| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

داود أمين

 

 

 

الأربعاء 26/5/ 2010

 

إلى روح الصحفي الشهيد سردشت عثمان

حرية الفكر والتعبير عن الرأي !
(3)

داود أمين

ما هي قيم الحرية والتعبيرعن الرأي في مجتمعاتنا العربية ؟
إذا إعتبرنا بلاد اليمن والجزيرة العربية هما موطن العرب الآول , فإن البحث في طبيعة أولئك السكان قبل ظهور الآسلام هو ما يوصلنا لمعرفة طبيعة علاقاتهم الآجتماعية والسياسية والآقتصادية والفكرية , وهل كانت حرية الفكر والتعبير في تلك المجتمعات متوفرة وفي أية حدود ؟

المعروف أن الغالبية الساحقة من العرب في تلك الفترة , كانوا قبائل من البدو الرحل , الذين يتنقلون من موقع لآخر طاوين خيامهم وحاجاتهم البسيطة متتبعين الماء والكلآ. وكان الغزو والقتال والثارات مهنة رئيسية لتلك القبائل العربية بالأضافة لرعي الحيوانات , وبالطبع فإن مجتمعاً متنقلاً رحالاً كهكذا مجتمع هو بالضرورة مجتمع أمي لا يعرف أو يهتم بمهمة الكتابة والتدوين ولا يحتاجهما ! ولكن حياة البداوة والصحراء للغالبية الساحقة من العرب في ذلك الزمن البعيد لا تعني إنعدام وجود مدن وحواضر زاهية في اليمن والجزيرة العربية , ومن بينها مُدن سبأ ومأرب ومكة وغيرها , ومن مراجعة التأريخ يمكن التوصل لرأي مفاده أن حرية التعبير عن الرأي كانت متوفرة في حدود معقولة ومقبولة في تلك المجتمعات الغابرة !فالملكة ( بلقيس ) إعتلت عرش مملكة سبأ , وتُوجت ملكة في مجتمع ذكوري شبه مُطلق , كما أنها تمتعت بحرية جعلتها تقترن برجل غريب وبعيد عن بلادها هو الملك داود ! كما أن زنوبيا إعتلت هي أيضاً عرش تدمر, وقادت مجتمعاً ذكورياً وجيشاً كبيراً وحاربت به الروم وإنتصرت عليهم قبل أن تُهزم وتُؤسر !!

وبعد إنتشار المسيحية أصبحت اليمن مركزاً رئيسياً لهذه الديانة التوحيدية , وشُيدت فيها أكبر كنيسة في العالم القديم , والى جانب المسيحيين كان اليهود اليمنيون يتمتعون بحرية العبادة وممارسة طقوسهم وشعائرهم !

أما في مكة فكان التسامح الديني وحرية التعبير عن الرأي والمعتقد أكثر وضوحاً وإشراقاً من مدن اليمن , فمكة وبأعتبارها ممراً رئيسياً ووحيداً للتجارة بين الشام واليمن وسوقاً لمختلف البضائع ومحطة لتجار من كل الآجناس , فقد رعت وإحتضنت مختلف التيارات الفكرية والدينية , وتقبلت جميع الآفكار والآجتهادات بتسامح ورضى يندر حدوثه الآن ! إذ بالرغم من الطابع العام لدين عرب مكة والجزيرة المتمثل بالوثنية , إلا أن اليهود والنصارى كانوا يعيشون في نفس البيئة ويتمتعون بنفس الحقوق ويمارسون عباداتهم وطقوسهم دون ضغط أو إكراه ! بل يمكن القول أنه بالرغم من وجود أصنام رئيسية في كعبة مكة يعبدها ويُجلها كل العرب في ذلك الزمان , ك(هبل ومناة واللات والعزى ) إلا أن ذلك لم يمنع القبائل العربية المختلفة من أن تضع في الكعبة أصنامها الخاصة لكي تتبرك بها وتقدم لها الضحايا والقرابين !, كما كان في مكة أيضاً المحنفون ( الموحدون ) الذين أمنوا بوجود إله واحد ولم يعبدوا ألآوثان , ويقال أن عبد المطلب جد الرسول كان واحداً منهم , وقد تحول ( سوق عكاظ ) القريب من مكة , الى ميدان ومسرح عملي للتعبير عن حرية الرأي وطرح ألآفكار المختلفة , إذ كان الشعراء والخطباء وأصحاب الرأي يتبارون سنوياً وفي مواسم معلومة , أمام جمهور مفتوح وواسع ومتنوع !, في طرح قصائدهم وأفكارهم دون رقيب أو حسيب !

