممن تتوفر فيهم معايير الكفاءة والمهنية والأهلية وحدها. ويُمكن لأي عراقي أو عراقية مُؤهَّليْن لها أن يحصلا عليها، دون اعتبار للطيف الديني ـ الطائفي الذي ينتسبان إليه، ودونما تحديد لـ"كوتة" دينية، طائفية، إثنية أو جنسية. أما "الحصّة" فهي، وكما نرى عندنا، "غنيمة" تُطَوَّب لطائفة أو لقومية ما، وتُوَرَّث لها جيلاً بعد جيل، مثلما هو الحال في لبنان. وظائف الدولة تصبح في دولة المحاصصة "إقطاعات" طائفية ـ إثنية.
أما "الفرَص المتكافئة" في دولة المواطنة فهي بهذا المعنى ديمقراطية، تؤكد سمةَ الوطنية والمدنية والعدل في الدولة، ياسيد حسين، في حين أن "الحصص" غير ديمقراطية بالمرة، تجعل من وظائف الدولة أسلاباً لم تمُنَّ بها على أصحابها كفاءاتهم وعلومهم وإنما "غزواتُ" كُتلهم الانتخابية في مجتمع يكرّس فيه ساسته استقطاباتهم الطائفية والإثنية والقبلية. فكيف يفوت على "الديمقراطي اللبرالي!" هذا الفرقَ الجوهري فيطابقَ بين "الحصّة" و"الفرصة" ويرى فيهما شيئاً واحداً!؟

من الطبيعي أن يتعكَّز سلاطين الحكم وساسة الطوائف ووعاظُهم على موضوعة "تركيبة الشعب العراقي" لتسويغ ما جاؤوا لنا به من طائفية سياسية وما يتبعها من محاصصة طائفية ـ إثنية. ولكن من غير الطبيعي أن يعظَ الوعظَ نفسَه "كتابٌ" يصف بعضُهم نفسَه بالديمقراطي واللبرالي، وربما حتى بالعلماني!

صحيحٌ أن تنوع الأديان والمذاهب والأقوام والفِرَق في العراق حقيقة قائمة فيه منذ عهود بعيدة. ولكن هل ينفردُ العراق وحده بين بلدان الدنيا الـ 193 في حالةَ التنوع هذه؟ وهل تشترط هذه الحالة أن تكون القسمةُ الطائفية ـ الإثنية، هي وحدها، قاعدةَ الحكم والسياسةِ وبناءِ الدولة والديمقراطية فيه، حتى صارَ "وعاظُ السلطة" وأهلُها يوهمون الناس بأن نقدَها والدعوةَ للخروج عليها يأتيان "على الضدّ من قواعد الديمقراطية ودولة المواطنة"؟!

نعرف جميعاً، وقد يشاركنا السيد حسين معرفتنا هذه، أن من النادر أن نجد بلداً من بلدان العالم، في هذا العصر خاصة، تخلو تركيبةُ مجتمعه من تعدد الأديان والطوائف والأجناس فيها. في بعضها يزداد هذا التعدد، وفي بعضها الآخر يقِلُّ. الاسيثناءات لهذه القاعدة تظل نادرة. ولا أدري إن كان في مقدور السيد حسين أن يحصيَ لنا، تأكيداً لصواب أطروحته عن "تركيبة الشعب" مثلاً، عددَ البلدان التي تعتمد الطائفيةَ السياسية ومحاصصاتها قاعدة لنظامها السياسي في هذه المعمورة؟

أكاد أقول أنه لن يجدَ (جوارَ لبنان والعراق) بلدانا أخرى، أوقعها ساستها المتنفذون في مثل هذه البلوى، إلا بصعوبة. هناك مظالمُ وقَهرٌ وتمييزٌ ضد الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية في بلدان غير قليلة، أغلبها، من المؤسف والمُخجل، عربية وإسلامية. الظلم والقهر والتمييز مظاهر تطالُ، على سبيل المثال، الشيعةََ في السعودية والبحرين (هم فيها أكثرية) ومصر وباكستان. في إيران يعاني السنةُ والبهائيون والأكراد، وعرب الأهواز كذلك، من هذه المظاهر نفسها. أما (أهل الكتاب) فهم يكابدون القهر والتمييز، والمطاردات أحياناً، وبدرجات مختلفة، في جميع البلدان الاسلامية، حتى تلك الموصوفة منها بالعلمانية مثل تركيا، حيث ينتظرُ طلبُ بناء كنيسة أو توسيعها، مثلا، خمس سنوات أو أكثر حتى يُجاز!. لا يختلف الحالُ كثيراً في البلدان الأخرى.

