| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

داود أمين

 

 

 

الأربعاء 2/6/ 2010

 

إلى روح الصحفي الشهيد سردشت عثمان

حرية الفكر والتعبير عن الرأي !
(4)

داود أمين

( الزندقة ) تهمة جاهزة للمُخالفين !!                                
يمكن إعتبار لفظة ( الزندقة ) ألاشد جدلاً وإثارة في التأريخ الآسلامي , فتحت هذه اللافتة المُلتبسة ظُلِمَ وجُلِدَ وصُلِبَ ونُفي وقُتِلَ الكثير من العلماء والآدباء والمفكرين العرب والمسلمين , في حين كانت الآسباب في الجوهر عدائية شخصية , ولا تمت بصلة للآديان والقيم , فمفهوم ( الزنديق ) نفسه مُختَلف عليه فمنهم من يقول إن الزنديق هو من لا يؤمن بالأخرة ويوم الحساب , أي الذي يقول بدوام الدهر , في حين نَسَب البعض الزنديق لمذهب (الثنوية) أي القائل بوحدة النور والظلمة , ومُنكِر الربوبية ! وقال أخرون أن الزنديق هو من يُبطن الكفر ويُظهر الآيمان , في حين إن الحديث النبوي يعرف المسلم بأنه ( من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن أو مسلم ) في حين يتمادى الفقيه النووي في تعريفه الزنديق إذ يقول ( هو الذي يعترف بالدين ظاهراً أو باطناً !! لكنه يفسر بعض ما ثبت من الدين بالضرورة بخلاف ما فسره الصحابة والتابعون وأجمعت عليه الآمة ) بمعنى أن مجرد تفسير شخص يغاير التفسير السائد للنصوص الدينية يعتبر زندقة وظلالاً في رأي الفقيه النووي !! والمعروف أن جملة ( الصحابة والتابعون وأجمعت عليه ألامة ) حمالة أوجه وإجتهادات لها أول وليس لها أخر ! وهي في كل ألاحوال ما يقره السلطان الحاكم وما يؤيده فيه من رهط السحرة وجوقة المطبلين والمنتفعين الملتفين حوله ! وبهذا المعنى يقول الشاعر ( إبن الوردي ) :    
  
والناس أعداء من سارت فضائله               فإن تعمق قالوا عنه زنديقُ      
        
ويقول الشاعر العراقي ( جميل صدقي الزهاوي ) الذي أتهم أيضاً بالزندقة :  
         
قلتُ    الحقيقةَ    طالباً   أن  ينظروا            فيها فقالوا : مارقٌ   زنديق    
          
وقد إشتهر الخليفة العباسي ( المهدي ) في إضطهاده لمن سماهم الزنادقة , إذ بدأ حملته العنيفة ضدهم سنة 163 هجرية , بعد أن أمر قاضيه ( عبد الجبار المحتسب ) بالقبض على كل الزنادقة الموجودين في البلاد , فقبض هذا القاضي على من إستطاع القبض عليه منهم وجاء بهم الى الخليفة الذي أمر بقتل بعضهم وتمزيق كتبهم , وإستمر المهدي في هذا الآضطهاد عدة سنوات حتى بلغ القمع غايته القصوى في الفترة بين سنة 166  وسنة 170 هجرية , وكان يُشرف على هذه العملية القمعية المنظمة قضاة  مخصوصون أشهرهم ( عبد الجبار المُحتسب ) و ( عمر الكوزي ) ثم ( محمد بن عيسى حمدويه )
ولم يكن المتهمون بالزندقة هم زنادقة حقاً , وإنما أتهموا لآسباب سياسية , إذ إتخذ الخلفاء العباسيون من هذا ألاتهام وسيلة مضمونة للقضاء على خصومهم من الهاشميين , وقد حارب الزنادقة بالآضافة للمهدي الخليفة الهادي وكذلك الخليفة المأمون .           
أحرار قتلتهم أفكارهم !!                                             
أرى من المفيد هنا التعرض بشيء من التفصيل لعدد من الشخصيات الفكرية الهامة في تأريخنا العربي والآسلامي , ممن  أتهموا بالزندقة , من شعراء وكتاب ومفكرين دفعوا حياتهم ثمناً للدفاع عن أفكارهم , وربطوا بين أفكارهم ومواقفهم العملية الشجاعة في نصرة المظلومين وتحدي الظالمين , حتى لو كان الظالمون خلفاء ووزراء وأصحاب سلطة وجاه وسلطان !   
                                                                           
