| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالآله السباهي

 

 

 

السبت 23/8/ 2008



 الصدفة
(3)

عبد الإله السباهي

وعند الحديث عن العراق تخلى عن شرب الجعة، وطلب قدحا من الخمر، وهكذا ظل يشربها بنهم على غير عادته، متناسيا بأن المندائية تنهى عن ذلك. ولم تكن تلك عادته في العراق أصلا، ترى ماذا جرى له؟
لقد غدا العراق أرض قاحلة يا أبا يحيى، أصبحت النفوس قاحلة أيضا. لقد جفت فلا حياة أو حياء فيها.
تحملنا أيام الرعب الأمريكي، وتحملنا الصدمة والترويع. وعدونا بالحرية والعيش الكريم، والأعمار والديمقراطية وغيرها، لقد زرعونا في ذلك الوطن مثل كمونه تسقى بالمواعيد، ولكن ما هي النتيجة؟ هل تعلم إنهم قتلوا شنشل أتذكره؟
طبعا أذكره، رحمة الله عليه، لماذا قتلوه ؟ من قتله؟ إنه إنسان بسيط لا تهمه السياسة .
ربما لهذا السبب قتلوه. وجل العراقيين أصبح من التكفيريين. أصبحوا وكلاء لرب العالمين في العراق، والإنسان البائس يحتاج إلى ربه، نعم، عندهم من رب العالمين (وكالات رسمية ومصدقة من قبل الكاتب العدل).
اختطفوا ولدا شنشل الصغيرين آدم وسام أخذوهم إلى جهة مجهولة، وهناك ختنوهم (1)، ثم أعادوهم للبيت ودمائهم تصبغ ملابسهم، جن جنون شنشل.وراح يبحث عن الخاطفين من جامع إلى جامع، وفي كل مكان يجمع الناس حوله يذكرهم بما جاء في القران من تسامح، مستشهدا بآية من هنا وأخرى من هناك، معاتبا من يعرف ومن لا يعرف،صارخا ألا تؤمنون بالقران؟ (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صلحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). يا ناس تقولون لا إكراه في الدين ما هذا إذن ؟ ( أتأمرون الناس بالحسنى وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتب أفلا تعقلون)،(ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) وظل يعدد الآيات ويصرخ ولكن دون جدوى، إننا آمنا بالله قبلكم أنسيتم قول الله (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
ظل شنشل ولثلاثة أيام ينوح في البيت على أولاده الذي كان يمني نفسه بأن يصبحوا مندائيين صالحين، وظل يدور في المساجد حتى اختطفوه أخيرا ثم ألقوه جثة أمام داره، ومعه رسالة تقول أن لا مكان للكفرة في العراق المسلم!. أسلم تسلم.
وهل تظن أن المسألة تنتهي بذلك؟ كلا، فالمصيبة إنك لا تعرف حتى أي إسلام تسلم به كي تسلم؟ أهو الإسلام الشيعي أم السني؟ ولو غامرت بأحدهم فهذا لا يكفيك لتنجو بجلدك.
تصور عندما أراد أخوه دفنه في مقبرة المندائيين في أبو غريب، أضطر أن يتفق مع جماعة من السنة، ويدفع لهم مبالغ كبيرة، ليسمحوا للجنازة أن تمرّ إلى المقبرة، فسائق السيارة التي تنقل الجنازة لا يجازف بالذهاب أبعد من العامرية، وهناك أعطى السيارة لأخي شنشل، وساقها هذا حتى وصل إلى نقطة سيطرة سنية، وهناك وجد الذين اتصل بهم بالأمس، و دفع لهم الفدية وركب أحدهم معه إلى المقبرة. وبعد الدفن عاد معه وسمح له بعبور السيطرة من جديد، وعلى بعد مئات الأمتار وجد السائق ينتظره في نقطة السيطرة الشيعية!
وعلى قول أم تحسين تذكرها؟ جيراننا بالسيدية .