المعضلةُ أن هذه البلدان التي تهتدي جميع دساتيرها وقوانينها، بهذا القدر أو ذاك، بالشريعة، تتجاهل حتى حكمةَ الخلق والخالق في خلقِه وأديانه، والتي تشير إليها آياتٌ كثيرة في (الكتاب) منها هذه الآية الكريمة: "لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة" (
المائدة، 48).

العصبيات الدينية والمذهبية، كما العصبيات الأخرى، لا تطيقُ تعدد سبُل الاهتداء إلى الحقيقة، ولا ترى الحقائقَ إلا فيها وعندها. والانطلاق من هذه العصبيات في التعامل مع الآخرين لن يأتي معه، كما تُظهرُ تجارب التاريخ كلها، بغير الظلم، وإذا ما أُخِذَت هذه العصبيات إلى السياسة والحُكم أصبح الظلم مُطلقاً، فكفى الله أديانَه، وكفانا معها، شرَّ هذه العصبيات ومثيلاتِها في الحياة والسياسة والحُكم على السواء.

تجاوز مظاهر الظلم والتمييز هذه لا يتحقق بالمحاصصات أو التوازنات الطائفية والعرقية الهشّة، مثلما يحاول أن يوحيَ لنا ساستنا المتنفذون وكتبتُهم، وإنما بإقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ودولة مدنية لا دينية، تحترم أديان مواطنيها ومذاهبهم وعقائدهم وخياراتهم الفكرية والسياسية، وتساوي بينهم وتكون للجميع فيها فرصٌ متكافئة يكفلها دستورها وقوانينُها.

لنذهبَ، سويةً مع السيد حسين، إلى نموذجين، من بين نماذج كثيرة، يدحضان قدريةَ الطائفية السياسية ومحاصصاتها الباحثة عن مسوغاتها في "تركيبة الشعب" أو المجتمع. أحد هذين النموذجين آسيوي (الهند)، والآخر أوربي (ألمانيا)، وهما نموذجان يتحدثان بلسان تجارب أكثر بلدان العالم ممن تفادى ساستها، لحكمةٍ فيهم، مهاوي الطائفية القاتلة، واختاروا العقل والمعقولَ في بناء دولهم وإحياء بلدانهم.

هذان النموذجان مختلفان عن بعضهما تاريخاً وثقافة وتجارب، مثلما نعرف. وقد عاشا، وما زالا يعيشان، بالطبع شأن النماذج الأخرى في عالمنا هذا، مشكلات البناء والتطور وتحدياتهما المتباينة، وفي مراحلهما المختلفة، وتعاني إحداهما (الهند)، بين حين وحين، من جرائم متشددين من أهل هذا الطائفة أو تلك، ولكنهما ما زالا قادرَيْن، بسبب صحة الأساس الذي قاما عليه، كما أعتقد، على إيجاد حلول مناسبة لهذه المشكلات وتلك التحديات.

الهند، كما هو معروف، مجتمع أديان وطوائف، كبيرة وصغيرة، لا تكادُ تُحصى أعدادُها. وقد استيقظت الهند الحديثة، هذه البلاد العريقة والكبيرة، قبل أكثر من 70 عاماً على حركة مجتمع مدني جبارة، عابرة للأديان والطوائف، أسهم في صُنعها وبلورتها وتوجيهها مفكرون ومثقفون وساسةٌ عقلاء أمثال غاندي وطاغور ونهرو وصحبهما. واستطاعت هذه الحركة بأساليب مقاومتها المدنية المتمدنة أن تنزع "جوهرة التاج" البريطاني من تيجان الغرباء وتعيدَها إلى أهلها، وتُلحقَ الهزيمةَ بأعتى نموذج للكولونيالية الكلاسيكية في هذا العصر، وتقيمَ دولةً مدنية، علمانية، أصبحت، بمرور الأيام، من أكبر الديمقراطيات في العالم (أكثر من مليار انسان) وأعرقها، وأكثرها تطوراً خارجَ الغرب الأوربي، حتى أن بلدانا متطورة مثل ألمانيا صارت تذهب، للمحافظة على ديناميكية اقتصادها القومي في بعض القطاعات، إلى استيراد العقول الهندية، في ميدان تقنية الحاسوب مثلاً.

