| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حميد الخاقاني

 

 

 

                                                                                       الأثنين 10/10/ 2011

 

جـدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين (1):

نقـد السـلطة أم العـداء لهـا؟

حمـيد الخاقاني

نشر الدكتور عبد الخالق حسين، في 17/03/2011 ، مقالة في (الحوار المتمدن) بعنوان "العداء بين الشعب والسلطة". وقد لفت انتباهي إليها، صدفة، الصديق الاستاذ عبد الرزاق الصافي، بعد مُضيّ وقت غير قليل على نشرها. في مقالته هذه يناقش السيد حسين كتابةً لي، ظهرت في (صوت العراق)، ومواقع أخرى، قبل نشره لمقالته بأربعة أيام، حملت عنوان (لتَعُدْ أموالُ الدولة للدولة . . . ولْتَعُد الدولةُ للناس). كان منطلق كتابتي تلك قرارَ رئاسة الوزراء بإخلاء مقرات الحزب الشيوعي العراقي و(حزب الأمة العراقية) في بغداد. وهو قرار قام من أصدره بإعادة النظر فيه، وتعليقه، فيما بعد، وإرجاع الأمر إلى مسراه القانوني، الطبيعي الذي كان عليه، أي تسوية القضية ما بين الحزب الشيوعي ووزارة المالية.
ولأنني أرى فيما أكتبه، ويكتبه غيري، قراءةً لظواهر وأحوال بعينها، وأن القراءات، جميعها، اجتهادٌ يحتمل الصوابَ والخطأ، فقد قرأت مقالةَ الدكتور حسين بإمعان، وأعدتُ قراءة مقالتي، على ضوئها، بإمعان كذلك. فالكتابة عن كتابة أخرى، في نظري، جدلٌ وتفاعلٌ بين الكتابتين، يعود بالنفع لمن يقرأ هاتين الكتابتين، ولكاتبيهما أيضا، سواء تطابقت نظراتهما أو اختلفت.
ولعل الدكتور حسين يوافقني على أن من الجميل والنافع لنا جميعا، ولوطننا خاصة، أن تكون لنا آراء واجتهادات مختلفة في هذا الأمر أو غيره، شرطَ أن نقرأ بعضنا البعض دون أحكام مُسبَقَة، جاهزة، ونكون قادرين على الأخذ من بعضنا البعض، والعطاء لبعضنا البعض، والتروي قبل الحكم على بعضنا البعض من خارج ما كتبوا أو فعلوا.

كلنا يعرف أن الاتفاق في كل شيئ ضرب من المستحيل، فضلا عن أنه يبعث على الملل، ولا يدل على عافية في العقل والروح، ويشير إلى موات يحيق بهما. وبهذه المعانى أقرأ، الآن، كتابةَ الدكتور حسين عن كتابتي تلك، في حلقات خمس، ساعياً فيها لتناول جوانب مما قال.
وهي جوانب تقوم، مثلما أرى، على قراءة خاطئة لمقالتي، ذهب صاحبُها، من خلالها، إلى إطلاق تشخيصات عجولة، وأحكام جازمة، لا رويَّةَ فيها. وهذا في موضوعات أظن أنها ذات آثر كبير في حياة بلدنا وأهله، تستدعي، في تقديري، البحثَ المتأمل، واستحضار تجارب التاريخ، ومعاينة الواقع وظواهرة بعناية، وإثارة الأسئلة بشأنها، قبل إلقاء الاستنتاجات السهلة، السريعة في وجه القراء، وإشاعة الوهم بأن كل شيئ عندنا، ووفقا لظروفنا، على ما يُرام، أو أنه أفضل الممكن، أو لعله ليس بالسوء الذي يقوله هؤلاء المثقفون المسكونون بعداء السلطة!، ويصوره أولئك المتظاهرون الملعونون، المشاغبون الذين يريدون وأد "الديمقراطية الوليدة"!.

هذا كله أجده جديرا بالتعليق والتصويب والردّ، حتى لا نكون، هو وأنا، والعياذ بالله، ممن "يساهمون في تضليل الجماهير، ودفعها ضد مصالحها"، مثلما يقول هو، وكأن هذه "الجماهير" لا تعرف طريقها، ولا تفقه مصالحها!.

