| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حميد الخاقاني

 

 

 

الأربعاء 12/10/ 2011



جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (3)

في شـرور الطائفـية ومحاصصاتها

حمـيد الخاقاني

قد لا يوافقني السيد حسين بأن السجالات اليومية الحامية بين ساسة "العراق الجديد" تجري، في الأساس وحتى هذه اللحظة، على المناصب ومواقع التأثير والنفوذ في السلطة والدولة، على السواء.وهم يخوضون صراعاتهم هذه دون أن توجعهم قلوبهم، أو تعضَّهم ضمائرهم، كما يظهر، على مشاهد الخراب والموت العبثي، وهو يحصد أرواح البشر كل يوم.
جميعُهم لاهون عن مصائب البلد، منشغلون في السَهَر على ما حصلوا عليه، مجاهدون في سبيل تكريسه وتوسيعه، متربّصون ببعضهم البعض. كأنهم غير معنيين بهذا الموت وغير مسؤولين عن درئه.

منذ عقود تُطبِقُ المِحَنُ القاتلةُ على البلاد والناس. هكذا كان الحال إبّانَ حكم الطاغية وما زال يتواصل بعده. وما دامت "نُخَبُ" الساسة مصابةً بعمى العقائد والمصالح الحزبية والشخصية، لا تكاد تعي غيرها، فقد تكون المحنُ الآتية، والعياذ بالله، أشدَّ فتكاً من تلك التي عاشها الناس وما زالوا.

بعد كل مذبحة كبيرة تهزّ وجدان الناس، حتى في الأقطار البعيدة، يخرجون علينا ببيانات شجب واستنكار يلعنون فيها القتلة، ويدعون إلى الوحدة والتآزر، ثم يعودون بعدها (أحياناً حتى قبل أن يسمعوا صدى نداءاتهم) إلى لهوهم (نزاعاتهم)، أي إلى كلّ ما يُعمّق الشقاق ويُعطّل التآزر، ويؤشّر إلى الاستخفاف بما يُكابده الناس!

لم يعُد الناسُ يعرفون منهم غير نزاعاتهم. وراء كل نزاع نزاعٌ، وراءه هو الآخر نزاعٌ يُفَرّخ نزاعاً جديداً يتبعه. سلسلةُ نزاعات لا تنقطعُ حلقاتُها.
وهي تشير إلى أن جيوبَ الساسة ـ السحَرة ـ المباركين وحقائبهم ملأى بما يدعو للبؤس، ويدفع بالناس إلى مهاوي اليأس.
ولا أظنّ أنّ عقولهم تزخرُعقولهم ما تحفل به جيوبهم وحقائبهم كذلك!. جيوب الساسةَ السحرةَ، المباركين هؤلاء، ستظل خاليةً، ما داموا مثلما هم عليه، من أية حلول ناجعة، سحريةً كانت أو واقعية، للأزمات التي تنهش جسدَ البلاد وأهلها.

منذ سقوط الطاغية وهم يتنازعون دونما اكتراث حقيقي يُذكَر بأحوال البلد والناس المزرية. لم يجدوا حلاًّ ناجعاً ونهائياً لأيٍّ من نزاعاتهم. ينتقلون بالبلاد والناس من مقلبٍ لمقلب أسوأ من سابقه. فرقٌ تتناطح مع فرَق، وأطرافٌ في فرَق تتناطح مع بعضها. لم نلحظ منهم محاولة جادة، أبداً، لاستبطان أسباب هذه الأحوال وتعاساتها، وسُبُل الخروج منها، وتحديد قسط كل طرف منهم في المسؤولية عنها. كلٌّ يلقي اللوم على الآخر. وعندما تشتد الأزمات، وينفد صبر الناس، نسمعهم يقولون:"كلنا مسؤولون!". وجميعُنا يعرف أن مثل هذا القول لا يضع، في الحقيقة، مسؤولية على أحد أبداً!.

ثمة قولٌ للسياسي والمفكر الاشتراكي ـ الديمقراطي الألماني هيلموت شمدت يرى فيه "أن السياسيين لا يتحملون المسؤولية عما يفعلون أو لا يفعلون فقط، وإنما هم مسؤولون عن الأحوال والمناخات السائدة في المجتمع كذلك". الساسةُ المتعاقدون على الحكم عندنا لا يفقهون هذا النوع من المسؤولية، ولا يصرفون جهداً لإدراكه. وحدها حصصُ السلطة ومغانمها هي مدارُ جهدهم. حولها تدور نزاعاتهم. منها تنطلق وإليها تعود.

ولو كانت شرور خصوماتهم الأزلية هذه لا تطالُ أحداً سواهم، ولا تأخذ البلاد والناسَ معها إلى مهاويها السحيقة، ولو كان غالبيةُ الناس عندنا مالكين لزمام أمورهم، لا تُشَرِّقُ وتُغَرِّبُ بوعيهم وإرادتهم الأهواءُ الطائفية والعرقيةُ والقبلية والحزبية. لو كانوا أحراراً مستقلين حقاً، لا أتباعاً لهذا أو ذاك، لأدّوا خيراً لأنفسهم ووطنِهم، وذلك بأن يقيموا لساسته هؤلاء حلبةَ صراع على غرار (الكولوسيوم) الروماني القديم، ولكن خارج مدننا وأريافنا، في زاية ما من صحرائنا الواسعة، يأخذونهم إليها، ويُطلقونهم هناك على بعضهم البعض، ويُحكِمون إغلاقها عليهم، ويدَعونهم يخوضون صراعاتهم فيها إلى يوم الدين، ليحكمَ اله ، في النهاية، بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، مثلما ورد في الذكر الحكيم.

