| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

داود أمين

 

 

 

الثلاثاء 18/5/ 2010

 

إلى روح الصحفي الشهيد سردشت عثمان

حرية الفكر والتعبير عن الرأي !
(1)

داود أمين

مقدمة
وُلد ألآنسان منذ ملايين السنين حراً طليقاً , وهو مثل الاف المخلوقات الآخرى التي عاشت على الآرض كالحيوانات المختلفة والنباتات , نمى وتطور من الناحية الفسلجية والعقلية , فتغيرت الكثير من أجهزته العضوية والعضلية لتلاثم مراحل حياته المتغيرة , إذ إستقام عموده الفقري وقَصُرت أذرعه , وتغيرت ملامح وجهه , وقد دلت التحريات والحفريات الآخيرة , أن ألآنسان البدائي القديم لم يكن يختلف كثيراُ عن فصيلة القرود المتطورة , من حيث تركيب المخ وحجمه وشكل الجسم وفعالياته !

كانت غريزة حب البقاء هي دافع الآنسان البدائي ألآول للصراع داخل الطبيعة , من أجل الصمود والآستمرار ! وكانت الطبيعة بحبوبها ونباتاتها المختلفة التي شكلت غذائه الرئيسي الآول في البداية , هي من تمنحه القدرة على العيش والبقاء , ثم منحته لحوم حيواناتها عندما تطور طعامه وتنوع !

كان الآنسان البدائي وحيداً معزولاً يواجه الآخطار الطبيعية المختلفة بمفرده , لا هم لديه سوى ضمان طعام يومه , وهو في سلوكه وتصرفاته لم يكن يختلف عن بقية المخلوقات التي تحيطه , والتي تبحث هي أيضاً عن طعامها , مدفوعة كذلك بغريزة حب البقاء . لم تكن لديه لغة للتواصل مع الآخرين , ولم يعرف الحياة ألآسرية المستقرة ,إذ كانت الرغبة الجنسية تدفع الذكر والآنثى للآقتراب من بعضهما , ثم يفترقان بعد إنجازها دون أن يُدركا نتائجها ! وكانت ألآنثى , بحكم حملها وولادتها وإهتمامها بالرضيع , أكثر إلتصاقاً وحميمية بمولودها ! ولا يمكن لنا ألآن إدراك وتقدير الزمن الذي كان الطفل البشري يظل فيه ملتصقاً بأمه قبل أن ينفرد بحياته ويستقل ؟! ولكننا يمكن أن نستنتج إستنتاجاً معقولاً وواقعياً أن بقاء الآخوة والآخوات وهم أطفال مع الآم هو أول شكل للتجمعات الآنسانية البدائية , وربما جاور هذا التشكيل الصغير تشكيل أخر لآم أخرى أو أكثر مع أطفالها في نفس الموقع , وقد يتردد ذكور بالغين أيضاً على الموقع نفسه , مما شكل بدايات التجمعات الآنسانية الآولى, والتي تطورت خلال مئات الاف السنين لتصل الى ما وصلت اليه ألآن !

كانت الحرية بالنسبة للآنسان هواءاً يتنفسه , فهي حرية مطلقة لا حدود لمدياتها وأفاقها .. حرية في الحركة أينما يشاء , وحسب قدرته ورغبته , في الغابات والجبال والسهول , كان ينام وقتما يريد وأينما يحل , يعاشر من يشاء من الجنس الآخر دون إلتزام أو واجبات ! كانت حريته تشبه حرية طير يسبح في فضاء لا متناهي , لم يكن الآنسان البدائي يدرك معنى وجوهر حريته , لآنه وُلد فوجدها جزءاً من طبيعته , ولم يكن هناك شيء يحد من تلك الحرية المطلقة التي تمتع بها ألانسان البدائي سوى شعوره أنها قد تتعارض مع حياته أو تسبب له خطراً, إذ ربما منع نفسه من أن يسير ليلاً خوفاً من الحيوانات المفترسة وتجنباً لآذاها وحفاظاً على حياته منها ! ويمكن التأكيد أن هذا الوضع إستمر مئات الاف السنين , قبل أن تتكون التجمعات ألانسانية الآولى وتتطور , والتي مع تكونها وتطورها بدأت تلك الحرية التي كانت مطلقة , تتقلص يوماً بعد أخر وتتحدد , لآنها إرتبطت بحرية الآخرين , بل يمكن القول أنها إصطدمت بحرية الآخرين وبشروط وظروف العيش المشترك , الذي يفرض إلتزامات , هي بالضرورة تحد من الحرية الشخصية المطلقة , فالصيد وجمع القوت الذي كان فعلاً فردياً خالصاً لآشباع جوع أني لآنسان واحد , اصبح طقساً جماعياً تشترك فيه نخبة من الذكور البالغين والآقوياء , وقد يفيض ما يصيدونه أو يجمعوه من نبات عن الحاجة فيخزن ويُحفظ لآيام قادمات , أو يُعطى جزء منه لبشر أخرين من نفس المجموعة ولكن لديهم مهام أخرى كتربية ألاطفال والعناية بهم , خصوصاً بالنسبة للنساء !

