السبت 22/5/ 2010
إلى روح الصحفي الشهيد سردشت عثمان
حرية الفكر والتعبير عن الرأي !
(2)داود أمين
التطور التأريخي لحرية الفكر والرأي !
لا يمكن الجزم الآن كيف مارس ألانسان ألآول , وقبل مئات ألاف من السنين حريته في التعبير عن رأيه و ولكننا نعرف أن المشاكل التي واجهها الآنسان البدائي , لم تكن واسعة ولا معقدة كما هي عليه ألان , فالحاجات الروحية لم تكن عميقة ولا اساسية لإنسان كان همه الآول هو إشباع معدته ومواصلة البقاء حياً وسط طبيعة قاسية , كان جسد ألانسان وعضلاته وقوته البدنية هي ميدان تعامله مع الخارج , أي مع الطبيعة بكل ما تحمله من تحديات ومصاعب , أما العقل والتفكير فلم يكونا ناضجين للاسئلة التي اصبحت ملحة وأساسية فيما بعد , تلك ألاسئلة المتعلقة بالكون والطبيعة ووجود الآنسان وماهيته !
وربما يكون التعبير عن ألاعجاب والرغبة الجنسية تجاه الجنس الآخرهما أول أشكال حرية التعبير في ذلك الزمن البعيد , وقد مارسها الرجل والمرأة على حد سواء , إذ لم تكن هناك حدود بين الآثنين ! ولكن مع تطور الآنسان البدائي وتشكيله للمجموعات البشرية الآولى , فأن حاجات جديدة أخرى أضيفت لقائمة حاجاته البسيطة السابقة والتي كانت مقتصرة على توفير الطعام والجنس , إذ ربما كان يؤخذ رأيه في طرق الصيد وأماكنها وألآسلحة المستخدمة وتوزيع المجاميع وتقسيم العمل .. الخ وهذه جميعاً تتطلب رأياً وتعبيراً ربما بدأ بإشارات وأصوات مبهمة ورسوم وتشكيلات , ثم أصبح كلمات ولغة مفهومة ومتعارف عليها ! ويمكن الآستنتاج هنا أيضاً أن حرية التعبير لم تكن متوفرة للجميع , إذ يحظى الآقوياء وربما كبار السن وألآرجح عقلاً وتفكيراً بالنصيب ألآوفر في حرية إبداء الرأي وإتخاذ القرار, في حين تُحجب عن الضعفاء وصغار السن وغير ألاذكياء !
وإذا إستندنا الى الطروحات الدينية في هذا المجال , والى كون ( أدم ) هو أبو البشر وأولهم , فيمكن القول إن أول ممارسة للتعبير عن الحرية في إبداء الرأي , لم تكن إنسانية بل شهدها الآنسان وكان طرفاً فيها , إذ بدأت من (إبليس) وكان واحداً من الملائكة , عندما رفض أمراً إلهياً بالسجود أمام أدم , في حين إنصاعت جميع الملائكة لآمر الله , وسجدوا إلا إبليس ! حيث رفض الآمر الآلهي مدعياً أن أدم من تراب , في حين أنه(أي إبليس) من نار , والناركما قال , أنبل وأطهر من التراب ! وكان هذا أول درس عملي يشهده ألآنسان الآول ( أدم ) في ممارسة الحرية في التعبير عن الرأي , وفي تلقي تبعاتها الباهضة , إذ غضب الله على إبليس ولعنه وعده من المارقين !ولكن إبليس أصر على موقفه وتحمل نتائجه بصمود وإصرار ! وربما ترسخ هذا الدرس البليغ في لاوعي أدم عندما مارس هو أيضاً حريته فيما بعد , وعبر عن رأيه في أكل التفاحة من الشجرة المُحرمة , عاصياً بذلك أمر الله ومتحملاً تبعات عمله في مغادرة الجنة وحياة الراحة والخلود والنزول نحو الآرض ليشقى ويتعب ثم يموت !