وقد نعود جميعاً، طالما اكتشفنا فساد لعبتهم السياسية، لمشاهدتهم، بين حين وحين، في العُطَل والأعياد تزجيةً الوقت، وطرداً للملل، فنُصفِّق لهذا ونرثي لحال ذاك. لا ندري أنضحك على أحوال الوعي البائس عندهم أم نبكي؟.
ولربما تجد وزارة السياحة في حلبة الصراع الطريفة هذه مرفقاً سياحياً يدرُّ على البلاد الأرباحَ فتذهب بالسياح الأجانب إليه كي يكتشفوا أننا أهل نكتةٍ وهَزَلٍ، ويقفوا، عندنا، على مشاهد لم تعد تنتمي لهذا العصر، ويقارنوا بين ما يعرفون عن أحوال أسلافنا الأوائل، في العراق القديم، وعقليتهم الابتكارية وبين بؤسنا اليومَ، في كَنَف من يدَّعون أنهم ورثة أولئك الأسلاف وحضاراتهم العريقة.

ولأن تعاسةَ هذه الأحوال وكوميديتها جديرتان بالتوثيق فقد يتفضلُ علينا وعاظُ هذه الفرق وكتبتُها وشعراؤها و"مثقفوها" بمصاحبة ساستها إلى هناك والإقامة معهم، إلى يوم الساعة كذلك، لكتابة المُجلَّدات في وصفها من جانب، ولإذكاء حماسة المتخاصمين، وشَدِّ أزرهم شعراً و"هوساتٍ" وخطابةً ووعظاً من جانب آخر، وهو ما سيثير استغراب السواح الأجانب وسخريتهم حتماً. وقد يعمد بعض مُدوّني الأحداث من كتبة الفرق المتنازعة إلى توثيق مشاهد حلبة الصراع هذه ويومياتها، ولكن بدقة المؤرخ، هذه المرة، وحياديته، ووضعها تحت تصرف الأجيال الآتية كي تعرف شيئا عن بؤس العقل، السياسي خاصة، في هذا الزمن العراقي الفريد!.
إنها لخسارةٌ فادحة، حقاً، أن تخلوَ ذاكرة المستقبل من صفحات هذه المَشاهد والأحوال وشواهدها وأبطالها الميامين!

وقد يكون من النافع للسيد حسين، ولنا كذلك، أن يمضيَ هو أيضاً معهم ليشارك في مثل هذا التوثيق التاريخي النادر، حاملاً مِخلاةَ أوراقه للإقامة هناك، مُتوليّاً رصدَ الأبعاد "النفسية" لمثل هذه الصراعات وأبطالها، ما دام يعتقد أنه ضليعٌ في عوالم نفوس الناس والشعوب وتقلباتها، وأشكال علاجها!

الكارثة، كما أراها، يا سيد حسين، أننا اُبتُلينا بساسة مصابين بهَوَس خصوماتهم الخالية من المعنى هذه، وهم يتوهمون أنهم على حق فيها وفي غيرها، وأنهم على دراية بكل شيئ، ولديهم أجوبة ناجعة على كل شيئ، ولا يخطئون في أي شيئ، مع أنهم ، وكما نرى منذ ثمان سنوات، لا يحذقون في شيئ قدرَ حذقهم في فقدان الرؤية الصائبة، وتفويت الفُرَص على الوطن وأهله، وغياب الأحساس بحركة الزمان، وارتكاب الأخطاء والإصرار عليها، وقيام الكثيرين منهم بتسخير كل ما يقدرون عليه لتحقيق مطامحهم الخاصة في السطوة والجاه والثروة، وعلى حساب مصالح الوطن والناس غالباً.

ما أسرعهم في المبادرة إلى صنع الأزمات، وما أبطأهم وأسوأهم في إدارتها. كل شيئ يتأخر عندهم. لا شيئ تمَّ، معهم، في أوانه، ولا شيئ تحقق بشكله الصحيح (الدستور وغير القليل من القوانين مثال على ذلك)، والكثير ظل مُعلقاً، وما يزال، وليس على الناس غيرَ أن تحيا العمرَ في انتظار!.

يقدمون لنا، في الظاهر، خطابا إعلامياً ذا لباس مدني، وطني، غير طائفي، ديمقراطي، تقابله، في الواقع، ممارسة عملية تناقض ألوان هذا اللباس، وتذهب إلى ضده، فنرى الطائفية تتبختر بيننا بنقاب وطني!
مثل هذا التناقض يشيرُ، إما إلى حالة كذب، هو مرض سلطوي عام، يصاب به المتسلطون عادة، ولا يعود أصحابه قادرين على معرفته، أو إلى نوع من التأرجح، والصراع الداخلي لهؤلاء الساسة، بين منظومة ثقافية واجتماعية، ليست ديمقراطية، في الجوهر، توطّنوا فيها، وتشكل وعيهم وسلوكهم في إطارها، وما زالت عقولهم مشدودة إليها بحبال متينة، وبين متطلبات حال مختلف نشأ بعد الاحتلال، وسقوط النظام والدولة معا، وبدء لعبة سياسية جديدة، لم يضعوا هم، وحدهم، قواعدها، بل أسهم معهم آخرون فيها، وبوجود المحتل، كذلك، وتأثيره على جميع أطراف اللعبة إياها.