شتكول أم تحسين؟
(ولك صار لي أربعين سنة ويه أبوك وما عرفته سني لو شيعي).
المهم لم يعد لي مكان آمن في تلك الصحراء، أو الغابة الدمقراطية،
أو جنة بوش التي وعد العالم بها، سميها كما تشاء بعد أن ماتت أم شارت من الهم.
أم شارت ماتت؟ رحمها الله كم كانت طيبة وفاضلة، البقاء في حياتك أبو شارت. كيف حدث ذلك، ومتى؟
نحن المندائيون نتعرض لعملية إبادة حقيقية اليوم، في العراق، لقد أخذوا مني مهجة قلبي شارت، نعم اختطفوها من أمام الجامعة، دفعت لهم كل ما أملك وحتى داري رهنتها، وتوسطت عند كل أئمة المساجد من أجل أن أراها، وبعد جهود لا تصدق أخذوني وأمها لنراها لدقائق فقط.
سالت دموع صامتة على خدها عند رؤيتنا، جاءتنا ملفوفة بعباءة شرعية، ثم راح خاطفها يهددنا بأن نبتعد عنها فإنها زوجته على سنة الله ورسوله.
رجعنا إلى البيت قانطين، لم تتحمل أمها الصدمة وماتت بين يديّ.
لم يبقى لي أي خيار غير الهجرة مهما كلف الثمن، فتركت كل ما تبقى وهربت في ليلة مشئومة.
لا تسألني كيف دبرت فلوس الطلعة من العراق؟
لم يبقى عندي سوى تلك الدار المرهونة، لم يعد بمقدوري الوصول إلى "بغداد الجديدة" لأرى المحل.
مرة استأجرت سيارة أجرة لتنقلني من السيدية إلى بغداد الجديدة، كان سائق تلك السيارة وهو من جيراننا يتباهى كون اسمه كما مكتوب في بطاقته، وفي رخصة السواقة، عمر علي داحي الباب، ففي المناطق السنية يكفيه أن اسمه عمر، أما في المناطق الشيعية فهل هناك أفضل من لقب داحي الباب وهكذا كان يكسب رزقه في كل مكان.
عند مدخل جسر الجادرية رأيت سيطرة تقف عند مدخله، ساورني قلق كونها سيطرة وهمية، طلبت من السائق أن يوقف السيارة بعيدا عنها، لكنه رأى من الأفضل البقاء ومواصلة الطريق، وعندما وصلنا إلى هناك أنزلونا وأخذوا يسألونه من أين هو، ومن أي عرب، وما هو اسمه ؟
لا أطيل عليكم الكلام، لم يسمعوا منه غير اسمه ولم يلتفتوا لداحي الباب، فسحب أحدهم سكين كبيرة كأنها السيف(قامه) وأطاح برأس المسكين وترك الدماء تنطلق من رقبته وكأنها نافورة!.
لم يبقى عندي أي أمل بالنجاة وأنا المندائي بعد أن قتلوا السائق لمجرد كون اسمه عمر. كيف سأنقذ روحي واسمي مكتوب في الهوية ثابت ابن زهرون ؟
في هذه الأثناء حدث ضرب رصاص في الساحة المجاورة لا أعرف مصدره أو سببه، ومرت بالقرب منا دبابة أمريكية وأخذت ترمي عشوائيا. فرّد أفراد السيطرة الوهمية عليها.
ركضت إلى الجهة الثانية من الشارع أثناء انشغالهم، بالرد على الأمريكان، وعدت مهرولا بين البساتين إلى الدار.
كانت مجازفة غير مبررة، كنت أمني نفسي بأن أجد دكاني سالما، وقد أستطيع بيعه أو بعض أغراضه. لكنني علمت لاحقا أن الدكان قد سلب بما فيه، فرهود، أتذكر فرهود اليهود؟.
بعت الدار، وبما تبقى من نقودها اشتريت بها دولارات وهربتها وهربت بها.
من حقكم أن تسأل كيف استطعت بيع الدار في مثل هذه الظروف؟
إنني حتى أخشى سرد هذه التفاصيل، ببساطة إنها قصة لا تصدق:
علمت أن هناك موظفة في طابو الكرخ، تأخذ خمسة وعشرين بالمائة من كل صفقة بيع تقوم بها، وتتم العملية كما يلي:
