| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالآله السباهي

 

 

 

الأربعاء 13/8/ 2008



 الصدفة
(1)

عبد الإله السباهي

اكتظت ساحة النهضة بسيارات المسافرين الكبيرة، وبعربات الباعة، الذين انهمك أغلبهم في تجهيز مصابيح النفط المسماة (لوكس)، محاولين طرد الظلمة، على الرغم من أن الشمس في أول مسيرتها نحو الغرب.
وقف زاهر حائرا في تلك الزحمة، سأل أحدهم عن الحافلات المنطلقة إلى الناصرية، ولكن صراخ الباعة لم يترك له فرصة في سماع ما أجابه به الرجل. توجه إلى سائق الحافلة التي بجواره سائلا، يطلب المساعدة، ومن يرشده إلى الطريقة التي يجب أن يسلكها كي يسافر إلى الناصرية، وأي حافلة يركب؟
دله السائق على مكتب صغير مشير بيده باتجاه ذلك المكتب وخرجت كلماته من بين الشفاه ملفوفة بدخان كثيف.
قصد زاهر تلك الغرفة التي أشار إليها سائق الحافلة، وهناك ابتاع بطاقة سفر إلى الناصرية، والموظف الذي أعطاه البطاقة أشار نحو الحافلة التي تحمل عنوان المدينة التي يقصدها.
رجع زاهر يدور بين الحافلات وحقيبته الصغيرة وبطاقة السفر في يده، باحثا عن تلك الحافلة. لقد ضاعت الأسماء هناك بين الصور المعلقة على النوافذ، طبعا صور "السيد الرئيس". وبعد جهد استقر في مقعد يعد وثيرا في الحافلة التي ستنطلق بعد دقائق معدودة إلى الناصرية.
تطلع من النافذة إلى باعة الأطعمة المتجولين، وتقزز من منظر الأطعمة التي يعرضونها، وقد اصطفت أسراب الذباب فوقها، حتى حجب بعضها عن الأنظار، وهنا راحت يد زاهر تتلمس (الساندويتشات) التي في الحقيبة حيث أعدها ليلة أمس، فاطمأنت نفسه بذلك، خاصة وإن قنينة الماء المثلج، لا يزال الثلج فيها متماسكا، والفصل خريف أو في بداية الخريف.
لقد نواها زاهر أخيرا، قرر الهرب من جحيم أجهزة الأمن الصدامية. وها هو يودع الأزقة التي تربى ولعب فيها في حي الصبة، في سوق الشيوخ.
كان يعيش مرحلة الفطام، ومثل طفل في تلك المرحلة، يملئ الدنيا صراخا، بحثا عن ثدي أمه، كان صاحبنا وبكل إصرار يرغب في توديع بساتين الكرمه، والحجام وآل صيدح، وقد يواصل السفر لكرمة بني سعيد أو للجبايش. لم يكتفي بذلك بل راح يصور كل الدكاكين في سوق الشيوخ، من نداف إلى صائغ وحائك بسط وغيرهم. حتى أمسك به أحد رجال الأمن وأخذ آلة التصوير منه.
لم يسلم من تلك الورطة إلا بعد أن تقاسم مع الرجل آلة التصوير، فأخذ هو الصور التي التقطها، وأعطى آلة التصوير لذلك الرجل فأطلقه.
"ها زاهر ارتحت ؟ "
عاد بعد ثلاثة أيام إلى ساحة النهضة في بغداد. وهناك ظل واقفا فيها يبحث بعيونه عن قبور اليهود، الذين دفنوا هناك! وما آل بهم الزمن قبل أن يستأجر سيارة أجرة لتأخذه إلى بيتهم في شارع 14 رمضان.
وفي اليوم التالي قرر الذهاب من الصباح ليودع قبور أهله في أبو غريب قبل أن تتحول محطة للحافلات.
وهكذا ظل لعدة أيام يزور هذا المكان وذاك، ويجد عشرات الأسباب ليطيل بقاءه ولو ليوم واحد آخر في عراق أحبه.