لم يعد أحد من أطراف اللعبة قادرا، حتى الآن، وبوجود المحتلين خاصة، على حسم الأمر لصالحه وحده. ولهذا طالت مرحلة الانتقال في وطننا، ومعها طال التخبط والعذاب، ولم نعد نعرف، بفضل نزاعات الشركاء ـ الأعداء التي لا تتوقف، متى ينتهي هذا الانتقال، وإلى أين سينتقل بنا؟.
وحين لا يعرف الناس إلى أين ستؤول أحوالهم مع مثل هؤلاء الساسة تضيع الآمالُ، ولن يعود هناك من أُفُق لحياتهم.

ألا تشير مناخات اليأس والإحباط التي أخذت تسود بين الناس إلى ضياع الآمال هذا؟ وهل تفقه عقول الساسة المتنازعين خطورةَ هذه المناخات، وإلى أين ستُفضي؟ ألا يدركون بأن هذه المناخات التي تشيعُها نزاعاتُهم بين الناس، وعجزهم، طوال هذه السنوات، عن اليقظة على ماهو وطني والالتقاء عنده، ليست سوى نوع آخر من القتل، نوعٍ آخر من الإرهاب أيضاً؟

إذا ما تأملنا مسيرة "العملية السياسية"، خلال السنوات الثمان الفائتة، وسِيَرَ الساسة فيها، بدقة، انتهينا إلى أن البلاد تعيش حالةَ دوران في الحلقة ذاتها، من النزاعات والاتهامات المتبادلة، والفساد وضعف الأداء، وفقدان الحِرَفية وقلة المعرفة، واتساع الريَب والشكوك بين الجماعات وداخلها. كل فريق يُضمرُ لغريمه، أو شريكه لافرقَ، غير ما يُعلنُ. وتلك لعمري صفات ذميمة لا تليق بساسة يدَّعون "الوطنية" و"التدينَ" جميعهم، الصادق منهم والكاذب، ويزعمون أنْ لا مصلحةَ تعلو على مصالح البلاد والناس عندهم!. وقد عجزوا، بعد كل هذا الوقت الطويل من تجارب حكومات "الوحدة الوطنية!" و"التوافق الوطني!" و"الشراكة الوطنية!" أخيراً، عن أن يصحوا على حقيقة بسيطة جداً، لا تحتاج معرفتها إلى ذكاء خارق، وهي أنْ لا وطنَ، أحاق به كل هذا الخراب كوطننا، يمكن أن يعاد بناؤه وبناء الانسان فيه، دون انسجام معقول بين ساسته، واتفاقهم على أن يسحبوا السفينة الغارقة، في الاتجاه الوطني نفسه، وبالطاقة الوطنية المشتركة نفسها، دون اعتبار للمصالح الضيقة : طائفية كانت، أو عرقية، حزبية أو شخصية. إدراك هذه الحقيقة البسيطة، والعمل بها، يكفيان وحدهما
لنعت هذا السياسي أو ذاك بـ"الوطني"، وما عداه نفاق وضحك، كما أرى، على ذقون الناس، الحليق منها والمُسْبَل.

لكن مثل هذا الانسجام والاتفاق على ما هو وطني لا يمكن لهما أن يتحققا إلا على أيدي "ساسة دولة" ذوي مشروع وطني، مدني وعصري، يتمتعون بوعي ومعارف وصفات ساسة دولة، وليس عبر "ساسة سلطة" مشغولين بالتناطح على غنائمها، والإمساك بلجام الحصان الذي يجرّ عربتها المتداعية، أو"ساسة طوائف" أسقطوا ما يطلقون عليه "العملية السياسية" في "فخ" قسمة طائفية ـ اثنية، وورَّطوها والبلادَ فيه، منذ الساعة الأولى التي فكروا فيها بولوج أبواب السلطة، والقفز إلى عروشها الباذخة.
فإذا نحن إزاء حالة لم يكد الناس يخرجون فيها من زنازين الطاغية وسجنه الكبير حتى وجدوا أنفسهم، بفضل هذا النمط من الساسة، مأخوذين إلى أقفاص الطائفية ومجتمعاتها المغلقَة.

ومنذ تلك الساعة، وبتخطيط مُسبَق ومدروس، سرق ساسةُ الطوائف وخطابُهم، وإعلامُهم ووعاظُهم، حاضرَ الناس، وأخذوه إلى الماضي، وأحاطوه بأسوار رواياته، وصراعات الأجداد فيه، ونجيع الدم الذي ظل يُراق على أرضه خلال قرون طويلة، يُراد لها أن تصاحبنا حتى نهاية الدنيا. ولأن الناس غدت محاصرةً بهويّاتها الطائفية فقد صار على الأحفاد، حتى الذين لم يولَدوا بعدُ، أن يدفعوا ديّات تلك الصراعات وأثمانها!.