ينطلق الكاتب مما يطلق عليه ظاهرة أنّ "في البلاد العربية عامة، والعراق بخاصة، هناك عداء مستفحل ومزمن بين الشعب والحكومة". وبعد أن يشير إلى أنّ "مفهوم الدولة أكبر وأوسع من مفهوم السلطة"، وهي إشارة صائبة، في الإطار العام، وأن الأخيرة متغيرة، والأولى ثابتة، ويورد ما هو شائع عن العناصر التي تتكون منها الدولة، ينتهي إلى "أن هناك إصرار، حتى من قبل بعض المثقفين، على معاملة ممتلكات الدولة وكأنها ممتلكات الأعداء وغنائم الحرب، يجوز لكل من يريد احتلالها، وليست ممتلكات الشعب".

وأرى هنا أن السيد الكاتب قد اخترع، للأسف، "اصراراً" نسبَهُ إلى "بعض المثقفين"، دون أن يدلل عليه، حتى بجملة واحدة مما كتبه هؤلاء المثقفون، تجعلنا نأمن لما زعمه عنهم، من أنهم يُعاملون"ممتلكات الدولة معاملة الأعداء وغنائم الحرب".
أعرف أن من توسوس له رغبته المسبقَةُ اختراعَ شيئ، لا وجود له خارجَ مخيلته، يعجز عن إيجاد الدليل عليه، فيجنح إلى إلباس ما يقرأه الثيابَ التي يرغب هو في أن يراها عليه. وعندها لا تعدو مثل هذه القراءة عن أن تكون افتراء على هؤلاء المثقفين، من جانب، وتضليلا للقراء من جانب آخر. ولكلا الحالين أحكامهما في شرائع السماء والأرض، وفي شرعة الأخلاق ـ أخلاق الكتابة ـ كذلك.

ثم أن السيد الكاتب، ونحن معه، نعرف بأن من تعامل مع أملاك الدولة، بهذه الروح، وما يزال، ليس المثقفون أو بعضهم (هؤلاء يواصلون نقدهم لهذه الأفعال وفضحَها)، وإنما الأحزاب، وفي مقدمتها أحزاب السلطة، من أهل "التدين السياسي" خاصة، ممن يُفترَض الورعُ فيهم، والخشيةُ من الله، ومن أسئلة القبر ويوم الحساب.

لقد ورد في نشرة (الملف)، في بغداد، في 8 أيار الماضي، بأن تقارير (لجنة النزاهة) في البرلمان العراقي تشير
"إلى أن الخارطة العمرانية للعاصمة بغداد تغيرت منذ العام 2005 بنحو 40% نتيجة التعديات على الأملاك العامة من قبل مسؤولين وسياسيين متنفذين". الاستحواذ على هذه الأملاك يستند على "تخريج شرعي غريب!"، تؤمن هذه الأحزاب بموجبه، كما تقول النشرة، "بأن هذه الأملاك تعود للنظام السابق ولا ضير في أخذها أو مصادرتها".
المثيرُ للدهشة أن هذه العقارات والقصور والبساتين لا تُصادَر لحساب الدولة، بل "تحولت، بقدرة قادر، إلى عقارات خاصة، مملوكة من قبل متنفذين أو اشخاص يمثلونهم". لقد حدث ذلك، ربما، مقابل أثمان بخسة لتحليل المُحَرَّم، وإظهاره بثوب قانوني، وإن كان مُهَلهَلاً.

ألا يرى السيد حسين في هذه الأفعال، وكثير من مثيلاتها، نوعاً من "فرهود مُشرعَن" لأملاك الدولة، صوَّرتْ له نفسُه، وقراءته الخاطئة لما كتبتُ، أنني، ومثقفون آخرون، ندعو إليه!.
ثم أليس الحَريُّ بنا يا سيد حسين، ونحن نحرص على أموال الناس، أن ندعوَ هذه الأحزاب، وسواها، وبالحماسة ذاتها، إلى إطلاق سراح أملاك الدولة، وعدم التعامل معها بروح الغزو القديم وأسلابه وغنائمه؟

