| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالآله السباهي

 

 

 

الخميس 28/8/ 2008



 الصدفة
(4)

عبد الإله السباهي

كان لقاءه لي حارا، وكأنه ينتظر تلك المقابلة منذ أمد طويل، أخذني لأقرب مقهى وكانت خالية من الزبائن تقريبا، وأمام فنجان من القهوة دار بيننا حديث غريب.
سألني قبل كل شيء هل صحيح إنني نطقت بكلمة أبو دودو بالأمس وأعنيها؟ هل زرت ذلك الحي أو سكنت فيه؟
بالمناسبة كان يتحدث معي بلهجة بغدادية أصيلة مع لثغة بحرف الراء واضحة ومحببة، والحديث كان يتعثر بين طاقم أسنانه. كان اسمه عزرا، عراقي المولد، نشأ في دروب أبو سيفين، ترك العراق في بداية الخمسينيات من القرن الماضي وهاجر إلى فرنسا.
أرجو أن تحدثني يا سيد زاهر عن أبو دودو وسوق أبو سيفين، لقد عشت هناك، ويهمني جدا أن أسمع من يتحدث عنهما.
سيدي الكريم، لقد مضى أكثر من نصف قرن على أيامي التي عشتها هناك. ولم يظل في غربال الذاكرة منها إلا حادثة لن أنساها حتى الممات، وبعض الذكريات عن الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد الذي كان يتردد هناك. وأذكر الرجل اليهودي الوقور الذي كان يسكن جنبنا واسمه أبو عبد الله! فقد كان ابنه شيوعيا سجينا مع أخي.
حدثني أرجوك عن أي شيء تتذكره، حتى لو كان بسيطا أو تافها.
سيد عزرا إذا كان الأمر إلى هذا الحد يهمك سأترك العنان للذكريات وأنت ونصيبك، ولكن قبل هذا دعني أحدث القارئ عن أبو دودو فلا أظن أن أحدا منهم يعرف عن تلك المناطق، وتلك الفترة من حياة سكان بغداد.
عندما تقطع سوق الشورجه قادما من جامع الخلفاء، تصادفك مجاميع من الطرق الضيقة التي تصب كلها في السوق من كلا الجهتين، وكأنها سواقي تصب في مبزل ضيق، فسوق الشورجة أوسع من تلك الطرقات بقليل، لذا ترى الناس يفيضون فيه وكأنهم في موسم الحج يدفع بعضهم بعضا.
وبعد أن تعبر علاوي الفاكهة، والتي كانت تقع في آخر السوق بالقرب من شارع غازي ( شارع الكفاح اليوم)، المهم بعد أن تعبر الشارع تصل إلى سوق أبو سيفين. سوق ضيق جدا زاد في ضيقه بسطات الخضار التي أمام الدكاكين، فلم يكن المرور من بينها سهلا خاصة أن مجاري تصريف مياه المطر مكشوفة وتقسم السوق إلى قسمين. تتفرع من سوق أبي سيفين طرق ضيقة أصبحت سكنا لفقراء اليهود في الغالب، فدرب الطاطران يؤدي بك إلى سوق حنون وسوق الدجاج. ودرب أبو دودو يأخذك إلى ساحة السباع المشهورة وإلى حمام المهدي، أما من الجهة المقابلة فتطالعك الكولات وبني سعيد التي تأخذك إلى ساحة الوصي( أظنها اليوم ساحة النهضة) "لا نهضنا!" وعقد الأكراد. وخلف السوق يأتي شارع الشيخ عمر، وهناك تقع مقبرة اليهود.
عشت هناك أنا وأمي، بعد أن مات أبي وسجن أخي. في غرفة صغيرة، في بيت قديم ليس فيه غيرها، عدا السرداب الذي تحتها والمقفل منذ عهود، لتسكنه شتى أنواع الحشرات، فتنبعث منه دوما روائح نتنة، أحيط سطح الدار بسياج من الصفيح المضلع عبثت به عوامل الزمن .
استرسلت في الحديث وعزرا ينصت لما أتفوه به فاتحا فمه، كأنه يلتقط الكلمات بحذر خوفا على ضياع واحدة منها.