هل يمكن للسيد حسين أن يتصور لنا حال بلاد الهند، اليومَ، لو أن ساستها وآباء الدولة الحديثة فيها قد نظروا، بشكل أعمى، إلى "تركيبة الشعب الهندي"، وجنحوا إلى فكرة القسمة الطائفية الشيطانية التي سلك الساسةُ المتنفذون، عندنا، الطريق إليها؟

روح غاندي وصحبه ما تزال حاضرة في الشارع اليوم كذلك، في حركات المجتمع المدني الفعالة، في المدينة والريف على السواء، حيث ينخرط ساسة ومواطنون بسطاء مستقلون ومثقفون (روائيون، فنانون، أطباء، مهندسون . . وغيرهم) في تحرك شعبي واسع، عابر للطوائف، متنوع الأشكال والفعاليات، لمواجهة وحشية أيديولوجيا (اللبرالية الجديدة) في الاقتصاد، وما أفرزته من فساد وإمعان في التوزيع غير العادل لثروات البلد.
شاهدت قبل أيام ريبورتاجا، في إحدى القنوات الألمانية، عن جوانب من هذا التحرك، يكشف هلع الحكومة وارتجافَها منه، مما حدا بها إلى دعوة ممثليه للحوار معهم، حيث لم تعد ثمة إمكانية لتجاهل صوت الناس!

لستُ أدري إن كان لمثل هذه الحيوية في المجتمع المدني مكانٌ في مجتمعات المحاصصة الطائفية ـ الإثنية، أم أن الولاءات والتبعية والعصبيات وتسخير "المقدس" ستحجب جميعُها الناسَ عن إدراك حقوقهم، ووعي حقيقة أحوالهم، وتحول، بالنتيجة، دون نشوء رأي عام واسع، مستقلٍ، عن الحكومات وتأثيراتها، يتولى هو، عندما تصاب الحكومات بالعجز ويفسُد الساسةُ، حمايةَ الديمقراطية والحريات والعدالة، ويسهم في تقويم سبل التطور الاقتصادي والاجتماعي؟

ألا يوافقني السيد حسين أنه لن تكون هناك عدالة، ولا ديمقراطية أو حريات، دون رأي عام مستقل. ولن يكون دونه تطور حقيقي دائم، ولا مجتمع مدني، ولا حقوق انسان، ولا دولة قانون مدنية؟

النموذج الألماني يحمل تركيبة تتشابه، في بعض النواحي، مع "تركيبة الشعب العراقي" في الجانب الطائفي، إذ تتوزع غالبية الشعب الألماني المسيحية بين طائفتين أساسيتين: البروتستانتية والكاثوليكية. تشكل الأولى أغلبيةً في بعض أقاليم البلاد ومقاطعاتها، وتمثل الثانية الأغلبية في مقاطعات وأقاليم أخرى. ويختلط أهل الطائفتين في مدن وأماكن كثيرة، تتجاور فيها دور عباداتهم ومساكنهم. آخر حروبهم الطائفية مضت قبل ما يزيد على 250 عام. بعدها، وبمرور الأعوام، وبفعل حركة التنوير الفكري، أخذت هويتهم الوطنية تتقدم على هوياتهم المذهبية، دون إنكار الأخبرة أو إسقاطُها، حيث يحياها الناس فضاء خاصاً بهم. يحيونها بطبيعية، دونما عصبيات، مُبرزين منها بُعدَها الانساني.

هذه التركيبة الطائفية لم تأخذ ساسةَ ألمانيا، لا قبل الحربين العالميتين ولا بعدهما، إلى مشاريع المحاصصة الطائفية. كانوا يدركون أن تكوين أمة ودولة قومية متطورة ثقافيا واجتماعياً واقتصادياً لا يتحقق بمثل هذه المشاريع ومنظوماتها الفكرية، رغم أن هذه المنظومات نفسها، ومؤسساتها الدينية، لم تبق بمعزل عن حركة التنوير التي أخذت تؤثر في ثقافة أوربا والعالم، منذ ما يقرب من 300 عام، وما تزال، فصارت الكنيسة بشقيّها الرئيسيين: الكاثوليكي والبروتستانتي، تسعى باستمرار للمصالحة بين العقيدة والتنوير، حفاظاً على الدين ومصالحه ودوره في المجتمع أساساً.