ليست هنالك من أمة أو ثقافة تنقطع، بالطبع، عن ماضيها، وتُقفل أبواب الحوار معه، ولا تأخذ منه ما يُجدي لحاضرها ومستقبلها، وتجد فيه ما يشكِّل، وعلى الدوام، عنصراً هاماً من عناصر هويّتها. ولكن المعضلة، عندنا، تكمن في أن ثقافة الإتباع والتقليد قد جعلت من هذا الماضي، عبر صيغ تمثُّلِها له وأشكال تقديمه للناس، سجناً للأفكار والعقول، وعبئاً ثقيلاً على الحاضر وحركته، حتى أصبحنا في حال يتحكّم فيها الأمواتُ وزمانهم بالأحياء وزمانهم!

كم لعنَ الكاتب الفرنسي (بلزاك) إمرةَ الماضي على الحاضر وامتلاكه وحده حقَّ القول فيه. كان الرجل يدرك أن حالة الامتلاك هذه تعني أن يعيش الناس في هذا الماضي، ويُفكّروا بعقله ومن خلال صوره ومشاهده المرويّة، التاريخي منها والمُختَرَع، وأن لا يروا أنفسهم وحاضرهم إلا فيه، أي أن يكون الراهن، كما الآتي، نوعاً من (الأوهام الضائعة)، طبقاً لعنوان عملٍ أدبي بلزاكي.

ولأن تاريخنا مُسَوَّرٌ بالمقدس وبالعصبيات المختلفة، ولأن البعضَ ركبه وسيلة للتحكّم بالناس وبسط السطوة عليهم، صار من الصعب إعادة النظر فيه على ضوء ما يجِدُّ في حياتنا من أحوال، ويتطور من علوم. وأخذت مساحة الحرية في تناوله نقدياً تضيق، مثلما تُنذر بذلك، مثلاً، بعضُ فقرات مشروع قانون حرية التعبير عن الرأي وغيرها من مظاهر، فمعها، وبحجة عدم المساس بالرموز (مناقشة الأفكار والرد عليها سيكون مساساً بقدسية الرمز)،لا يعود من اليسير تصحيحُ المفاهيم المغلوطة، الرائجة الموروثة من هذا التاريخ، وتخليصه من أردية الخرافة التي أوهنته وأوهنت عقولنا معه، وجعلت من الخيال والوهم بدائل لواقعه ووقائعه، وحالت دون الكشف عما يأخذنا إلى الضحك من أنفسنا وغفلاتها جرّاء ما تراكم وتكلَّس من الخاطئ والمُوهِم منه في عقولنا وحياتنا على السواء.

دونَ الإحاطة النقدية بهذا الماضي ومقولاته سوف تظل أوهامُه تأخذنا، دائماً، إلى الفراغ، وتنتهي بأمل الناس في المستقبل إلى الحَيرة.

وما دامت اليقظةُ على حقائق هذا الماضي محرَّمة إلا بالصيغ التي يرويها لنا حراسُه التقليديون، فقد أصبح على المجتمع أن ينشغل، كما ساسته، بالإصغاء إليه والسباتِ في أحضانه ( هذا السبات يسمونه هم "صحوة")، وليس غربلته والنظر إليه بمنظار العلم وطرائقه، والجدل النقدي معه ومع الحاضر وتحدياته وشروطه، وتمهيد السبيل، عبر هذا الجدل، للذهاب إلى المستقبل، مثلما يفعل عقلاء الناس والساسة في بلدان الدنيا الأخرى. ولكن لاعجبَ فالأشياء عندنا تمضي، بفعل هوَس العقل الطائفي ومحاصصاته، بالمقلوب، فحتى مستقبل الناس صار مرهوناً لذلك الماضي، يعيش على انتظاره، وحلم اللقاء به!.

السيد حسين لا يطيق سماع الحديث عن هذه المحاصصات، ويرى بأنه "نغمة نشاز!". فهو يقول، في ردّه على كتابتي تلك، عن توصيف الحكومات التي قامت عندنا بأنها حكومات محاصصة طائفية، أساساً، بأنّ "هذه النغمة النشاز صارت تتكرر ليل نهار منذ تشكيل أول حكومة مُنتخَبة في عام 2003".
أتُراه يعتقد بأن مجيئ حكومات عبر آليات انتخابية يكفي لتحريم وصفها بحكومات "محاصصة طائفية"، حتى لو كانت روح هذه المحاصصة هي الرَحِم الذي خرجت منه هذه الحكومات، وما زال حبلُها السريُّ موصولاً به؟

واضح أن السيد حسين قد استخدم كلمةَ "نشاز" بمعناها الشائع اليوم، وهو الخروج على قاعدة ما، أو نظام صوتي ولحني متَّسق، متناغم، والشذوذ عنه. فإذا كان الأمر هكذا، فليقل لنا السيد حسين : عن أصوات أية جوقة، حتى من جوقات السلطة، متّسقة ألحانها، ومتناغمة إيقاعات منشديها، خرجنا نحن في توصيفنا هذا يا تُرى؟