أعتقد أن التسامح الديني والفكري الذي كان سائداً في مكة وقتذاك , يمكن تفسيره بأنه لم يكن يهدد الطبقة المُهيمنة من تجار ومرابين وأصحاب شأن ونفوذ , بما فيهم سدنة الكعبة , إذ لم يشعر هؤلاء أن مصالحهم وإمتيازاتهم سوف تتأثر بهذا الجو من الحرية المقبولة وغير المؤذية ! ولم تشهد مكة تهديداً لموقعها ومكانتها لا من جاراتها مُدن اليمن المسيحية , ولا من عرب الجزيرة الوثنيون أو الموحدون , وكان التهديد ألاول الذي تلقته على يد ملك حبشي غريب وغير عربي هو ( إبرهة الحبشي ) الذي عبر البحر مع جيشه وفيلته ليهدم الكعبة ويقضي على أوثانها وديانتها , فجرى له ولجيشه ما هو معروف ومشهور ومُثبت في ( سورة الفيل ) في القرآن الكريم !

أما التهديد الثاني وألاكثر خطراً على مكة ومكانتها , فقد جاء على يد النبي محمد , عندما بشر بدينه الجديد , إذ وجد المكيون من أصحاب الثروة والجاه والنفوذ في دعوة محمد ودينه تهديداً مباشراً وصريحاً لمصالحهم وإمتيازاتهم , فالسور والآيات القرأنية كانت تخاطب الفقراء والمحرومين وتدعو للعدالة والمساواة وتحريم الربا وإكتنازالذهب والفضة , ثم وهو الآخطر في نظرهم أنه يدعو لآله واحد , أي الى نسف موقع مكة وكعبتها ومكانتها الدينية المرتكزة على عبادة الآصنام المتعددة !

إن الجرأة وألآقدام اللذان تمتع بهما النبي محمد - بعد السنوات السرية الآولى - لنشر دعوته , وإصراره على مواصلة الدعوة حتى نهايتها وإنتصارها , أفزع المكيين الذين حاولوا مساومته وعرضوا عليه الثروة والجاه , لكي يتخلى عن دينه ودعوته , فرفض إغراءاتهم باصرار وتصميم قائلاً لعمه ( أبي طالب ) الذي وسطوه بينهم ( لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الآمر ما تركته !! ) مما ألجأ المكيين لما هو غير مألوف من سلوكهم , ولعكس ما عُرف عنهم من تسامح وقبول ! إذ قرروا التخلص من محمد عن طريق إغتياله ومن خلال إختيار رجل من كل قبيلة ليشارك في عملية الآغتيال , لكي يضيع دمه بين القبائل ! وفعلوا ذلك ألا أنهم لم ينجحوا وهاجر النبي الى المدينة ليكمل رسالته من هناك !
إن تفسيراً معقولاً لهذا الآنقلاب الحاد في سلوك رجال مكة وقادتها وكبار أغنياءها وتجارها , وهم الذين كانوا معروفين بالتسامح والقبول , والى فترة قريبة قبل ظهور الآسلام , إن هذا الآنقلاب يرجع الى أن محمداً لم يأت بفكرة عابرة ولا بإجتهاد وقتي ولا برأي يمكن أن يعيش مع أو الى جانب أفكار وإجتهادات أخرى , إنه جاء بدين جديد هدفه نسف كل ما عداه , وإقامة البديل على أنقاضه 1 كما أن معتنقي دين محمد - خصوصاً - في السنوات الآولى _ كانوا من الفقراء والمحرومين والعبيد والمُهمشين , وهذا أمر لا يمكن أن تهضمه أو تقبله ألآرستقراطية القرشية التي كانت تتحكم في شؤون مكة وفي ثرواتها وتجارتها , كما كان القرآن وسوره وأياته تدعو للعدالة والمساواة وتُحرم الربا وإكتناز الآموال والغش بالميزان .. الخ وهي أخلاق وعادات أسواق مكة وتجارها !! وليس من السهل والجائز أن تتخلى عنها وتتركها !