ويبدو لي أن السيد حسين قد جانب الصواب، مرة أخرى، حين وضع ما كتبته في سياق ما يُطلِق عليه "الهجوم الشنيع على الحكومة بسبب مطالبتها باستعادة أملاك الدولة"!. ومصدر عدم الصواب هنا أن الكاتب قد وصل، في تقديري، إلى استنتاجاته هذه، دون مقدماتها المنطقية التي ينبغي البحث عنها، بأمانة، في النص المنقود نفسه. ولما كان النص لا ينطوي على مثل هذه المقدمات ظلت استنتاجاته رغباتٍ معلقةً في الهواء. ولا عجبَ، عندها، أن يكون نقد المثقفين، أو بعضهم، للسلطة، في عرفه، وليدَ عقدة "عداء مستفحل ومزمن بين الشعب والحكومة" لا غير، وليس نقداً لممارسات وإجراءات، وأداء حكومي قاصر، وازدواجية أخلاقية تُفصِح عن وجهَين متناقضين، ومُنافقَين بالتالي، في التعاطي مع أملاك الدولة ومسائل أخرى كثيرة.

يجنح الدكتور حسين، كما لاحظتُ في بعض كتاباته، إلى البحث عن دوافع نفسية "مَرَضية" ينسبُ إليها نقدَ قطاعات من المثقفين والناس الآخرين للسلطة، سواء كان هذا النقد كتابة أو مظاهرات احتجاج، ويوقفه عند هذه الدوافع لا غير.
المشكلةُ ليس في هذا الجنوح وإنما في أن صاحبه لا يمتلك منهج البحث العلمي عن هذه الدوافع وأدواته، فإذا به يُسقِطُ ما يقرأه، هكذا ببساطة وعجالة، على ظواهر معقدة، من قبيل العلاقة بين السلطة ونقادها، ويَسقُط هو وكتابته في سذاجة التعميم وسطحيته، في النهاية. وفي مثل هذه الحالة يعجز، بالطبع، عن أن يرى في نقد هؤلاء الناس للسلطة تعبيراً عن مواقفهم من ممارسات وسياسات، ومشاريع فكرية وسياسية واجتماعية، يرى هؤلاء المثقفون، وأنا واحد منهم، أنها لا تُخرج بلادهم من أزماتها، بل تُسهم في إغراقها فيها، وتعطيل حركتها نحو المستقبل. وهي أحوال ما نزال نعيشها منذ سقوط طاغية الأمس إلى يومنا هذا.

السلطة، أيةَ سلطة كانت، والأحزاب عموماً، من يحكمُ منها، ومن يعارض، لا تستطيب غير المديح، وتضيق بالنقد، شديدا كان، أو ناعماً. وإذا ما اتسع صدرها لنقد ما، فهي تُفضّله أن يكون همساً، أي النقد خلفَ الكواليس، وفي الغرف المغلقة، النقد الذي لا يخدش حياءها، وينزع عنها أقنعتها.

من الطبيعي للسلطة والأحزاب، خاصة تلك التي ترتاب في المختلف معها، والمخالف لعقائدها، وتنظر إليهما على أنهما خطرٌ ماثل، أو مؤجلٌ عليها، أن ترى في نقدهما المكشوف نوعاً من "الهجوم الشنيع"، غير المبرر، كي تُبطلَ نقدهما، وتحاصرهما، وتبطشَ بهما، إذا ما حان زمان البطش!.
ولكن أن يصنّف كاتب يرى أنه "مستقل"، "ديمقراطي" و"لبرالي" ربما، نقدَ السلطة، حتى المؤسَّس منه، على أنه "هجوم شنيع" عليها، فأمر يثير الاستغراب حقاً!. أليس النقد والاستماع إليه، حتى لو كان مزعجاً، والجدل معه حجةً بحجة، وموقفاً بموقف، والتعلُّم منه، وليس اعتساف تحميله ما ليس فيه، من الشروط الجوهرية للديمقراطية؟ فما بال "ديمقراطيينا" و"لبراليينا" هؤلاء تضيق صدورهم بالنقد، ويركب العُصابُ عقولَهم حين يقرأون، أو يسمعون نقداً يخالف ما ذهبوا إليه؟