ثم راح يودع أصدقائه واحدا بعد واحد، وكان آخرهم ثابت، حيث زاره في محله في بغداد الجديدة.
لم يرضى ثابت أن ينتهي الوداع بهذه الصورة، ولم يتركه يذهب بل أصر على أن يصطحبه معه إلى البيت، ليقضوا سوية سهرة الوداع. أقفل ثابت محله مبكرا على غير عادته، وركب سيارة الداتسن اليابانية القديمة التي يمتلكها وأجلس زاهر بجنبه بعد أن عبأ صندوقها بما توفر.
ها أبو شارت، يظهر أنك أخيرا اشتريت بطارية جديدة للسيارة، يعني ماكو دفعه هذه المرة ؟ لا، لا اصعد لا تخاف.
وصلوا محلة السيدية بعد أن عبروا الجسر المعلق، والذي تم أصلاحه منذ وقت قصير، بعدما قصفته طائرات أمريكية إثناء عاصفة الصحراء.
وفي بيت ثابت وخلال تلك الأمسية راحوا يسترجعون الذكريات، وأم شارت تمد المائدة باللبلبي والباقلة وغيرها من المقبلات بدون توقف بعدما كانت الصحون تفرغ بسرعة.
ضحكوا كثيرا عندما رحلت بهم الذكريات إلى رومانيا.
كان زاهر قد سافر بسيارته المرسيدس الجديدة، مع ثابت يرافقهم شنشل، في سفرة راحة واستجمام وعلاج إلى رومانيا، قبل خمسة عشر عاما. كان ثابت يعاني من أمراض في القلب في ذلك الحين، أو هكذا شخص له الأطباء الآلام التي كان يعاني منها.
وصف له بعض معارفه ممن عشقوا العلاج خارج العراق، طبيبا ذاعت شهرته في رومانيا، وفي كل العالم في ذلك الوقت. والروح عزيزة كما تعلمون، وزاهر لم يترك ولعه في السفر ويدور حجة لكي يسافر"وأبو طبع ما يترك طبعه" وكما يقول المثل (طبع البيه معشش بيه، يزيد منّ ما ينقص أوقيه) وهكذا سافروا إلى أوربا بالسيارة وكانت رفقة ممتعة.
حقا كانت تلك سفرة ممتعه - قالها ثابت - لولا الشرطة البلغارية، أتذكر كيف عذبونا في تلك المدينة الصغيرة ونحن في الطريق إلى الحدود الرومانية، بحجة مخالفة الإشارة المرورية والتي لم تكن موجودة حتى، وجعلونا ننتظر ساعات؟
نعم أجاب زاهر: لا أظن إنني سأنسى ذلك ما حييت، ليس بسبب الرشوة التي دفعناها صاغرين للشرطي الحقير، وإنما على منظر شنشل وهو يتبع الفتيات المارات في الطريق الوحيد في تلك المدينة، يوزع عليهن سجاير (مور) السوداء، وعندما كن يهربن منه يعود ملتصقا بالفتيات العائدات من الجهة المعاكسة، وفي يديه علبة السجاير،وضحكته تكشف عن سن ذهبي. ودون نتيجة طبعا.
لا أعرف من زرع في رأسه أن البنات هناك يمكن مصاحبتهن بسيجارة أجنبية؟
لكن هل تذكر عندما ذهبنا إلى الجبل بحثا عن طبيب القلب؟
كيف أنسى هذه أيضا يا أبو شارت، اسمعي أم شارت ماذا جرى لنا وما فعله زوجك المحترم هناك؟
وهنا ظل ثابت يغمز لزاهر محاولا إسكاته تجنبا للفضيحة والمشاكل مع أم شارت. وزاهر وبكل خباثة تجاهل ذلك الغمز وراح يسرد كيف أنهم عندما وصلوا مساء إلى المصحة في ذلك الجبل، حيث الطبيب يعود زبائنه، وقصدوا الفندق الكبير الوحيد هناك، ذو النجوم الخمسة، وكيف استقبلوهم من الباب، وأخذوا منهم مفتاح السيارة ليركنوها في المكان المخصص لسيارات الضيوف. ثم أرشدوهم إلى الجناح الذي سينزلون فيه، وكان جناح فاخرا حقا.