النموذج الألماني يحمل تشابهاً آخر معنا، هو الحرب وخسارتها، وما نتج عنها من دمار وانهيار للدولة واحتلال.
هذا التشابه يحلو لبعض ساستنا، ومن رافق الغزاة منهم ومن غيرهم، أن يشيروا إليه، متفائلين بأننا سنصل، بمساعدة الغزاة المحتلين، إلى غير القليل مما وصل إليه الألمان، في حينها، بمساعدة محتليهم آنذاك (اثنان منهما: أمريكا وبريطانيا، من محتلينا أيضاً، والحمد للّه!).

لكن هذا التشابهَ والذي قبله لا ينبغي أن يحجبا فروقاً جوهرية بين حالنا وحالهم، يعود بعضها للتاريخ، وبعضها للثقافة، بما فيها الثقافة الدينية، وبعضها لتباين مستويات التطور، وبعضها يعود، وهذا جانب هام في تقديري، لاختلاف نوعية الساسة عندنا وعندهم، عموماً، رغم أن هتلرهم وجد شبيهاً له بصدامـ(نا). المنظومة الثقافية ـ الاجتماعية السائدة عندنا، وفي الشرق العربي ـ الاسلامي عموماً، ما تزال تُخبِّئ لنا طغاة آخرين، بأزياء ووجوه مختلفة!

بعد أقل من عشر سنوات على نشوء ألمانيا الاتحادية، وقيامها من أنقاض الحرب وخرائبها الشاملة، بدأ العالم يتحدث عن معجزتين أخذتا تتحققان هناك : اقتصادية وثقافية. شيئ مماثل حدث في اليابان الخارجة من دمار مماثل أيضاً، وفي ظروف مشابهة. عاش البلدان مرحلة انتقال كذلك، لكن الناس وساستهم كانوا يعرفون إلى أين يمضون. تصورهم عن الدولة المدنية ووظائفها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومشروعها التحديثي والحداثي، كان واضحاً ومرئياً. رأوا في إعادة بناء الدولة والمجتمع مشروعاً وطنياً، وليس دينيا طائفياً. شرعوا، منذ اللحظة الأولى، في الاشتغال على تحقيقه، وأشركوا الجميع في هذه العملية. لم يأخذوا معهم عقائدهم الدينية والطائفية ليحشروها في مشروع البناء الوطني هذا. أخذوا منها، فقط، قيمها الانسانية والأخلاقية الكبرى التي يلتقي عندها جميع الناس، حتى من أهل الأديان الأخرى، ومن غير المؤمنين أيضاً.
لم يتنازعوا، أو يتناقضوا على المناصب والحصص. كانت تناقضاتهم، وما تزال، تناقضات تصورات ومشاريع للبناء وإعادة البناء، تتبارى فيما بينها، وتُشرك المجتمع معها في مبارياتها هذه، بغيةَ تحسين أداء الدولة ومؤسساتها في ميادين الحياة المختلفة، ومواصلة تطوير النظام السياسي، والارتقاء بقدرته، والدولة والمجتمع معه، على تجاوز الأزمات باستمرار.

من الوهم أن ننتظر، بالطبع، تطورا مماثلا، عندنا، لما حدث في ألمانيا أو اليابان، لا في المدى الزمني ولا النوعي كذلك.
أحوال البلدين التاريخية والثقافية والاجتماعية تختلف عما عندنا. هذه الأحوال تتباين حتى بين البلدين نفسيهما. كما أن أياً منهما لم يُبْتلَ بمحنة الارهاب والفتنة الطائفية، مثلما ابتُلينا نحن، وما نزال. ولكن هل يصح أن نعتذرَ لفشل "نُخَبنا" السياسية الذريع، حتى الآن، بمثل هذه التباينات وحدها؟ ألا يُعزى هذا الفشلُ، أساساً، لهذه "النُخَب" التي ابتُلِيَ الناس بها، ولرغبتها في أن يرقص الجميعُ على إيقاع طبولها الفكرية والعقائدية؟

ألمانيا، مثلا، أمةُ فلاسفة ومفكرين وموسيقيين عظام(عفواً، الموسيقى عندنا صنيع شيطاني!)، أسهموا في عملية التنوير، وإغناء الفكر الانساني. نحن، على الضد من ذلك، وفي هذه الحقبة بالذات، "أمة" وُعاظ تختنق في دخان مواعظهم الثقافات والفنون، والأفكارُ الحرة المتنورة ومبدعوها. أما عقول (العامة) فلا تكاد تجد مرعىً لها غيرَ حقول الوهم التي تُشيعُه ثقافةُ الوعظ هذه.