ثم ألا يعتقد الدكتور حسين أن شدةَ نقدٍ ما، غالبا ما تأتي موازية لشدة العيب والخَطَل فيمن، أو فيما، يجري نقدُه، خاصة إذا قدَّر الناقدُ أن ذاك العيبَ، وهذا الخَطَلَ، يتعلقان بمصائر الأوطان وأهلها؟ ألا يتفق معي بأن السلطةَ، والديمقراطيةَ نفسَها، خاصة "الوليدة" منها، والنظام السياسي، أيّ نظام كان، بحاجة إلى النقد، حتى لو افترضنا أن بعض هذا النقد شديد، وخاطئ ربما؟ فلماذا إذن نلصق بمثل هذ النقد، حتى الشديد منه، ما دمنا لا نستطيبه، صفةَ "الهجوم الشنيع"، الصادر عن عقدة "عداء مزمن" يُعزى لأحوال نفسية ما، نتوهمها نحن، ونعممها على فئات من الناس، أو حتى على شعب بكامله، بعد أن قرأنا كتاباً في علم النفس، وقع بالصدفة في أيدينا، وكأن هذا النقدَ لا علاقة له بأحوال وظواهر شاخصة، قائمة، يجدر بنا نقدُها؟

ثم أنني لا أدري كيف رأى السيد حسين أن سببَ نقدي للسلطة هو مطالبتها باستعادة أملاك الدولة!. في مثل هذا القول تقويلٌ لكتابتي، بغير ما نطقت به، وذهابٌ بها إلى أماكن وزوايا لم تقصدها هي، بل أرادها لها هو نفسه. لماذا؟ لا أدري، فذلك أمرٌ سرُّه عنده وحده!.

لقد اخترت لمقالتي تلك، وبقصد واع، عنواناً يتكون من جملتين فعليتين، تبدأ كلٌّ منهما بـ"لام الطلَب" الذي يتضمن، في الجملة الأولى طلبَ عودة أملاك الدولة للدولة، ومنها المبنيان اللذان يشغلهما الحزب الشيوعي، بالطبع، رغم أنه مؤجِّر لهما، وبطلب منه، وثمة مفاوضات بينه وبين وزارة المالية، بهذا الخصوص، يُفترَض برئاسة الوزراء أن تكون على علم بها، وأن تنتظر نتائجها قبل اتخاذ قرار ما بشأنها، وتوجيه قوة عسكرية، وليس موظفين من الوزارة صاحبة الشأن، لتنفيذَه في أربع وعشرين ساعة!، لكنها تسكت، في الوقت نفسه، أو تماطل في إعادة أملاك اغتصبها طاغية الأمس من الشيوعيين، تزيد قيمتها على ما يشغله الحزب الشيوعي، الآن، ايجاراً. وفي السياق ذاته، نراها نائمة، على الأقل حتى الآن، عما بحوزة أحزاب السلطة المتنفذة، وعدد من ساستها الكبار، من أملاك الدولة وعقاراتها!.

أمن المألوف أن تمضي الأشياء على هذا النحو، في دولة القانون ، المدنية، الديمقراطية التي يقال للناس، ليلَ نهارَ، أنهم ينعمون بالعيش في ظلها، أم أن للدكتور حسين رأياً آخر؟

في الجملة الثانية، من عنوان مقالتي، ينطوي "لام الطلب" هذا على طلب عودة الدولة للناس، لأنني أرى، وهو ما سعيت للتدليل عليه في المقال المذكور وكتابات أخرى، أن الدولة، بعد انتزاعها من مخالب الطاغية ومن والاه، لم تعد للناس بعدُ. وأفترض أن السيد الكاتب يعرف أن كلمة "بعدُ"، في نهاية الجملة، تشير إلى عملية عودة لم تُنْجَزْ بعدُ، و ينبغي أن تُبـذَل جهودٌ لإنجازها. وما الكتابة في هذا الأمر سوى بعض هذه الجهود، خاصة وأننا ما نزالُ نعيش أحوالاً، الأشياءُ مختلطةٌ وهجينة في كل حقل من حقولها. اختلاطُ الأشياء وهُجنتُها، بعد ثماني سنوات من التغيير، مسؤولية الأحزاب السياسية المتنفذة و"نخبها!"، أساساً.