أعتقد أن الرمزية في هاتين القصتين الدينيتين , والمعروفة والمقبولة لدى معتنقي الديانات التوحيدية الثلاث , تعكس إصرار الآثنين ( إبليس وأدم ) على ممارسة حريتهما في التعبير عن وجهات نظرهما المختلفة حتى مع الخالق , وتحمل تبعات هذه الممارسة الحرة ودفع ضريبتها الباهضة ! وكأنهما بفعلهما الآستئنائي ذاك كانا قد زرعا في عقل وضمير الآنسان القادم جرأة إلآقتحام ومشروعية التحدي وتحمل نتائج حرية التعبير وفواتيرها الثقيلة !
كما أن هاتين القصتين تعكسان قدرة الآنسان على الآختيار , بمعنى أنه لم يكن مُسيراً وفق قدر مرسوم ومعلوم ! فما قام به إبليس وأدم , رغم مُخالفته للرب , هو إنتصار للآرادة الحرة وتعبير عن سيادة العقل وفعاليته وإصراره !
وقبل ظهور الديانات التوحيدية الثلاث بإلوف من السنين , كان الملوك السومريون والبابليون والآشوريون في بلاد ما بين النهرين والفراعنة في مصر , يجمعون السلطتين الدينية والدنيوية , إذ كانوا ألهة وملوكاً في نفس الوقت !ولم تكن هناك حدود واضحة لسلطاتهم على رعاياهم وممالكهم ! وكانوا يستعينون في سبيل ترسيخ تلك السلطات المطلقة بكهنة وعرافين وسحرة وبجيش مسلح قوي يقمع أي تحرك مضاد !
ولم يختلف ألامر كثيراً بالنسبة لبلاد الغرب , وخصوصاً في روما وأثينا , مما دفع العبيد هناك للقيام بثورة جبارة بقيادة سبارتاكوس , لرفض ذلك الواقع ومحاولة التخلص منه !
إن ذلك الواقع اللاإنساني لم يمنع ظهور أصوات فلاسفة أحرار نادوا بالحرية والمساواة والعدالة , ورسموا ملامح نظرية متكاملة عن الحرية , خصوصاً في اليونان القديمة , وفي أثينا بالذات , ومن بين هؤلاء الفلاسفة كان سقراط وإفلاطون وأرسطو , إذ وضع سقراط فلسفة ونظاماً لحرية التعبير , جاعلاً منها حقاً يعلو على حق الحياة نفسها !ثم صاغ تلميذه إفلاطون تلك الآفكار التي وضعها معلمه على شكل دستور لمدينة فاضلة , تقوم حكومتها على أساس العقل المفكر الحكيم ! وإنتهى أرسطو الى أن أفضل الحكومات هي تلك التي تمارس فيها الآغلبية إدارة الدولة للصالح العام , أي التوافق بين مباديء الحرية وتحقيق الثروة والسعادة لسائر المواطنين !
ولكن تلك الآفكار النبيلة لآولئك الفلاسفة الآحرار , لم تجد طريقها للحياة والتطبيق أثناء حياتهم , ولا بعدها بمئات السنين , إذ ظلت المجتمعات الطبقية تُكرس التمييز واللامساواة بين مواطني البلد الواحد , مانحة الحقوق كلها لفئات محددة وحارمة الحقوق كلها لفئات أخرى ! كما إستمر الملوك والآمراء والسادة - وهم قلة على الدوام - في مصادرة حقوق وحريات الآخرين - وهم الآكثرية بإستمرار - ولكن مع ذلك فإن حلم تحقيق العدالة والخلاص , والبذرة التي زرعها أؤلئك الفلاسفة اليونانيون الآحرار ومئات غيرهم من الفلاسفة والمفكرين والمصلحين الذين تبعوهم وساروا على خطاهم في مختلف البلدان , ظلت تحض الملايين وتحرضهم لرفع أصواتهم , وبذل عرقهم ودمائهم في كفاح قاس وطويل من أجل إنتزاع بعض الحقوق والحريات !