عندما تقوم بعملية مثل هذه، تأتي بسيارة لاندروفر ومعها حماية مسلحين، تحمل على صدرها سجل الطابو الحكومي الكبير!
تجلس في البيت المراد بيعة بين البائع والشاري، وكأنها قاضي يعقد مهرا على مذهب أبا حنيفة النعمان. وتنجز معاملة التوقيع على البيع بشكل أصولي، فيأخذ البائع المبلغ المتفق عليه، وتأخذ هي نسبتها، ويستلم الشاري سند الشراء،بعد أن يوقع الطرفان في السجل. وكل واحد يذهب لحاله.
كان اسمها أمل، رجوتها ودفعت لها مبلغا إضافيا لأجل أن تأخذني بسيارتها لشراء دولارات بتلك النقود.
بسيطة سيد ثابت، أعطي المبلغ للأولاد وسوف يشترون بها الدولارات التي تريدها وحسب سعر السوق،وأنت أكرمهم بعد ذلك حسب ما تراه، وسأبقى أنا هنا لحين عودتهم.
وهكذا ذهب الأولاد كما تسميهم أمل، وأعددت أنا الغداء معها لحين عودة (الولد).
عادوا بعد وقت ليس بطويل، وجلبوا لي الدولارات، لم أحسبها أو أفاصلهم عليها، ولكن كان كل هميّ أن لا تكون الدولارات مزورة. أعطيتهم قسما منها، وتناولنا الغداء وذهبوا لسبيل حالهم.
هكذا أصبح حال الذي تسميه وطن، تفو على هيج قادة باعوا الوطن وباعوا القيم بثمن بخس، وأوصلوا العراق وأهله إلى هذا الدرك.
أما كيف وصلت إلى السويد؟ فتلك مصيبة أدهى.
دعني عزيزي أبو يحيى من هذا الموضوع، مجرد تذكر تلك الأيام تثير في نفسي الرعب إلى حد الموت.
تصور يلقي بك المهربون في زورق صغير جدا وسط البحر ثم يتركوك لوحدك هناك تصارع الموت لثلاثة أيام أمام الساحل السويدي، إلى أن يأتي خفر السواحل فينقذوك في آخر لحظة بواسطة المروحية.
لم أعد أميز بالضبط بين الصحّ والخطأ. العهد الملكي عميل، وقاسم مستبد، طيب كرهنا نظام البعث وأجهزته الأمنية، ما البديل الذي أعطوه لنا؟ وهل تستحق هذه الديمقراطية التي يتشدقون بها كذبا، حياة مليون إنسان؟ هل تستحق كل ديمقراطيات العالم دمعة ابنتي، وموت أمها كمدا عليها؟
أصبحت أكره نفسي كوني عراقي لا بل كوني من بني البشر حتى.
هون عليك يا ثابت، الحياة لا زالت أمامك والسويد بلد رائع.
أقلب صفحة، لننسى الهموم.
أقلب صفحة؟ إذا فرغ ما في نفسي من حزن والآم ، بماذا سأقضي بقية العمر؟
رحت أواسيه وأسايره في شجونه محاولا ببلاهة التخفيف عنه بالحديث عن رومانيا، وعن الحزب الذي استضافنا، ولكنه لم يسمع مني شيئا وكان قد سرح في عالم ثاني.
وهكذا قضينا تلك الأمسية عبثا حاولت خلالها مسح دمعة ثابت. ودعنا بعضنا على أمل التواصل في المستقبل.
عدت إلى الفندق، كنت متعبا من كثرة الأحداث، ولازمني صداع بسبب كثرة ما شربنا في تلك الليلة. الكوابيس والأحلام المزعجة نغصت ليلتي، فصحوت متعبا مثقل الرأس، وبعد فنجان من القهوة، ووجبة خفيفة من (الكرواسون) بالزبد والمربى، عاد لي بعض مزاجي، فذهبت لموعدي مع الرجل الشرقي، وكم تمنيت أن لا يتم ذلك الموعد، فأنا متعب وحزين جدا، وليس لي مزاج بالحديث مع أحد، وخاصة مع هذا الرجل الغريب، ولكنه موعد يجب الوفاء به، هكذا تربينا.
 

يتبع

(1)  المندائيون لا يختنون ، والأختتان يعد من الكبائر عندهم


¤ الصدفة (2)
¤ الصدفة (1)


 

free web counter