صار الجميع يلعن المحاصصة الطائفية اليوم، حتى من ساقوا البلاد إليها، وأقاموا "العملية السياسية" وعملية بناء الدولة على قواعدها، وما زالوا يواصلون، عملياً، ما بدأوه! . قد يُطلق عليها بعضهم، ساسة الطوائف خاصة، تسميةَ
" المحاصصة السياسية" تمويها أو تخفيفاً لوقع توصيف "طائفية" المقيت، لكنهم بعرفون جميعاً أنها "محاصصة طائفية"
، في الحقيقة، وأنها أصل البلاء ومنبعُه. يقول بهذا مراجع الدين ووكلاؤهم، وينطق به الناس، على اختلاف مستوياتهم وتنوع مذاهبهم، بعدما اكتووا بنارها الآتية على الأخضر واليابس مما يملكون. جرَّبوا ذلك وعاشوه قتلاً واختطافا وتهجيرا في أعوام اشتداد الفتنة الطائفية، ورأوا بأمّ أعينهم أن من يقبض امتيازات "القسمة الطائفية" إنما هم الساسة الذين يزعمون تمثيل هذا "المكوّن الطائفي" أو ذاك، أما عوامّ هذه "المُكوّنات" وبسطاؤها فلا يكاد يصلهم شيئ منها غير بلاياها.

حتى ساسة هذه المحاصصات يشيرون، إذن، لهذه الحقيقة الصارخة، ويرددون ذات "النغمة النشاز" التي يؤاخذنا السيد حسين عليها، ويصكُّ أسماعه عنها. قبل أربعة شـهور، تقريباً، نشرت (السومرية نيوز)، على سبيل المثال، تصريحاً لرئيس (لجنة العلاقات الخارجية) في البرلمان، الشيخ همام حمودي، يؤكد فيه "وجود أزمة طائفية في العملية السياسية وليس داخل المجتمع"، معتبراً "أن النظام السابق والأمريكان والمحيط العربي أبرز أسباب هذه الطائفية!".

من الجليِّ لنا وللشيخ نفسه أنه يُغفلُ، هنا، أسباباً أساسية أخرى تكمن وراء هذه الظاهرة : الأحزاب التي قامت، في الأصل، على أسس طائفية، وما تزال. تطلعاتها وخططها المعروفة لعراق ما بعد الطاغية (مؤتمرا لندن وصلاح الدين وقراراتهما، والبيانات التي أصدرها "مثقفو الطوائف في حينها). خطابها السياسي والوعظي ذو الصبغة الطائفية. اختراعها لمفهوم "المكونات" وتسييجه بجداريين عاليين : طائفي وإثني. الإصرار مع "المفوض السامي" الأمريكي، في حينها، على تشكيل مجلس الحكم ووزارته، والعملية السياسية فيما بعد، على أساس قسمة "المكونات" الطائفية ـ الإثنية هذه.

كما أظن بأن الشيخ حمودي يعرف، ونحن معه، أن عمر الانقسام الطائفي، في هذه "الأمة" وهذا "الدين" له جذور عميقة ظل يُغذّيها، ويسهر على رعايتها، ولقرون طويلة، أولو الأمر من الساسة والفقهاء والوعاظ، بأشكال شتى، منذ حادثة "السقيفة" قبل أكثر من 1400 عام، وبدء تشتت المسلمين مذاهب وفرقاً، وما صاحب هذا من أحداث دموية، واضطهاد وتمييز، وقمع وموت. ظواهر ما زالت تتواصل إلى يومنا هذا.

لا ريب أن لحكم الطاغية من قبلُ، كما للغزاة المحتلين وللمحيط الإقليمي، لا العربي وحده، أدوارهم في هذه الأزمة التي يتحدث عنها الشيخ حمودي، ولكن أليست لهذه الأزمة أدواتها وصُنّاعُها من ساسة اليوم المتنفذين، أيضاً، والمُوزَّعين على "المكوّنات" جميعها؟ ولو لم يكن "أرباب" البيت العراقي المتنفذون راغبين في هذا وساعين إليه لما نفذ الغزاةُ، ولا المحيط الإقليمي، إلينا بهذ البلوى. فالبلوى بلوانا نحن في الأساس. "السادةُ الأرباب" هؤلاء جاؤونا بها، وأسقطوا البلاد والعملية السياسية في فخاخها، وما زالوا يصرّون عليها، وإن اختاروا لها تارة هذا اللباس، وتارة ذاك الغطاء. الشيخ يعرف هذا، ونحن نعرفه كذلك! والشيخ يعرف كذلك، ونحن معه، أن الخروج من الفخ الطائفي ليس بسهولة السقوط فيه، وإسقاط الناس والبلاد في عتماته!

بلوى "القسمة الطائفية" أشار إليها، أيضاً، رئيس مجلس النواب، السيد أسامة النجيفي، خلال مؤتمر لمنظمات المجتمع المدني في نيسان الماضي، كما أعتقد، حيث قال : "إن المحاصصة الطائفية والحزبية أدت إلى تغييب غالبية الشعب العراقي، ودفعت بشخصيات فاسدة وضعيفة إلى مكان صنع القرار في بعض مفاصل الدولة".