1 - عبد الله بن المقفع                                                       
ولد عبد الله بن المقفع عام 106 هجرية 724 ميلادية في مدينة ( فيروز أباد ) الفارسية ثم إنتقل الى البصرة , يصفه الجاحظ بالقول ( كان مقدماً في بلاغة اللسان والقلم والترجمة وإختراع المعاني وإبتداع السير , وكان جواداً فارساً جميلاً , وكان إذا أراد أن يقول الشعر قاله , وكان يتعاطى الكلام )                 
ورغم أن إبن المقفع كان قد أسلم , إذ كان دين أبائه وأجداده ( المزدكية ) , إلا أنه كان لديه بغض ممزوج بالشك نحو الآسلام الذي إعتنقه ظاهرياً, إذ خلت كتبه من التدين الآسلامي والتقوى , ولم نجده يؤكد إلا على مطالب الآخلاق والجماعة الآنسانية , إذ كان مفكراً حراً وصاحب دعوة إصلاحية إجتماعية , وعندما رفع صوته وطالب بإصلاح القضاء كان كمن يريد أن يشل يد الدولة والسلطان عن هدر الحريات وإباحة الدماء وتكبيل اليد ومنعها عن عقاب الناس وقتل من تشاء دون محاكمة أو سؤال !      
لقد كانت كتب إبن المقفع ورسائله تحوي أراءاً حرة وجريئة وتتضمن نقداً صريحاً لسياسة الضغط والآرهاب وتقييد الحريات , وفيها دعوة صريحة للآصلاح والآعمار , وهذه أفكار خطيرة وغير مقبولة في نظر الحاكمين المستبدين , لذلك قتله الخليفة ( ابو جعفر المنصور) على يد ( سليمان بن معاوية )الذي كان يحقد على إبن المقفع ويكرهه , لذلك لم يكتف بقتله بل مَثَل بجثته وهو يقول ( ليس بالمثلة بك من حرج , لآنك زنديق قد أفسدت الناس ) وهكذا دفع إبن المقفع حياته ثمناً لآفكاره الحرة , ولمواجهته وتحديه متنفذي عصره وحكامه الظالمين .   
                   
2 - بشار بن برد                                                               
شاعر من مُخضرمي الدولتين الآموية والعباسية , ولد مكفوفاً ( أعمى ) وقد أوصلته ثقافته الكلامية وتشبعه بمجادلات المتكلمين في عصره الى الخروج عن المسلمات العقائدية من دون أن يصل الى الحد الموجب لوصفه بالآلحاد , لكنه مع ذلك أتهم بالزندقة في حين إن شعوبيته كانت أكبر وأوضح من زندقته!! فهو كان معتزاً بفارسيته ومستخفاً بالعرب وعاداتهم , ولم يكن سوى شاعر متهتك ميال للعبث والمجون وللسخرية من الناس وهجوهم ! ولا أعتقد أن واحداً مثل الشاعر بشار بن برد كان يشكل خطراً على الدولة العباسية وهي في عز صعودها وقوتها , ولكن صدر الحاكمين يضيق دائماً بالنقد , ولا يتحمل المتسلطون والجبابرة كلاماً يغاير كلامهم !ولما كان بشار لا يزال ميالاً في أعماقه للدولة الآموية التي عاش معها 36 عاماً من عمره , وأكتشف زيف دعوات العباسيين بالعدالة والمساواة , فأنه لم يلبث أن هجا الخلفاء والوزراء الفاسدين وكشف أعمالهم المشينة ونزواتهم ومجونهم , فقد هجا الخليفة المهدي في قصيدة منها :   
                                                                        