وبعد أنتصار المسلمين في معركة بدر والنجاحات التي حققها الدين الجديد في المدينة وفي بعض قبائل الجزيرة العربية , بدأ قادة قريش وزعماؤها ينظرون لمحمد ودينه نظرة جديدة أخرى , فمحاولة إغتياله وإيذاء وتعذيب وقتل أتباعه ما عادت نافعة ولا مجدية , كما أن تحول مركز الدين الجديد من مكة الى المدينة , أشعر القرشيين أنهم سيخسرون الرهان , وإن مستقبلهم الديني والتجاري على كف عفريت !, إن لم يتداركوا ألامر , ويتصرفوا بحكمة تفرضها مصالحهم وأغراضهم ! وكانت أول تلك المحاولات هي في عقد ( صلح الحديبية ) بين قريش والرسول , والصلح والجلوس بين طرفين يعني التكافؤ , وهو إعتراف جلي بهزيمة قريش وبمكانة محمد ودينه وبإنتصارهما !
وفي السنة التالية بعد عقد الصلح دخل النبي محمد وأتباعه مكة وصلوا في الكعبة , أمام أنظار القرشيين المبهورين , والذين ما لبثوا أن إستوعبوا الدرس فألتحق أغنياؤهم قبل فقرائهم بالدين الجديد , إذ لم يلبث رجل كأبي سفيان , وهو من أغنى أغنياء قريش وكبير العائلة الآموية في مكة , وسبق له أن عادى الرسول وأذاه وقاد بنفسه ونفذ حملتي ( أحد والخندق ) ضد المسلمين , لم يلبث رجل كهذا من الدخول في الآسلام , ليكون إبنه معاوية , بعد أقل من ثلاثين عاماً من هذا التأريخ , خليفة المسلمين الآوحد ومؤسس دولة الآمويين في الشام !!

إن الحرب الظالمة التي تعرض لها النبي محمد من قبل قريش لآنه مارس حريته في التعبير عن أفكاره وفي الدعوة لرسالته السماوية فشلت في تحقيق غاياتها وإنتصر الآسلام ليغير المواقع والموازين ولينقل من كانوا بالآمس قلة من المُستضعفين والفقراء لمواقع القوة والسيطرة والنفوذ , ولتكون لهم الكلمة الآولى في مكة والمدينة وفي مناطق واسعة داخل الجزيرة العربية وبين قبائلها وأفخاذها ! وكان لهذه النقلة النوعية تأثيرها السلبي على نفسية وسلوك النبي محمد وأصحابه , إذ أنهم ومن مواقعهم الجديدة , لم يعودوا يقبلوا أو يطيقوا النقد أو يسمحوا لمختلف أو معارض ان يعبر عن رأيه بحرية ضد أفكارهم وسلوكهم ! والمؤسف أن الكتب التأريخية ألاسلامية الموثقة تورد لنا أخبار إغتيالات وتعذيب وقتل لشعراء ومعارضين تناولوا الرسول وال بيته بالنقد والتجريح ! وأن الرسول نفسه بارك تلك الآغتيالات وأمر بأكثرها !

فالشاعر كعب بن زهير عادى النبي وهجاه , عندما كان في معسكر قريش , وشبب بنسائه وبينهن ( أم هاني بنت أبي طالب ) شقيقة علي بن أبي طالب ,, فأمر النبي بقتله وقطع لسانه , فخاف الشاعر لثقته أن التهديد سينفذ إن لم يسارع لمعالجة الآمر , فلحس موقفه السابق وتراجع عنه , وقدم الى مسجد الرسول طالباً الآمان والعفو , ثم أنشده قصيدته الشهيرة في مدحه ومطلعها :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ        مُتيم إثرها لم يُفد مكبولُ

فأعجب بها الرسول وعفا عنه ورمى بردته عليه تكريماً وإحتفاءاً , ومن يومها أصبح الشاعركعب بن زهير شاعر الرسول الآول !!