وقبل مدة غير بعيدة كشف السيد رئيس الوزراء، في مؤتمر صحفي في 11/05/2011، وفي لحظة غضب وصدق في الوقت ذاته،، المحجوبَ عن المكشوف والمعروف لنا لنا جميعاً، وهو أن حكومة "الشراكة الوطنية"، في حقيقتها، حكومة "محاصصة طائفية"، حين أشار إلى أن من المعروف بأن وزارة الدفاع "لـِلمُكوّن" السني، والداخلية "للمكوّن" الشيعي!، الشيعة ينتخبون صاحبَهم، والسنة ينتخبون صاحبَهم!.

في حقيقة الأمر لا الشيعة ، كشيعة، يختارون صاحبهم، ولا السنة، كسنة، يقومون بهذا. من يختار "الصاحبين" هذين، وهو ما يجري في "حصص المُكوّنَيْن" الأخرى كذلك، هي القوائم والكتَل التي خاضت الانتخابات ببرامج وشعارات وخطابات ووعود سوَّقوها للناخب ـ المنخوب، المغلوب على أمره، بأنها عابرة للطوائف، ذاهبةٌ لتجاوز محاصصاتها، ولن تكون معاييرها في ارتقاء مناصب الدولة والحكومة "الطمغةَ" الطائفية، وإنما الكفاءة والمهنيةُ والنزاهة والوطنية. فإذا هم يحنثون بوعودهم الانتخابية هذه، ويستطيبون مواصلةَ لعبة الطوائف إلى نهاياتها التي لن تكون إلا كارثية، بالتأكيد.

رئيس الوزراء عاد، مرة أخرى، ليشير في لقاء إعلامي، في 23 من شهر آب الماضي، إلى حقيقة أن الحكومة والدستور بُنيا على قاعدة طائفية ـ إثنية، وذكر بأن الدستور "يحوي ألغاما بدأت تتفجر وليس حقوقاً، وأنتج حكومة على أساس طائفي وقومي".

مثقفون وساسة ديمقراطيون ويساريون نبّهوا إلى ذلك وأخطاره الجمّة منذ البداية. كتبوا وقالوا، وما زالوا يقولون ويكتبون، بأن الدستور والدولة والعملية السياسية ينبغي أن تكون جميعها مشاريع وطنية فحسب، وليس "خلطةً" طائفية ـ إثنية، كما هو الحال الذي انتهى بنا إليه ساسةُ اليوم المتنفذون.

جميعهم يشكو المحاصصة اليومَ، ويرفع عقيرتَه بنقدها، لكنهم جميعاً يذهبون، في الممارسة، إلى ما يُبقي عليها ويؤدي إلى تكريسها في المجتمع وفي عمل السلطة والدولة على السواء!

قبل أسابيع أعلنوا عن تشكيل لجنة تتولى ما أسمَوه "دراسةَ التوازن الوطني"(في الحقيقة التوازن الطائفي!) وتصحيحَه في وظائف الدولة والدرجات الخاصة. مهمةُ هذه اللجنة رصدُ ما يراه بعضهم "إفراغاً طائفياً" من المناصب الرفيعة، ويعتقده البعضُ الآخر "خللاً" ليس إلا.
تصحيحُ الحال، "إفراغاً طائفياً" كان أو "خللاً"، سيكون على أساس "مُكوّناتي" كما يقولون، أي على هَدْي "قسمة" طائفية ـ إثنية!. بعض الكتل تتحدث عن 100 منصب عسكري ومدني ينبغي أن يشملها "التوازن"، وبعضها يُحصي 500 درجة خاصة لم تُراعَ فيها "استحقاقات" كل كتلة، واستأثرت فيها جهة على حساب جهة أخرى، كما يقولون!
الانتماء الطائفي ـ السياسي أصبح، وفقَ منطق "التوازن" هذا درجة وظيفية. ومن الواضح أن النزاع بشأن عدد هذه الدرجات، ومن سيأخذ غنيمته منها، حاضرٌ ومُبَرْمَجٌ، إذن، من الآن، وينبغي لجمهور الناخبين أن يحجزوا أماكنهم من اللحظة للتفرج على مشاهده، ويبتهجوا بمن انتخبوهم!

العلامة الوردي أشار، قبل أكثر من خمسين عاماً، في كتابه (
وعاظ السلاطين، ص 260)، إلى مثل هذه الظاهرة فيما
نصُّه :"وهنا بدأت الطائفية في العراق تأخذ شكلاً جديداً، فبعدما كانت الطائفية نزاعاً مذهبياً أصبحت الآن نزاعاً على الوظائف. ضعُفت نزعة التدين في أهل العراق وبقيت فيهم الطائفية : حيث صاروا لادينيين وطائفيين في آن واحد. وهذا موضع العجَب!"
لقد كتب الوردي هذا في زمن لم يكن الأمر فيه مثلما هو عندنا اليوم. فما تُراه سيقول لو كان هذه الأيام بيننا؟ أظنه سيلطمُ خدَّه، ويعدو باحثاً لروحه العراقية الطاهرة عن مرقد خارجَ هذه التربة.