ويمكن القول أنه لا يمكننا إدراك حرية التعبير في ذلك الزمن الغابر, فاللغة لم تكن موجودة , وإن وُجدت فهي فقيرة وتتعلق بحاجات الآنسان الاساسية , وفي مقدمتها حاجته للطعام وربما للجنس أيضاً , ولذلك فان التعبير عن تلك الحاجات البدائية والطبيعية لا يمكن إدراجها ضمن حريات التعبير المعروفة الآن والمتعلقة بالحقوق والواجبات وتشعباتها الكثيرة والمختلفة !

معنى الحرية
الحرية مفهوم واسع وعميق ومتشابك , بل هو مفهوم نسبي أيضاً , إذ أنه يختلف بإختلاف المعاني التي يقصدها , فقد تكون هناك حرية سياسية وأخرى إقتصادية وغيرها دينية ًأو إجتماعية أو فكرية .. الخ والحرية تختلف من زمن الى أخر , ومن مجتمع لغيره , فالحرية التي كانت مطلقة زمن الآنسان الآول , بدأت تضيق حدودها وتتقلص مع ظهور العائلة ثم العشيرة ثم القبيلة ثم المدينة فالدولة ! كما إن تقسيم المجتمعات الآنسانية الى طبقات وفئات ومراتب إجتماعية مختلفة , حد من حرية البعض , ووسع من حرية غيرهم , ففي مجتمع الرق مثلاً كان العبد يباع ويُشترى من قبل السادة ومالكي العبيد مثل اية بضاعة او اية حاجة رخيصة! وكان يحق للسيد أن يقتله أو يعذبه أو يُشغله في أي شيء يشاء ! فالحرية في مجتمع كذاك كانت مقيدة وشبه معدومة للعبيد , في حين كانت مُطلقة ولا محدودة لسادتهم ومالكيهم ! ولكن المالكين أيضاً كانت حريتهم محدودة إزاء الملوك والقياصرة والآباطرة التابعين لهم , والذين لم تكن لحريتهم على رعاياهم من حدود !

ونفس ألامر - ولكن بدرجة أخف قليلاً - بالنسبة للمجتمع الآقطاعي الذي تلى مجتمع الرق , ويعتبر أكثر تطوراً منه , حيث كان الفلاح أجيراً لمالك ألآرض , وثمار عرقه وتعبه تذهب لجيب الآقطاعي المستغل , والذي يجلس في قصره مرفهاً منعماً في حين يشقى الفلاح طوال نهاره ويكدح !

وكانت السلطة الدينية ( الكنيسة في الغرب وغيرها في الشرق ) تساهم في التضييق على الحريات , وتكرس وتُنظر لهذا التفاوت الطبقي وذلك التقسيم غير العادل بين الناس مستندة لتعاليم ووصايا لا يرضاها العقل ولا يقبلها المنطق السليم !

ومع بزوغ النظام الرأسمالي في أوربا وسيادته في معظم بلدانها , تغيرت الصورة كثيراً , وأصبحت حرية ألآنسان وحقوقه كلمات مسموعة ومعروفة , وأصبح النضال من أجل إنتزاع الحريات والحقوق هدفاً للآحزاب والحركات والمفكرين المتنورين أمثال فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو وماركس وإنجلز والمئات غيرهم , ولم تكن ألآنتصارات التي تحققت على طريق الحرية خالية من التضحيات الغالية والدم الثمين والذي بُذل من قبل ملايين البشر وفي مختلف القارات والمناطق !