المأساةُ أن مفهوم (العامة)، عندنا، لم يعد يقتصر، ثقافياً، على بسطاء الناس من غير المتعلمين، وإنما صار يشمل أعدادا غير قليلة من "المتعلمين"، بينهم من يتولى "تربيةَ" الأجيال الجديدة في المدارس، وحتى الجامعات، ويُسهم في محاصرة أهل العلم والعقل المتنور في هذه المعاهد، وفي المجتمع بالتالي!
غيرُ القليل ممن يُطلقون على أنفسهم صفات "النُخًب السياسية" يندرجون ضمن مفهوم (العامة) الثقافي هذا، في تقديري.
وليس نادراً أن نجد بين بسطاء الناس من هو أكثر حكمةً، وبُعدَ نظَرٍ، من غالبية هؤلاء "النُخب"!
وإذا ما كان مفهوم (النخبة) يشيرُ إلى خُلاصة الشيئ وصفوتِه وخيرِ المُختار منه، فليس لنا، ونحن نرى أكثرية "نُخبنا"، سوى ما ندر منها، غيرَ أن نقولَ: يا لبؤس هذه "الأمة" التي يُمثّلُ هؤلاء القوم خلاصتَها وصفوتَها!

في ألمانيا، مثلا، تتراكم المعارف والخبرات والتجارب، ويجري تمثُّلُها واستيعابُها، فيتسع الوعي ويتعمق، ويُعيد انتاج معارف وخبرات وتجارب جديدة، لتتواصل الدورة من جديد.
عندنا تتراجع المعارف، وتُحاصَر الخبرات والعقول، ما دامت لا تحمل ولاءات طائفية أو حزبية، وتنقطع التجارب، ويتراكم الجهل حتى صارت تُفتَحُ، عندنا، "جامعات" و"معاهد علم"، تُعيدُ تصنيعَ الجهل، وتعمل على تخريج "حُراس" له، فتجمَّع لدينا، في السنوات الأخيرة خاصة، جهلٌ يُغطّي قروناً بكاملها!.

في ألمانيا أتى الساسةُ وعلماء الدستور والقانون لبلدهم، بعد إعادة تأسيسه عقِبَ الحرب العالمية الثانية، بدستور دولة مدنية ديمقراطية، يُعتبَر، إلى اليوم، من أفضل دساتير العالم، وأوضحها فيما يقول. دستورٌ يصدرُ عن الحياة وحاجاتها ويتوجه إليها، مُدركاً تجاربَ التاريخ الألماني وعبِرَه المريرة، غيرَ مُغفِلٍ لتجارب الآخرين. وهو دستور لا يفرض على الحياة، من خارجها، مقولات منظومة فكر مُطلق يخنقُها بها، ولا يرى في السلطة والدولة والساسة، رغم أن بعض أحزابهم الحاكمة، في المركز والأقاليم، تحمل صفات (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) أو (الاتحاد المسيحي الاجتماعي)، "مُبشِّرين" بعقائدهم، "ديّانين" على البشر، أوصياء عليهم في الدنيا والآخرة، وإنما ينطلق، فيما يخص العقائد والأديان والمذاهب، من حكمة أنَّ "لكل نفس ما كسبتْ، وعليها ما اكتسبت".

وكان لهذه الروح، وهذا العقل، دورهما الجوهري في تجاوز آثار الحرب وخرابها، وما خلّفته من مآس وآلام ويأس، في زمن قياسي، وإيقاظ طاقات الناس الديناميكية لبناء مجتمع ديمقراطي حقيقي، ودولة مدنية ديمقراطية، تظافرت جهودهما في استثمار ثروات البلد البشرية والمادية والمعرفية لتأمين حاضر الناس ومستقبلهم، ووضعِ بلدِهم في صميم العصر الأوربي والعالمي على السواء.

وقد ظلّ الألمان، وما زالوا، يغيّرون في مواد دستورهم، ويعدِّلون فيها ويضيفون إليها، كلما تطلبت الحياةُ وتحولاتها عندهم، وفي العالم، ذلك. حدث هذا مرات كثيرة خلال 60 عاماً، وهو ما لم يُقم بمثله الأمريكان، على سبيل المُقارنة، خلال 250 عاماً. وقد تعاقدوا على أن يكون هذا الدستور، ومحكمته الدستورية المستقلة حقاً، مرجعيتهم العليا والحَكَمَ الوحيدَ بينهم.