وما دام الناس لا حول لهم ولا قوةَ في هذا "التوازن" الذي يتنازع فيه من انتخبوهم، كما في كثير غيره، فليس لهم سوى الابتهال إلى الله أن يكون أصحاب الحظوظ في هذه المناصب الخاصة، ذوي تحصيل علمي مناسب لما سيشغلون، على الأقل،لا أن يحمل "بائع خضار" منهم مثلاً، مع احترامنا لأهلنا من باعة الخضروات وغيرهم (أنا كنت، على سبيل المثال، بائع عرقچينات ويشاميغ وبشْتمالات في وطني، وما أزال أدور بها، في الحلم، في أسواق أوربا ومقاهيها)، رتبةَ "عميد" أو "لواء" فجأةً، أو يتربع صاحبُ شهادة مزوّرة على كرسي مدير عام، طارداً عنه من هو أكثر كفاءة منه، لا لخطيئة عند هذا المواطن "المطرود" سوى أنه لا يعرف ظهيراً طائفياً أو حزبياً يتكئ عليه، أو لعله، لوطنية وصدقية فيه، وإباء عن المشاركة في لعبة فاسدة كهذه، يسمو بنفسه على البحث عن مثل هذا الظهير.

في الدول الديمقراطية حقاً، دول العدالة والقانون والمواطنة الكاملة، لا يشغل مثل هذه المناصب والوظائف غير المهنيين الكفوئين في اختصاصاتهم وميادينهم من التكنوقراط. لا أحدَ يسألهم، وهم يضعون أنفسهم ومعارفهم في خدمة أهلهم، عن عقائدهم و"المكوّنات"، أو الأحزاب التي جاؤوا منها، فتلك شؤونٌ تخصّهم وحدهم، لا تجلس معهم على مكاتب الوظيفة التي يشغلون.
في مثل هذه الدول لا يمنح الانتماء الديني والطائفي والإثني أو الحزبي حقاً لأحد، ولا يسلبُ حقاً من أحد.

نقيضُ هذا لا يحدث إلا في دول الخنادق والمتاريس الأيديولوجية والعقائدية، أي الدول غير الديمقراطية، وغير العادلة! ويُفتَرضُ أن "العراق الجديد"، إذا ما صدقنا خطاب "كتل المكوّنات" جميعها، ليس من دول الخنادق هذه!
فلماذا يدأب ساسته، إذن، على شقّ الخنادق وإقامة المتاريس السياسية والعقيدية والوظيفية والنفسية، بالتالي، في دولته وبين مواطنيه إذن، ومنح حقوق التوظّف وسواها أو منعها على ضوء هذه المعايير وتوازناتها؟!

ولا أظننا بحاجة إلى القول بأن التوازنات الطائفية التي يكدّون في الاشتغال عليها ستظل توازنات هشةً دائماً، مهما صوَّر لنا أصحابها. الدولة، وحتى المجتمع، يُصبحان، في ظلها، أشبهَ بلاعب سيرك يسير على حبل ممتد بين حافتي هاوية سحيقة، تنتظر سقوطه فيها أكثر من مرة. تاريخ لبنان وتوازناته الطائفية، رغم ديمقراطيته الأعرق من ديمقراطيّتنا، وثقافة أغلب سياسييه وحرفيّتهم عموماً، علامةُ شؤم لنا في ذلك.

عمار الشبلي، وهو قيادي في ائتلاف دولة القانون ونائب عن (التحالف الوطني)، وصف في تصريحات صحفية أشارت لها صحيفة (المدى)، في 23 من الشهر الماضي، التوازن في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية بـ "الوجه الجميل للمحاصصة".
وجه المحاصصة الطائفية يظل، بالطبع، بشعاً على الدوام، سواء لبس قناع "التوازن الوطني" أو غيره من أقنعة تزدحم بها سوق السياسة عندنا. وبمثل هذا الوجه القبيح لن تكون "دولة العدالة والمواطنة والمدنية والديمقراطية" التي يُكثر المسؤولون من الحديث عنها غير وهمٍ آخر يُضاف لأوهام كثيرة تغشى بصائرنا.

ليس هناك، بالطبع، من نص دستوري يُبيحٌ مثل هذه "القسمة الطائفية"، مثلما لا يوجد أيّ نصٌّ يُطَوِّبُ أيَّ منصب في الحكومة أو الدولة، تنفيذياً كان أو تشريعياً، لهذا "المُكوّن" أو ذاك، نزولاً من منصب رئيس الجمهورية ونوابه، ومروراً بموقع رئيس الوزراء ونوابه والوزراء ووكلائهم، ورئيس مجلس النواب ونوابه، وانتهاء بالسفراء ومن معهم، وحتى أصغر موظف فيهما : الحكومة والدولة.

ولما كان الدستور لا يفتح السبيل لمثل هذه "القسمة" فقد عمد القومُ إلى تصريفها بأن سنّوا لها "عُرْفاً" توافقوا عليه بوصفه
"مقاولة سياسية" بين ساسة "مكونات"، تؤسس لحالة لبنانية عندنا، وتكرّسُها وتدفع الناسَ لقبولها والاعتياد عليها، بصرف النظر عن عدم دستوريتها. أطلقوا عليها مرةً "وحدة وطنية!"، ومرةً "توافقاً وطنياً!"، ويسمونها اليوم "شراكة وطنية!".