ويذكر الباحث هادي العلوي في كتابه ( فصول من تأريخ الآسلام السياسي ) ثمانية حالات إغتيال حدثت في زمن الرسول لمخالفين في الرأي , معظمهم من اليهود وهم ( كعب بن ألاشرف )الذي كان شاعراً يهودياً هجا الرسول ورثى قتلى بدر من القرشيين , فأغضب النبي وأمر بإغتياله في السنة الثانية للهجرة ! كما تم إغتيال شاعر يهودي أخر هو ( سلام بن أبي الحقيق ) وكان من زعماء بني النضير , وقد حرض قريشاً للهجوم على المدينة فأغضب الرسول . وأغتيل أيضاً شاعر يهودي ثالث هو ( إبن سنينة ) لإنه كان يهجو النبي والمسلمين ! بل لقد أغتيلت شاعرة يهودية كانت تسب الرسول وتهجوه بأشعارها ًوإسمها ( عصماء بنت مروان ) وقُتل شاعر يهودي أخر من بني عمرو بن عوف ويدعى ( أبو عَفَك ) لإنه كان يهجو الرسول ويحرض ضده ! .

كما تم إغتيال خالد بن سفيان لآنه كان يريد مهاجمة المسلمين في يثرب ! , وإغتيل ( رفاعة بن قيس الجشمي ) وهو يمني أراد الهجوم على المدينة فأجهضت الخطة بعد إغتياله ! وأخيراً تم إغتيال ( عبهلة ) وهو ألآسود العنسي , إنه خالف الرسول والمسلمين !

وهكذا يمكن القول أن حرية الرأي والتعبير هي حق للمعارضة تجري المطالبة بمشروعيته وضرورته عندما تكون ضعيفة ولا مكان لها فوق كراسي السلطة , ولكن ما أن تقوى وتحتل موقعها السلطوي حتى تنسى ماضيها , بل تكتسب أخلاق جلادها السابق بعد ان كانت ضحيته ! فتمارس نفس ممارساته , التي كانت تدينها وتستهجنها ! فتقمع وتعذب وتقتل كل من يخالفها ولا يسير على خطاها , وتُسكت أي صوت معارض بالقوة والقمع والآرهاب ! حتى لو خالف سلوكها هذا المباديء ونصوص القرأن التي يفترض أن لا تُخالف ! فقد جاء في سورة البقرة الآية 256 ( لا إكراه في الدين ) وفي سورة الكهف الآية 29 ( قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) وهي أيات صريحة بحق ألانسان وحريته حتى بالكفر ! ولكن سوراً كهذه توضع على الرف ولا يلتفت اليها عندما تتعارض مع المصالح الدنيوية وتصطدم بالمنافسة على مواقع النفوذ والسلطة !!

وقد إستمر إغتيال وقمع المعارضين بعد وفاة النبي محمد , وفي زمن الخلفاء الراشدين , إذ أغتيل زعيم الخزرج (سعد بن عبادة) لآنه عارض خلافة (ابو بكر وعمر بن الخطاب) ثم أغتيل عمر بن الخطاب نفسه وهو يصلي فجراً على يد الفارسي ( ابو لؤلؤة ), وبعده أغتيل الخليفة (عثمان بن عفان) ثم أغتيل الخليفة (علي بن أبي طالب)!!

وفي زمن الآمويين إغتال الخليفة ( معاوية بن أبي سفيان ) مالك ألاشتر , الذي كان عامل ( علي بن أبي طالب ) على مصر , كما إغتال ( الحسن بن علي ) لكي لا يكون عقبة أمام طريق البيعة لإبنه يزيد ! كما أعدم ( حجر بن عدي )

ويمكن أعتبار فاجعة كربلاء الشهيرة , ومصرع الحسين بن علي , وهو أبن بنت رسول الله , وأخاه العباس وأصحابه وأفراد عائلته على يد ألامويين , وجيش يزيد بن معاوية , نموذجاً للرد الهمجي واللاأنساني الذي كانت تستخدمه السلطة الآموية ضد مخالفيها في الرأي حتى لو كانوا مسلمين صحيحي ألايمان , ومن بيت النبوة نفسه !!

للموضوع صلة
 
 

حرية الفكر والتعبير عن الرأي ! (2)
حرية الفكر والتعبير عن الرأي ! (1)

 

 

free web counter