لقد تنوعت وتشعبت أشكال الحريات التي بات الآنسان يطالب بتحقيقها , فمن الحريات الفردية كحق السكن والعمل والتعليم والسفر والعبادة والتجارة والتنقل , الى الحريات العامة كحرية التظاهر وتكوين الآحزاب والنقابات وإصدار الصحف والآقتراع والتصويت والترشيح , ولا يزال النضال متواصلاً من أجل المحافظة على وتطوير ما تم إنجازه من تشريعات وقوانين تتعلق بالحرية بمعناها الآنساني الواسع , وبالحريات الجزئية المتعلقة بحرية المرأة وحرية الصحافة , وحرية العقيدة والدين والفكر ... الخ

وأخيراً يمكن القول أن تعريف الحرية يتلخص في أنها فهم للضرورة والتحرك في إطارها , وإن حرية أي إنسان تنتهي عندما تبدأ حرية ألآخر , إذ من حقي مثلاً أن أستمع للراديو في بيتي , ولكن ليس من حقي أن أزعج به جاري !!

معنى حرية الفكر والرأي !
يمكن إعتبار حرية ألفكر والرأي حاضنة أساسية لجميع الحريات الانسانية العقلية , فمن خلال إرادتنا الحرة نستطيع التعبير عن رغباتنا وأفكارنا دون خضوع لآرهاب أو ضغط أو إكراه , ومن خلال ممارسة هذه الحرية يمارس الآنسان حقه في أن يُخطأ ويُصيب , فالتجربة التي يمارسها , وهي حق من حقوقه , هي من توصله للنتيجة المرجوة , وليس الفرض وألآذعان .

وتعتبر ممارسة حرية الفكر والتعبير عن الرأي من أعقد الممارسات ألآنسانية في مجال الحريات , فقد تتعارض مع حريات الآخرين وقناعاتهم , لذلك منيت هذه الحرية وطوال العصور الآنسانية المختلفة بأنواع من الكبت والقهر التي لا حدود لها , من قبل سلطات دنيوية مجسدة في ملوك وقياصرة وأباطرة وسلاطين وأمراء , وكذلك من قبل سلطات دينية تجسدت في قساوسة وشيوخ وقضاة ورجال دين مختلفين , كما تجسدت فيما بعد في أنظمة دكتاتورية شمولية تمتلك سجوناً ومعتقلات وأجهزة بوليسية قمعية لا حدود لبشاعاتها !

يقول الفيلسوف ( جون ملتون ) (( إن الحرية هي أن تعرف وأن تقول ما تُحس به بلا قيد وفقا ًلما تُحس وتعتقد , وإذا أمن كل البشر برأي ما وجاء فرد واحد برأي أخر يخالفه , ثم حاولت البشرية جمعاء أن تُسكت هذا الرأي فخطؤها لا يقل عن خطأ الفرد الواحد حين يحاول إسقاط الرأي الذي إجتمعت عليه البشرية ))

إن القانون الطبيعي يؤمن أن العقل الطبيعي هو من يحكم جميع البشر في كل زمان ومكان , فالآنسان وجد على الطبيعة منفرداً حراً كامل الحرية , غير أن تطور الحياة وتعقدها أدى به الى الآجتماع مع الآخرين عن طريق التعاقد الآختياري , الذي كان نتيجته تكوين المجتمعات والآمم والدول , فتنازل الآفراد بموجب هذا التعاقد الآختياري عن بعض حقوقهم التي لم تعد توافق حالة الاجتماع و لكنهم إحتفظوا بالحريات الفردية الآساسية التي لا يقتضي عند إنضمام الفرد للجماعة أن يتنازل عنها , وفي مقدمتها حق الفرد في التعبير عن أرائه النابعة من ضميره وقناعاته , وفي نفس الوقت إحترامه لحق ألاخرين في إبداء أرائهم لآنه حق للجميع !

يقول فولتير ( قد أختلف معك في الرأي , ولكني مستعد لآن أدفع حياتي دفاعاً عن حقك في التعبير عن رأيك ! ) أما أبو حنيفة فيقول ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب )

إذن يمكن القول أن حرية الفكر والتعبير هي أرقى أنواع الحريات الآنسانية وأكثرها تجسيداً لخصوصيته وتفرده , فمن خلالها يكتشف الآنسان شجاعته وجرأته ويثبت للآخرين تميزه وإستقلاله ! وقد كانت حرية الفكر والتعبير ولا تزال المطلب والرغبة الحقيقية للآنسانية منذ بدء الخليقة ولحد ألان , إذ تؤكد المقولة المأثورة ( أنه إن لم يكن بوسع الآنسان أن يمتلك لسانه فإنه ليس بوسعه ربما أن يمتلك شيئاً أخر ) وقد أثبتت التجربة العملية إن عدم قدرتنا على رفع أصواتنا ضد إنتهاكات حقوق الآنسان في كثير من البلدان , قد أدى الى تزايد هذه الآنتهاكات !


للموضوع صلة
 


 

free web counter