خليفة    يزني    بعماته         يلعب   بالدبوق        والصولجان                   
أبدلنا   الله   به   غيرة          ودس موسى في ( هن ) الخيزران                  
وكان قد هجا وزير المهدي ( يعقوب بن داود ) أيضاً قائلاً فيه :                          
بني  أمية  هبوا   طال    نومكم        إن الخليفة يعقوب بن داودِ                 
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا       خليفة الله بين الزق والعودِ   
              
لذلك سعى الوزير ( يعقوب بن داود ) لآيغار صدر الخليفة ضده حتى إستحصل على موافقة بقتله تحت السياط , فقتله والقى بجثمانه في أحد أهوار البصرة قبل أن يُنتشل ويدفن ! إن السبب الرئيسي والحقيقي في قتل بشار في رأيي لم تكن قصائده الهجائية , فالهجاء كان لوناً شائعاً من الوان الشعر العربي وأبوابه , وكما كان بشار يهجو الآخرين فقد هجاه الكثير من الشعراء أيضاً وبينهم الشاعر (حماد عجرد )الذي قال في بشار :

ألا من مُبلغُ عني ال         ذي   والدهُ    بُردُ                                 
إذا   ما نُسبَ    الناسُ         فلا  قبلُ  ولا  بعدُ                                  
ويا   أقبح    من   قردِ         إذا ما عَميَ  القرد       
                          
ولكن أطرف هجاء لحماد في بشار هو قوله فيه :                                           
نُسبت الى بُردِ , وأنت  لغيره         وهب أن برداً ( ناكَ ) أمُكَ , مَنْ بُردُ ؟    
أعتقد أن تأييد بشار لآنتفاضة البصرة ضد الحكم العباسي ولقائدها ( إبراهيم بن عبد الله الحسيني ) تلك الآنتفاضة التي حدثت أيام حكم الخليفة ( أبو جعفر المنصور ) هي السبب الرئيسي في قتله والآنتقام منه , فقد كتب وقتها بشار قصيدة مدح عصماء في حق قائد الآنتفاضة إبراهيم , وعندما فشلت الآنتفاضة حاول بشار التنصل من قصيدته وتحريف ألاسماء فيها , وقد عفا المنصور عنه , لكن غيره لم يعفُ , خصوصاُ وأن لسانه لم يكف وإنتقاداته لم تهدأ !!   
                                                             