لقد حدد عنوان مقالتي بجملتيه هاتين، صياغة ومضموناً، منهجَ كتابتي تلك، وروحَها ومقاصدَها، دونما لبس، كما أعتقد.
ولكن السيد حسين يفترض، من عنده هذه المرة أيضاً، ولسبب أجهله، أنني قد رهنتُ، في كتابتي، عودةَ أملاك الدولة للدولة بعودة الدولة للناس، وهو افتراض لا دليل عليه من داخل النص المنقود مطلقاً. فمع أنني ما زلت أؤمن بأن الدولة، عندنا، لم تصبح دولةَ الناس بعدُ، وبالمعاني التي حاولت توضيحَها في هذه الكتابة وكتابات أخرى، إلا أنني لم أُعلِّق في المقالة إياها، أبداً، تحَقُّقَ إعادة أملاك الدولة للدولة، على تحَقُّقِ عودة الدولة للناس، كما تزعم مقالة الأستاذ حسين. فأنا لم أستخدم، في هذا الخصوص، أيّاً من أدوات الشرط، وصيغه الكثيرة التي تعرفها العربية، حتى يقعَ الكاتب في هذا الزعم. وأظن أن الدكتور حسين قد درس قواعد هذه اللغة، يوما، ويُفتَرَض أن يكون عارفاً بها، خاصة وأنه يدأب على الكتابة فيها.

السطران الأولان من مقالتي يدحضان، وحدهما، وجود الشروط الوهمية التي تتحدث عنها مقالة الكاتب. هذان السطران يقولان :" لا أحدَ منا يجادلُ في أن تعود أملاك الدولة للدولة. فأملاك الدولة، كما نراها، أملاك الناس، رغمَ أن الدولة، عندنا، لم تصبح دولةَ الناس بعدُ". وكما يلاحظ القارئ، والدكتور حسين معه، فأن الجملة الأولى، في هذا السطر، تبدأ
بـ(لا النافية للجنس). وأفترض أن الدكتور يعرف بأن النفيَ، بواسطتها، نفيٌ مُطلقٌ للجدل في هذا الأمر، لا مكانَ للاحتمال فيه. ثم أن صيغةَ (رغم أنّ) الواردة في المقطع نفسه، لا تعني، هنا، غير التشديد على عودة أملاك الدولة لها، بمعزل عن أن هذه الدولة لم تعُدْ، من وجهة نظري، للناس بعدُ. أيُّ قارئ نبيه يدرك هذا، دون عناء. فلماذا لم تُسْعف نباهةَ السيد حسين صاحبَها هنا أيضاً؟

وبعد ستة مقاطع، تناولت فيها، وبأمثلة حية من تجارب وطننا، كيف تصادر السلطات والحكام، والأحزاب القائدة، الدولةَ والوطن، وحتى الشعب أحيانا، عدتُ وأكّدتُ المعنى الذي نطق به سطرُ المقالة الأول، حيث كتبت :"ورغم هذا كله أعود للقول، ثانية، أن لا أحد فينا يُجادل في عودة أملاك الدولة للدولة"، أي رغم مصادرة الحكام، أو الأحزاب الحاكمة، للدولة فأن أملاكها، وهي أملاك الناس، يجب أن تعود إليها. وقد ذهبت مرتين أخريين لمثل هذا التشديد، وفي موقعين مختلفيْن من مقالتي، إذ ذكرت في أولاهما ما نصه :"لكن هذا كله لا يعني، بالطبع، أن لا تعود أملاك الدولة، ومنها المباني مصدرُ الضجة، للدولة، حتى وإن لم تصبح الدولةُ دولةَ الناس بعدُ". وقلت في الثاني منهما، قاصداً الناسَ، ونفسي، والأحزابَ الحاكمة :"وما دمنا نريد لأملاك الدولة أن تعود إليها، فلْنُعِن الحكومةَ على استعادتها جميعها، فالأملاك أملاكنا، في النهاية".

هذه المقاطع جميعُها تنطقُ بلسان عربي فصيح بانتمائي إلى عودة أملاك الدولة للدولة دونما قيد أو شرط. ولست أظن أن صياغتها تنطوي على إبهام أعيا السيدَ حسين فهمُهُ.