وسواد "العُرف"، أياً كان، يشترط أن تتمسك به الأطراف المتعاقدة، المتقاولةُ عليه. وما دام "عُرف" ساسة الكتل الكبيرة
في بلادنا هو "تحصيص" الدولة ووظائفها بين "ممثلي" الطوائف والإثنيات، الكبرى خاصة، وتوريثها لهم، فلا يجوز لأيٍّ منهم أن يخرج عن "الحَيِّز" الطائفي ـ الإثني الضيق الذي وضع "العُرف" حدودَه له، ويذهب إلى الفضاء الوطني الواسع. يُمكن له أن يخرج عنه شكلياً بالطبع، أي أن ينافقَ فيخطب خطاباً وطنياً، مدنياً علمانياً مثلا. ولكن يجب عليه أن يظل ممسكاً بطرفه الخاص من "المعادلة" الطائفية ـ الإثنية، أي أن يكون حاملاً لراية "مُكوّن طائفي" في الأساس. ولا ضير، بعدها، أن يقول ما يقول، فالجميع يلعب هذه اللعبة!

المُهمُّ أن يظل "البُعد الطائفي ـ الإثني" للكتلة السياسية حاضراً، وليس لها أن تُغادر هذا "القفص" طالما "الشركاء" يُفضلون، من الناحية العملية، حوار "الأقفاص" المغلقة على جدل الفضاءات الوطنية المفتوحة وحواراتها!

تكريس "عرف" المحاصصة الطائفية ـ الإثنية على الضد من الدستور، وخداع الناخبين عبر خطاب آخر، لا طائفي، كاذبٍ في الحقيقة، ذي دور تمويهي، يكفيان وحدهما، في المجتمعات الديمقراطية التي تحترم نفسها، لإلغاء شرعية الانتخابات وما نتج عنها وترتب عليها. هذا أمر يُفتَرَض بالسيد حسين معرفته.

كلّ هذه المثالب والشرور التي تنطوي عليها "المحاصصة"، واللعنات التي يوجهها لها، حتى ساسةُ الطوائف أنفسهم، وشكواهم التي لا تنقطع منها، لايراها السيد حسين ولا تصل إليه، كما يبدو، أو أنه لا يريد أن يسمعها ويفقهَ الحقائق الكريهة التي تُنبئ عنها. سماعُ هذه الأصوات واللعنات، وتمييز الصادق من صاحب القناع فيها، وإدراك مخاطرها على الوطن والدولة والمجتمع، قد تُعينُ السيد حسين على اكتشاف "النغمة النشاز" حقاً، والاهتداء، في النهاية، إلى أن "النغمة النشاز" هي نغمته وحده.

ولكي أريحَ السيد حسين أقول له : بلى، نحن أهل "أنغام نشاز" في هذا الأمر، وفي كل ما ننظر إليه بمنظار غير ذاك الذي يرى هو، ومن يُفكر مثله، الأشياءَ من خلاله. ولكن "نشازنا" هذا غير "نشازه". نحن ناشزون بالمعنى اللغوي الأساس للكلمة، فـ"النَشْز" و"النشاز"، في معاجم اللغة، يعنيان "المَتنَ، أو المكان، المرتفع من الأرض"، فإذا نشزَ الرجلُ ارتفع في المكان وعلا. وفي هذا السياق ورد في (الحديث) : "أنه كان إذا أوفى على نَشْز كبَّرَ". وفي (الكتاب) نقراُ : "وإذا قيل انشُزوا فانشُزوا" (
المجادلة، 11)، أي انهضوا وقوموا للصلاة. أما النَشزةُ من الدواب فهي الدابة التي يصعُب ترويضُها، فلا يكاد يستقر سَرْج عليها، أو يستوي راكبٌ على ظهرها. وإذا "نشزت المرأة بزوجها، ومنه وعليه، فهي قد ارتفعت عنه وعصت عليه، وأبغضته، وخرجت عن طاعته". ولعل السيد حسين يوافقني، مادام ديمقراطياً ولبرالياً كما يرى، على حق المرأة المظلومة في كسر الأقفال التي تُغلق فمها وتُكَبِّلُ عقلها وروحَها، وعصيان ذكور الثقافة البطرياركية وبعولها، والخروج عن طاعتهم.

بهذه المعاني جميعها نحن قومٌ "نشاز"، نخرج واعين، عامدين وقاصدين، على "محاصصة" لا تلد غير الأزمات والكوارث، ويريد لها أصحابها أن تكون، رغم هذا، قاعدة للسياسة والدولة والمجتمع، والحياة عموماً، في وطننا. ولأننا نسعى إلى أن نكون ديمقراطيين حقاً، نُقِرُّ بأنّ لغيرنا، ومنهم السيد حسين بالطبع، الحقَّ ألاّ ينشزوا، وأن يستمرئوا السُكنى في "بيت طاعة" الذَكَر ـ السلطان طوال حياتهم!



جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (2) في هويـة الدولــة وعلاقتـها بالناس
جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (1) نقـد السـلطة أم العـداء لهـا؟






 


 

free web counter