3 -  الحلاج                                                                      
هو أبو الحسين بن منصور الحلاج , وُلد في مدينة طور الفارسية عام 244 هجرية الموافق 858 ميلادية وقتل سنة 309 هجرية الموافق 922 ميلادية , كان مُطلعاً على الكيمياء والطب والاخبار والعلوم , وقد إغتنت معارفه لكثرة أسفاره وترحاله في شتى بقاع العالم , ويروى أنه مارس السحر الذي تعلمه من رحلته للهند ! كما يقال أن لديه قدرة على التنويم المغناطيسي ! كان دائب الصلاة وينطوي فكره على سعة روحانية وإحتضان لكل المذاهب ولجميع ظواهر الآيمان , لذلك إحترم جميع الآديان والمذاهب اللاهوتية وتعالى عن الطائفية والشللية المذهبية , وقد إختار تعذيب جسده مفتاحاً لحرية روحه ! وكان ذا شعبية عريضة , لذلك أثار حفيظة بعض المشايخ الذين حاربوه وحسدوه , وكان يندد بالفساد والرشوة في دواوين الدولة وأجهزتها كما كانت له صلة ببعض الحركات السرية , ويقال أنه إجتمع ( بأبي طاهر سليمان بن ابي سعيد القرمطي ) زعيم القرامطة !
يقول الآصطخري ( إن كثيراً من علية القوم في بغداد رأوا في الحلاج أنه الرئيس القطب المُنقذ , وفي طليعة من أمن به من الوزراء علي بن عيسى ومحمد القنائي والدولابي ونعمان , ومحمد بن عبد الحميد , ومن الآمراء الحسين بن حمدان ونصر القشوري , ومن ولاة الآمصار أبو بكر الماذرائي ونجح الطولوني , ومن الدهاقين وأشراف الهاشميين أبو بكر الربعي وأحمد بن عباس الزينبي ) ويمكن القول أن رجلاً له مثل هذه الشعبية لدى الخاصة وعلية القوم , فكيف ستكون شعبيته في أوساط العامة وجمهور الفقراء والمحرومين !؟           
لقد جمع الحلاج بين الفقه والسياسة , وحين أثر بعض المتصوفة السلامة خاض هو غمار الصراع السياسي بقاموس مفرداته : الحق والعدل والتساوي والحب والعشق والآنس !
يقول المستشرق ( ماسينيون ) : ( كان الحلاج يحرك الجماهير وينادي بالآصلاح ويبشر بفكرة الحكومة المثالية , التي تقيم الشريعة على نغمات المحبة والعبادة الخالصة لله )
ويستنتج المستشرق ( نيكلسون ) حقيقة تؤكد ( أن قتل الحلاج أملته دوافع سياسية لا تعرف الرحمة ) فقد رفض الحلاج ( مبدأ التقية ) وربط عشقه بهتك الستر , ولم يستطع المساومة مع ( الخارج ) على حساب حقيقته الداخلية العميقة , لقد رفض منذ البدء ان تكون له حقيقة داخلية بوجه خارجي مختلف ! يقول صديقه الشبلي ( كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً , إلا أنه أظهرَ وكتمت ! ) أي أنه لم يكتم معارضته , بل أعلن عن أرائه بصراحة ووضوح ولم يخشَ النهاية ونتائجها .                                     
وقد سُجن بعد محاكمته الآولى عدة سنوات لكنه وهو في سجنه كان ذا نفوذ على حراسه وسجانيه , بل إمتد نفوذه من سجنه لقصر الخلافة , إذ كان يسمح له بالتردد على السيدة ( شغب ) أم الخليفة المقتدر التي كانت تؤمن بكراماته .                                      
وفي تلك الفترة إشتدت الصراعات داخل الدولة العباسية وبين أركان قياداتها ورجالها , وخاصة بين  ألوزير (حامد بن عباس ) صاحب الخراج والوزير ( علي بن عيسى ) وكان حامد هذا يكره الحلاج ويعتبره عدوه اللدود لآن الحلاج فضح حيله البارعة في جباية الآموال من الناس وإنفاقها على حفلاته وسهراته الماجنة !, لذلك سعى ونجح هذا الوزير في إحالة الحلاج للمحاكمة الكبرى عام 309 هجرية , حيث جند الوزير جواسيسه ورجاله لتجميع التهم ضده , وإنتزاع المعلومات عن أتباعه ! وكان مخطط الوزير حامد بن عباس هو إستحصال فتوى بقتله , وقد إستحصلها ووافق الخليفة عليها بعد تردد ثلاثة أيام !, وأنيطت مهمة قتله بصاحب الشرطة ( محمد بن عبد الصمد )الذي ضربه الف سوط دون أن يتأوه أو يستعفي , بل كان يردد ( أحد .. أحد ) ثم أمر بقطع يديه ورجليه وعُلق على الصليب وقُطع رأسه وأحرقت جثته ولما صارت رماداً القي الرماد في نهر دجلة ونُصب الرأس يومين على جسر ببغداد !!                      
وهكذا ختم الحلاج حياته الزاهدة والخالية من النعم والمسرات بالموت شنقاً وتقطيعاً وحرقاً , فتحول لرمز من رموز الصمود والدفاع عن المباديء وعن حرية الرأي والمعتقد , والتصدي للطغاة والظالمين !
 


للموضوع صلة
 
 

حرية الفكر والتعبير عن الرأي ! (3)
حرية الفكر والتعبير عن الرأي ! (2)

حرية الفكر والتعبير عن الرأي ! (1)

 

 

free web counter