ولكن رغم هذا كله ينتهي الكاتب إلى استنتاج شديد الغرابة، وذلك حين يقول:" فلو أخذنا بتفسير الاستاذ الخاقاني بعدم عائدية الدولة للشعب، وبالتالي عدم عائدية ممتلكاتها للشعب، فهذا يعني أنه يجوز لكل من هب ودب، وكل من يتمكن من أفراد وجماعات وأحزاب بالاستحواذ على ممتلكات الدولة".
واضح أن هذا التفسير تفسيره هو، وكان يمكنه الاحتفاظ به لنفسه، لكن القراءة الخاطئة ومقاصدَها المُسبقةَ، ونهجَها العُصابي في تناول الأشياء، وإسقاطَ ما ليس في النص المقروء عليه، هذه كلها أخذت السيد حسين إلى حال صار ينسب، فيها، إليَّ تفسيراً هو ليس مني. مثل هذا التفسير صناعةُ مخيلته هو. ونجد في مقاله المذكور غيرَ القليل مثلَه.

أما كيف اهتدى لمثل هذا التفسير العجيب، وبأي عين قرأ كتابتي، أو بأي عقل عقلَها، بحيث رأى فيها "دعوة للفوضى العارمة"، فتلك أمور علمها عند الله والراسخين في علم النفوس، وعنده كذلك!.

لم يكن ثمةَ لبسٌ في اعتقادي بأن أموال الدولة وأملاكها هي للناس، ويجب أن تعود إليها وإليهم، وهو موقف تدلل عليه الاقتباسات التي أوردتها من مقالتي تلك. ولأنني أؤمن بعودة هذه الأملاك لأهلها حقا، لا تدليساً، فقد رأيت أن من الوطنية والعدالة والأخلاق أن أشير إلى نماذج مما استحوذ عليه أهل السلطة وأحزابهم من أملاك الدولة، وكيف يُقطعون، تحت واجهات شتى، وبأثمان بخسة، من أراضيها وعقاراتها لأصحابهم، مثلما كان يفعل خلفاء "المُلك العضوض" وسلاطينه في سالف الزمان!.

أحد الأمثلة التي أشرت إليها، في هذا السياق، كان منح أرض وعقارات (جامعة البكر العسكرية)، مقابل ثمن رمزي، لإقامة جامعة دينيية، يرأسها واعظ وقارئ قصص ديني، لم يحصل، كما تقول لجنة النزاهة في البرلمان، حتى على شهادة المدرسة الثانوية!.
لجنة النزاهة رأت في ذلك، مثلما أعلنت قبل مدة قصيرة، هدراً للمال العام، وفسادا مُقنناً، بلباس ديني هذه المرة. وقد ذكرت الأنباء، مؤخرا، أن (محكمة االتمييز) أبطلت عملية المنح ـ الشراء هذه!
وكلنا نعرف أن لهذه الحال شقيقات كُثْراً، ما هنَّ إلا نماذج فاضحة لازدواجية الأخلاق عند كثير ممن يحكمون، وإساءة كبيرة للدين ممن يدّعي حملَ راياته.

لم يكن الدافع في نقدي للسلطة، إذن، طلبُها إعادة المباني إياها للدولة، مثلما توهمَ الدكتور حسين، وأوهمَ قارئَه بوهمه.
كل قارئ ذي بصيرة يدرك، بيسر، أن مصدرَ نقدي هو نفاق وازدواجية أخلاقية في السلطة، لم تتجلَّ في هذا الإجراء وحده، وإنما نجد لها صورا كثيرة في سياسة هذا الزمن العراقي، حتى غدا التناقض بين خطاب غالبية الساسة وممارساتهم العملية سمةًَ في المرحلة التي نعيش.

لا يُمكن لأحد أن يزعم لنفسه بأنه، وحده، من يدُلُّ الناسَ على الطريق المستقيم، والناس يرونه يسلك طرقاً لا علاقةَ لها بطرق القانون، ولا بطرق الرب، أللهم إلا بتأدية ظاهر الطقوس، وارتداء قشورها، والحرص على إبراز مظاهر "التدين" الخارجية، دون تَمثُّل ما تنطوي عليه من جوهر أخلاقي والتقيد به.
الكثيرُ من "الدين" يُفتَرَض أن يعنيَ المزيدَ من الأخلاق، وليس الضد، كما نعيش ونرى!.