هناك وفي تلك الدار، تحسست رجولتي لأول مرة، ولكون الدور متراصة ومكتظة بالسكان، وهم من مختلف الأديان، فكان البيت الواحد يضم يهودا ومندائيين وبعض المسلمين أحيانا، وكانت الحشمة والصرامة متساهل فيها كثيرا. فجيب مفتوح هنا يكشف عن نهد تحول إلى كيس هزيل من كثرة الرضاع، أو آخر هناك يعارك زرار القميص المفتوح أصلا، وسيقان هناك تكشف عن ألوان مختلفة لملابس النساء الداخلية من مختلف الأعمار، وهذا يحتضن زوجته، وآخر يغازل جارته بالمختصر هوسه وهايسه.
صيف بغداد لآهب كما تعلمون، ولا ألذّ من النوم على السطوح تحت ناموسية تقيك لسع البعوض. كنت أنام على السطح كالعادة، لا يفصلني عن ذلك الزقاق سوى تلك الصفائح القديمة والتي غدت كالغربال من كثرة المسامير التي مرتّ عليها . أتلصص على النوافذ المحيطة بالدار من تلك الثقوب، أحيانا بدافع غريزي وأحيانا بدافع الفضول.
وفي البيت المقابل لنا، والذي لا يفصله عنا سوى زقاق ضيق جدا قد لا يزيد عرضه على المتر والنصف. كان هناك ذات يوم جلبة وشبه زفة لعرس متواضع. اثنان أو ثلاثة شبان أوصلوا العريس إلى تلك الدار دون عروس، فتحوا الباب بمفتاح كبير، وقفلوا الباب خلفهم وعادوا أدراجهم.
دخل العريس وحده مزهوا إلى الغرفة، وكانت النافذة الصغيرة الوحيدة فيها مفتوحة، ولا تحجبها أية ستائر. و مصباحا صغيرا يراقص الظلال وسط الغرفة.
أما العروس فقد جلست منكمشة على نفسها فوق أرضية الغرفة. كنت أميز ملامحها جيدا، كانت صغيرة السن وترتعش من الخوف، كأنها شاة أمام جزار.
راح العريس يلاطفها وهي تبعد يده عنها، فيمررها على شواربه ليبرم أطرافها. ويحاول معها مرة أخرى لكنها كانت تزداد انكماشا وخوفا، ثم أطفئ الضوء ولم أعرف باقي التفاصيل.
سهرت الليل بطوله،( ألا أيها الليل الطويل ألا اينجلي؟)، ولم تأخذني فيه غفوة.
وفي الصباح الباكر نهضت من الفراش مسرعا وأزحت جزأ من الناموسية والتصقت بالسياج لمعرفة آخر أخبار العرسان.
لم يغلقوا ذلك الشباك وكان ضوء النهار ينير بعض أركان الغرفة. العروس لا تزال ترتدي ملابس العرس، والعريس واقفا وفي يده سوط، كان يستخدمه في حث البغال الثلاث التي يمتلكها على السير والتي كانت تمثل شركة نقل بالنسبة له.
انهال على الفتاة ضربا بذلك السوط، ففزت من غفوتها مرعوبة، وأخت تتوسل به ليتركها دون جدوى، ولما لم تجد من ينقذها استسلمت له. في البداية كانت تتركه يفعل ما يشاء وكأنها غير معنية بذلك، ومن ثم راحت تعضّ على صرخات اللذة .
كان العريس شاب مسلم من الذين يدّعون الفتوة ( شقاوة) في محلة أبو دودو. بعد أن قضى منها طوره تركها وحيدة في تلك الغرفة، وخرج من الدار بعد أن قفلها وراءه دون مبالاة.
رأيته بعد ساعة في السوق يسوق بغاله إلى العلاوي ليلحق رزق ذاك اليوم كأن شيئا لم يكن!
شاع خبر تلك العروس في ذات اليوم، وأخذت التفاصيل تتجمع عنها بسرعة، على الرغم من ان أحدا لم يلتقي بها أو يراها غيري.
فالفتاة يهودية الديانة صغيرة السن، وأسلمت. أجبرت على تلك الزيجة بطريقة أو بأخرى، وأن أهلها لا علم لهم بذلك، ولا يعلمون حتى أين اختفت ابنتهم المدللة.