ساسةُ "العراق الجديد" أتوه بدستور، غير القليل من مواده "حمّال أوجه". للطوائف والأعراق "حصصُها" فيه. لحَمَلَة الفكر الشمولي موادهم وفقراتهم منه، ولذوي النزوع الديمقراطي قليلٌ مثلها. موادُ تناقض موادَ، وفقراتٌ تُقَيِّد حركةَ فقرات أخرى.
في دستور هذا العراق الكثيرُ مما يُفسِح السبيلَ لقيام نظام حكم ديني بصبغة طائفية، وفيه القليلُ مما لا يساعد على قيام دولة مدنية ديمقراطية إلا بشقِّ الأنفس، فكلنا يعرف أن ميزان القوى السياسي، في ظل الثقافة السائدة، هو الحكَمُ في هذا الأمر ونقيضه، وليس مادة دستورية هنا، وأخرى هناك، تنتصران للديمقراطية والحريات أو لمدنية الدولة وحقوق الانسان!

وهكذا أصبح الدستور عندنا، بفعل النزوع الطائفي والإصرار عليه، مصدراً للنزاعات لا مرجعاً في حلّها. ومما يثير السخريةَ من هذه الأحوال أن المتخاصمين، في أي شأن من الشؤون: شكل النظام الفدرالي، النفط والثروات الطبيعية، المناطق المتنازع عليها، المحاصصات، الحريات الخاصة والعامة، حقوق الانسان، الهيئات المستقلة، وكثير سواها، يتخذون من الدستور ومواده دريئة لهم في خصوماتهم هذه. كلُّ جماعة منهم تأخذه إلى صفها، مُمسكةً بطرفها الخاص منه، فإذا المتناقضون دستوريون جميعهم، وإذا الدستور المسكين نفسه حائرٌ بينهم، لا يعرف مع من هو!

وعلى أن العيوبَ القاتلة لهذا الدستور الذي مازال البعض يُطنِب في مديحه كانت واضحة منذ ساعة ولادته (أصبح مهندسوه أنفسُهم يتحدثون عنها الآن!)، فهو مصابٌ، كما "العملية السياسية" التي أتت به، بخللٍ ولادي، إلا أنهم أعاقوا إعادة صياغته وتعديله، وإصلاح الخلل فيه، على أساس وطني لا طائفي، طوال هذه السنوات.

بعد التحاق ممثلي (الطائفة) الأخرى، أو أقسام كثيرة منهم، بما يُطلَق عليه "العملية السياسية"، وارتفعت الدعوات لتعديل الدستور في حينها، وخلال فترة مُحدَّدَة، تابعتُ الشيخ حمودي، رئيس لجنة صياغة الدستور، في لقاء تلفزيوني آنذاك، شدَّد فيه على أن الحذفَ من الدستور غيرُ مقبول، أما الإضافةُ إليه فمسموحٌ بها!.
منطق اللاحذف هذا يذهب، من جانب، إلى الإبقاء، انطلاقاً من النزوع العقائدي ـ الطائفي نفسه، على العيوب القاتلة في الدستور، ويؤدي عبر الإضافة، من جانب آخر، إلى زيادة التناقض والتعقيد في مواده، فما تُضيفه أنتَ يحقُّ لي أن أضيفَ له أو عليه ما يناقضه أو يُقيّد أحكامه، وهكذا يكون دستورنا "عادلاً" و"ديمقراطيا" ما دام لكل فريق "حصّتُه" الطائفية أو الإثنية فيه!

نموذجا الهند وألمانيا، شأنَ نماذج أخرى كثيرة في العالم، تؤكدان، في تقديري، خطلَ الرأي القائل بأن "تركيبةَ شعب" ما تفرض، بالضرورة، إقامةَ نظامه السياسي ودولته وصياغة دستوره على قاعدة هذه التركيبة طائفياً أو إثنياً. مثل هذا الخيار السيئ يُعمّق الانكفاء على الذوات الطائفية، ويُبقي على شياطين النزاعات والفتن بين الفرق والأقوام يقظةً، على الدوام، وإن بدت غافية لفترات تطول حيناً، وتقصرُ أحياناً كثيرة.


جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (3) في شـرور الطائفـية ومحاصصاتها
جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (2) في هويـة الدولــة وعلاقتـها بالناس
جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (1) نقـد السـلطة أم العـداء لهـا؟






 


 

free web counter