إذن فنقدي لازدواجية الإجراء أخلاقياً، هو تذكير بالأخلاق كذلك، وتحفيزٌ على البقاء عندها. ويُمكن للدكتور حسين أن يرى فيه فعلَ خير لأهل السلطة، حتى لا يصِحّ فيهم ما كان يردده أبو ذر الغفاري، في منفاه الشامي بعد كل صلاة فجر، وهو يلعنُ من يدعو إلى المعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه!.

وأظن أن الدكتور حسين لا يخالفني الرأيَ، أنه من غير الجائز للمرء، المؤمن خاصة، أن يدعوَ إلى خُلُق، أو يمنعَ عن غيره، ولا يبدأ، في الحالين، بنفسه، فينطبق عليه قول الشاعر:

لا تنهَ عن خُلُق وتأتي مثلَه عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ

صدقيةُ السلطة، أية سلطة كانت، بوصفها مرجعية للحكم، تتصدع، في نظري، إذا لم تكن راعية للعدل، ومثالا في الأخلاق، ونموذجا في الصدق، تنشد الحقَ والعدل، وإن كانا على غير ما تهوى. ولا بد أن أهل السلطة، عندنا، قد قرأوا في كتب الفقه، أو سمعوا من علماء الدين، أن من أخلاق الصدِّيقين أن يطلبوا الله والدين الحق بالصدق والعدل. وقد قال بعض أهل الصدق من أسلافنا: "وأفضل الصدق استواء السر والعلانية". فكيف حالنا، إذن، بساسة يشيرون، في العلن إلى شيئ، ويقصدون، في السر، ما هو ضده؟. النبيهُ من الناس لم يعد يصدقهم، والكثرةُ حائرون بهم، وكأن لسان حالهم يردد ما يقوله اخوتنا المصريون بلهجتهم الشعبية:"اسمَعْ كلامَك أصدَّقكْ، أشوفْ عَمايلَكْ أتْعَجبْ!".

ولست أدري إذا كان الدكتور حسين يوافقني على أن قيماً أخلاقية كثيرة، أخذت تضيع بين أرجل الساسة، من الأحزاب المتنفذة والموالين لهم خاصة. كان الحال هكذا في زمن الطاغية، وما يزال، للأسف، هكذا في الزمان الذي تلا زمانَه.

ضياعُ الأخلاق عند "عِلْيَة القوم!" وأهل السلطة، أيةَ سلطة كانت، يشيع اللاأخلاقَ في المجتمع، عموماً، فالحكام، كما تعلمنا التجارب، مَثَلٌ يُحتَذى في الحُسن والقُبح، على السواء. وكان المُنتَظَر من ساسة لا يبدأون قولاً إلا بـ"بسْملَة" ولا يستأنفونه إلا بـ"سَبْحَلَة"، ولا ينتهون منه إلا بـ"حَمْدَلَة" أن يصدقوا ويعدلوا في القول والفعل، فهم لا شك يعرفون الآية الكريمة: "واقسطوا إن الله يحب المقسطين" (
الحجرات:9).
ومثيلات هذه الآية في (الكتاب) كثْرٌ، يقرأها القوم أو يسمعونها خاشعين، وقد يرددونها صباحَ مساء، لكن أكثرهم لا يتمثل معانيها، ولا يمتثل لأحكامها حين يتعامل مع الناس والأشياء، وكأن بريق السلطة والهُيام بها لم يُبقيا للدين من دور، عندهم، سوى أن يكون وسيلة للدنيا، والاحتفاء بما أعطتهم من نفسها!.

وفي هذا كله دلالة أخرى على أن الكلام الجميل، أيا كان مصدره، أي حتى كلام الكتب المقدسة، لا يكتسب معانيه الحقيقية إلا في الحياة، وفي الممارسة الفعلية لمن يرددونه ويؤمنون به. لقد أظهر لنا تاريخ الأفكار الكبرى، دينية أو غير دينية، أن فقدان التطابق بين الأفكار والحياة، وبين قول من يحمل هذه الأفكار وفعله، لا يمنح الناس، في النهاية، غيرَ الكلام الجميل، والحلم الجميل الذي يظل حلما لا غير.


 

 

free web counter