يا أم شارت كانت المسألة مفاجأة بالنسبة لنا، فنحن وإن كنا في أمس الحاجة للنزول في الفندق، بعد الساعات الطويلة التي قضيناها خلف مقود السيارة، لكننا لم نحجز في ذلك الفندق مسبقا، حتى ولم نسألهم ذلك أثناء وصولنا إليه.
المهم، استضافونا في ذلك الفندق ستة أيام بلياليها، الطعام ثلاث وجبات يوميا، والحفلات الساهرة، آه كم كانت رائعة تلك الحفلات! - وهنا راحت عين ثابت تومض وكأنها مصباح السيارة الجانبي - والبوفيه التي كانت تستقبلنا فيها متى نشاء.
وعند مغادرتنا الفندق للحاق بشنشل قبل أن يضيع منا على الساحل وتخلص علب سجائره. ذهبنا إلى الاستعلامات، وفي أيدينا حقائب السفر، لندفع الحساب.
كنت خائفا من القائمة التي قد تقصم الرقبة، فلم تكن عندنا فكرة عن التكاليف، والخير وفير كما تعرفين فتركناها على الله حينها،
وهناك كانت المفاجأة. قالوا لنا لن تدفعوا شيئا، فكل إقامتكم على حساب الحزب.
وهنا سألت أم شارت: أبو يحيى، لم أفهم من دفع تكاليف إقامتكم في ذلك الفندق، أي حزب تكلف بالأمر؟ هل أنت سياسي كبير ونحن لا نعلم؟
لا يا أم شارت العزيزة، لست سياسيا، لا كبيرا ولا صغيرا، ولم أعرف إلى اليوم، أي حزب تفضل علينا وشملنا بكرمه، ولا أظن زوجك يعرف ذلك. وهذه مكرمة ليست بعيدة على الأحزاب، أليست الأحزاب في خدمة الشعب؟ ونحن الشعب طبعا. لا يهم أي حزب دفع الحساب، أو لماذا، الظاهر الفضل كان للمرسيدس الجديدة.
وهكذا استضافونا ستة أيام بلياليها أكل وشرب ونوم مجانا ( أكل ونوم يا مالين القوم).
هكذا قضى زاهر تلك الأمسية الجميلة مع شيخ الصامدين في عراق صدام، ثابت وعائلته.
غادر زاهر العراق بعد يومين من تلك الأمسية، بعد أن حسم أمره في ترك داره التي بذل مبالغ طائلة في بناءها، وترك محل بيع المجوهرات الذي كان يمتلكه، وترك كل ما يملك، بعد أن عجز عن بيع أي شيئا منها. التحق بعائلته التي هرّبها قبله، والذين حطت بهم تدابير المهربين في هولندا.
التحق بهم وعاش هناك على مضض، يتقلب من مدرسة لأخرى، ومن عمل لآخر ومن بلدية لأخرى.
وبعد أن حصل على الجنسية الهولندية وحصل على راتب تقاعدي، سيطر وتبدل مزاجه، وراح يسترجع ذكرياته في البحث عن أصدقاءه القدامى.
لقد تعبت من الحديث عن زاهر، وسأترككم معه ليحدثكم هو مباشرة عن نفسه وبطريقته. في الحقيقة لم أتمكن من متابعة سرد الحديث عنه، لقد أتعبني، فهو يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، تعليقاته الساخرة، مزعجة أحيانا، لذا انتفضت صارخا:
تفضل أخي أتركك أنت وقرائك هذا إن وجدت من يقرأ لك، وعلى كل حال غرّد على هواك. طبعا ما صدق الخبر! أزاحني عن الحاسوب، وراح يكتب ما يشاء. إحذرو أن يأخذكم على حين غرة، دققوا في كل ما سيقوله. يكفي يا هذا تزحزح قليلا واتركني.
 

يتبع





 

free web counter