لقد تطورت نظرية ( الحق الآلهي ) التي كان الملوك والقياصرة يستندون عليها في حكمهم لرعاياهم بإعتبارهم ألهة وملوكاً , بعد ظهور المسيحية , إذ لم يعد الحاكم إلهاً أو من طبيعة الهية , بل أصبح يستمد سلطته من الله , فالسلطة مصدرها الله ومنفذها الملك أو السلطان ! وبالطبع فإن هذا التحديد والتقليص من سلطة الملوك والسلاطين لم يكن أمراً مقبولاً ولا مستساغاً من قبلهم , لذلك بدا صراع عنيف , ظاهر ومستتر , بين ألآباطرة والملوك من جهة وبين الكنيسة وكهنتها ورجالها من جهة أخرى , حيث حاولت الكنيسة رسم حدود واضحة لإختصاصات الملك وعليه أن لا يتجاوزها أو يتخطاها ! فالملك أو الآمبراطور كان يجمع في يديه الآمتيازات والآحتكارات التي يستطيع بها أن يستولي على ألاملاك ويفرض الضرائب وفق رغباته , في حين كانت الكنيسة تحتكر الآشراف على سلوك البشر الديني والدنيوي , وكانت تفرض سلطتها عن طريق محاكمها الخاصة والمنتشرة مع إنتشار الكهنوت في كل مكان , وكانت كلتا السلطتين ( الملك والكنيسة ) تستندان في وصايتهما على شؤون الآفراد على ( الحق الآلهي ) بحكم تمثيلهما المباشر لله ومعصومية كل منهما من ألآخطاء والخطايا بإعتبارإنهما يتلقيان حقوقهما من السماء , وتسمو إرادتهما على إرادة المحكومين !!
وفي هذا العصر ظهر نظام الآقطاع الذي كبل الفرد بسلسلة أغلال تمتد من الآمبراطور ثم الكنيسة ثم الآقطاعي , حيث أصبحت الحريات معدومة وحرية الرأي والتعبير أمراً متعذراً!
وكانت تهمة ( الآلحاد ) جاهزة لإلصاقها بكل معترض او مُحتج , فقد إستغل ( القديس أوغسطين ) زعيم الكنيسة المسيحية عبارة وردت في ألآنجيل تقول ( أجبروهم على الدخول في حظيرتكم ) لتكون سنداً لمحاربة ما سُمي بالألحاد وفرض المسيحية بالقوة والآكراه !
أما ( البابا بيوس التاسع ) فقد عصف برأسه حب السلطة فسن إرادة عليا تقول أن البابا كالله معصوم من الغلط !!لذلك سمي ( البابا الله ) وقال أيضاً أنه ليس هو المعصوم عن الغلط وحده بل كل البابوات الذين سبقوه والذين يأتون بعده !في حين أن تأريخ الكنيسة نفسها يذكرأنه من بين 297 بابا وجد 90 منهم غير أهل لآن يحتل منصبه قانونياً , فبعضهم قُتل قتلاً والآخرون خُلعوا وطردوا بأيدي الشعب , و35 وُجدوا بعد الفحص أنهم هراطقة ولصوص , كما صعد 30 منهم لعرش البابوية بالقوة , و28 كانوا مكروهين من الشعب , وقد إستعانوا بالأجانب لتثبيت مواقعهم !!
وفي المانيا شرع الآمبراطور ( فردريك الثاني ) سنة 1220 م قانوناً ينص على تخصيص ( الخازوق ) لمعاقبة الملحدين ومن يُجاهرون بإبداء الرأي ضد الكنيسة ! بل إن الكنيسة لم تكتف بذلك , بل إتجهت لمكافحة من سمتهم بإعدائها في أماكنهم , إذ أنشأ (البابا جريجوري ) عام 1252 م ما يُعرف بنظام التفتيش الذي يكفل للكنيسة الدخول في أماكن إختلاء الناس وبيوتهم , ومنح المفتشين التابعين للكنيسة سلطة واسعة في فعل ما يشاءون !
ولكن هذه الآجراءات القاسية من قبل الملوك ورجال الكنيسة لم تمنع الناس من الآحتجاج والتمرد والرفض , وقد شهد القرن السادس عشر بداية الآنشقاق البروتستانتي الذي أنكر معصومية البابا , فخطى خطوة واسعة وكبيرة نحو حرية الفكر التي لا يمكن أن توجد طالما تم تسليم الجماعة بوجود إنسان معصوم ! وتبع ذلك خطوة أكثر جرأة وهي إقرار حق الفرد في الآتصال المباشر بالله وإستخلاص دينه من ألانجيل دون وسيط أو رقيب !
للموضوع صلة
حرية الفكر والتعبير عن الرأي ! (1)