كان أسمها على ما أذكر راشيل كما أشيع، ولكنها هربت بعد مدة قصيرة .
بعد الأيام الثلاثة الأولى لم أعد أراها، فقد أغلقت تلك النافذة التي كنت أتلقى فيها الدروس الأولى في الثقافة الجنسية، ربما شعر الرجل بأن هناك من يتلصص عليهم، أو ربما أغلقها صدفة.
نهض عزرا واقفا، ثم ترنح وهوى على الكرسي مرة أخرى، أسرعت له بقدح من الماء، قلقت عليه حقا فقد كان للقصة وقع الصاعقة عليه. بعد أن استعاد بعضا من رباطة جأشه، التفت نحوي محدقا في عيوني ثم قال:
أتعلم أن راشيل التي تحدثت عنها، أختي الصغرى، وقد اختفت ذات يوم بعد عودتها من المدرسة، ولم نعثر عليها إلا بعد أسبوعين من اختفاءها، وقد ساعدنا العم الياهو والذي تسميه أنت أبو عبد الله في تهريبها وإعادتها لنا.
قاطعناها في البداية، وخاصة أنا فلم أحدثها، ولا حتى أنظر لها ، على الرغم من دموعها وتوسلاتها. كنت أظن بأنها كانت متواطئة مع ذلك الوغد، ولم نصدق روايتها بأن ذلك الوغد قد اختطفها وخبأها في كيس هو وأخوه، وأوصلوها إلى دارهم في أبو دودو على بغلة. وهناك جاءوا برجل دين مسلم معمم وعقدوا عليها، فأصبحت زوجته حسب شريعتهم.
وقد أقسمت بأغلظ الأيمان بأنها قاومت تلك الزيجة قدر استطاعتها. لقد كانت راشيل طفلة في الرابعة عشر من عمرها في ذلك الحين. لم نعرف تلك التفاصيل التي حدثتني للتو عنها. وها أنت شاهد الصدفة الوحيد على صدق روايتها.
إنني أعيش هنا في باريس، وراشيل تعيش مع أسرتها في بوردو . أدعوك وأتوسل إليك أن تقبل دعوتي بزيارتنا، لتقص عليهم شهادتك. فقد ظلت راشيل تبحث عن أي دليل يثبت صدق روايتها طيلة الخمسين سنة الماضية، رغم أننا سامحناها وبذلنا الكثير لنهرب معها من العراق فور استعادتها، لقد اضطررنا لترك كل ممتلكاتنا وأخذنا معنا فقط ما خف وزنه.
أنا آسف حقا يا سيد عزرا، إننا المندائيون مررنا بمصائب أكبر من تلك، وأنا متعاطف جدا معك، ولكنني لا أستطيع تلبية دعوتك، فإنا لا أعيش في فرنسا وإنما في بلد آخر وسأعود لبلدي صباح غد، ولا أعدك بلقاء ثاني وأعتبر القصة كلها صدفة. فلي أسبابي وبعضا من أهلي لا يزال يعيش في العراق، ولا أريد لثرثرتي أن تزيد همومهم، فيكفي أن تلتقي بأي فرد يهودي هنا لتصب عليك لعنات عدنان و قحطان.
وداعا سيدي الكريم، وحقا إن المصائب يجمعن المصابين.
عدت من ذلك اللقاء مهموما. عدت أسترجع أيام بغداد، جئت لباريس أخفف من همومي، فعدت محملا بهموم غيري.
وهنا وأنا في عام 2008 أكتب لكم تلك السطور. أعيش مع الذكريات متطلعا لسماء تلبدت بالغيوم، وأمامي قصيدة كتبها شاعرنا( المثير للجدل) عبد الرزاق عبد الواحد أختم ببعض أبياتها حديثي الحزين وذكريات الماضي المفقود:

دمع لبغداد..دمع بالملايين
من لي ببغداد أبكيها وتبكيني؟
من لي ببغداد..؟ روحي بعدها يبست
وصوّحت بعدها أبهى سناديني
عدّ بي إليها..فقير بعدها وجعي
فقيرة أحرفي.. خرس دواويني
قد عرّش الصمت في بابي ونافذتي
وعشعش الحزن حتى في روازيني
والشعر بغداد، والأوجاع أجمعها
فانظر بأي سهام الموت ترميني!



الدنمارك 2008



¤ الصدفة (3)
¤ الصدفة (2)
¤ الصدفة (1)


 

free web counter