| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالآله السباهي

 

 

 

الأحد 17/8/ 2008



 الصدفة
(2)

عبد الإله السباهي

تفضل وهنا الحديث لزاهر:
ربطتني بالفنانة التشكيلية، والأديبة المندائية سوسن سيف وزوجها، علاقة قرابة وصداقة تمتد لسنين طويلة.
تخرجت سوسن من أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، وأصبحت فنانة تشكيلية ناجحة، لتنظمّ إلى العديد من الفنانين المندائيين المبدعين في الساحة العراقية. أما زوجها والذي توفي قريبا رحمه الله، فكان يعمل مستشارا في إحدى الوزارات.
جمعتنا بهم في بغداد صداقة قوية، وكنا نتزاور كثيرا، وأطفالنا يلعبون ويكبرون سوية. وقد كنا نسكن قريبين من بعضنا في محلة القادسية في بغداد. أعتقل الزوج، وزج به في زنزانات المخابرات، ولم ينجو من الإعدام إلا بأعجوبة.
أخذ بعدها زوجته وأطفاله وهرب بهم من جحيم الحكم في العراق والتجأ إلى فرنسا. فكان من أوائل المندائيين الفارين. فهؤلاء عراقيون متشبثون جدا بوطنهم، ولم يعرفوا أو يعترفوا بوطن غيره. ولكن بعد أن أصبح العيش صعبا على كل مفكر في العراق، وخاصة المندائيين منهم، تلك الشريحة الواعية من مكونات الشعب العراقي. ترك من استطاع منهم أرض أجداده وملاعب طفولته، وهام في أرض الله الواسعة.
تلاقفتهم أيادي المهربين لتأخذ منهم آخر ما جنوه وترمي بهم في بلدان شتى، ودون تخطيط أو اختيار مسبق. تشتتوا بين دول العالم المختلفة، وصار من الصعب عليهم أن يلتقوا بمن أحبوا، وظل الشوق والحنين للأيام الخوالي يعكر صفو عيشهم.
وهكذا أصبح أخوكم زاهر واحدا من هؤلاء الذين بلا وطن (على طريقة البدون الكويتية).
التحقت بزوجتي وابني يحيى، والذين أرسلتهم قبلي إلى المهجر، وبقيت أنا في الوطن لأحمي خطوط العودة لحين وصولهم إلى برّ آمن. " محروسة يا بغداد "!
بعد أن استقر بي المقام في هولندا، وعشت ردحا من الزمان فيها، كما حدثكم الراوي، رحت أتفقد أصدقائي القدامى، محاولا زيارتهم قدر استطاعتي.
قصدت سوسن وزوجها أول من قصدت في فرنسا. فباريس هي الأقرب لي والأسهل. وهناك نزلت في فندق ذو نجوم ثلاثة وسط المدينة. ورحت أبحث عن سوسن وجابر. لم أكن أبحث عنهم وسط شوارعها المزدحمة طبعا، ولكنني اتصلت بهم عن طريق الهاتف، فجاءوا لزيارتي، ودعوني لزيارتهم في البيت مشكورين.
اجتمعنا على مائدة العشاء، التي أقامتها سوسن وزوجها على شرفي في شقتهم الجميلة المطلة على نهر السين، بالقرب من برج إيفل الشهير.
كانت المائدة عامرة بكل ما لذ وطاب، أعدتها سوسن بنفسها، فهي بالرغم من ضيق الوقت، وعيشها الطويل في باريس، لم تستطع ترك قدورها، والتعود على ما تقدمه المطاعم الباريسية، ولا تعترف حتى بأن المطعم الفرنسي يعد الأحسن بين مطابخ العالم، وترى أن مطبخها هو الأحسن.
دعت سوسن إلى تلك الوليمة شلة من أصحابها، وهناك تعرفت على العديد من ثروات الفكر العراقي الضائعة، منهم القاصة العراقية المعروفة عاليه ممدوح ومجموعة من الأدباء والفنانين . كانت أمسية جميلة سادها حديث الذكريات، وتقاسمت رواية عاليه، (حبات النفتالين) وقصائد سوسن الجديدة " فسوسن بالمناسبة شاعرة رقيقة، وكاتبة سلسة"، وكذلك دار نقاش حول روايات القاصة المندائية الواعدة الدكتورة خوله الرومي ومنها (الرقص على الرمال). وكانت قاعة الضيوف متحفا صغيرا، من كثرة الأعمال الإبداعية التي أجادت ريشة الرسامة سوسن في رسمها.
مما يثير الانتباه في إبداعات المندئيين، إنهم لم يتطرقوا فيها إلى حياة قومهم أقصد " الصابئة" إلا ما ندر، وربما كانت الشاعرة المندائية الرائعة، لميعة عباس عمارة، هي الوحيدة التي ذكرتهم في شعرها في محاولة لتأسيس أدب مندائي.
كبر أطفال سوسن، وكلنا كبرنا، فقد أصبحت تلك القطط المدللة اللواتي اشتقت لهن كثيرا، فتيات رائعات الجمال، ينافسن فتيات باريس بالأناقة والجمال أو يتفوقن عليهن.
ذكر صدفة في تلك الأمسية الجميلة، أن حفلا مخصصا لتقديم الترجمة العربية لكتاب المندائيين المقدس الكنزا ربا، سيقام في إحدى القاعات الأدبية التي تزخر بها مدينة باريس الجميلة.
دعت لهذا الحفل جمعية "الصداقة العراقية الفرنسية"، وقد استضافت الشاعر المندائي الكبير والمثير للجدل عبد الرزاق عبد الواحد لتقديم الكتاب، والحديث عن مراحل ترجمته التي قام هو بوضع الصيغة الأدبية لتلك الترجمة.
أثار الموضوع اهتمامي ورغبت جدا بحضور الحفل. فهذه أول مرة يترجم فيها كتاب الكنزا إلى اللغة العربية، رغم قدمه، ورغم ما يمثله من فكر ديني موغل في القدم. وبالمناسبة فإن المستشرقون الأوربيون ومنذ القرن التاسع عشر قاموا بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة السويدية أولا ثم إلى الألمانية والأنكليزية، وتعد ترجمة المستشرق الكبير ليدزبارسكي من أهم تلك الترجمات، والآن ترجم إلى العربية اعتمادا على تلك الترجمات، وهكذا شابت الكتاب تشوهات جادة، وأخطاء لا تغتفر.
أن ذكرياتي مع الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد تمتد لأيام الخمسينيات من القرن الماضي.
أذكره وأنا يافع، وكنت استمع لقصائده التي تمجد الشعب العراقي وتمجد الأفكار النيرة، وتدعو إلى السلام، كان يلقيها على شلة من الشباب، خليط من مندائيين ويهود ومسلمين اجتمعوا صدفة في أحد البيوت الفقيرة في محلة أبو دودو. أكيد أن هذا الاسم سيثير تساؤلاتكم، ولكنني سأعود إليه فلا تستعجلوا.
و عرفت الشاعر كذلك عندما كنت أعمل في دار بغداد للطباعة والنشر، في أيام جمهورية الرابع عشر من تموز، فقد طبعنا ونشرنا له ديوانه النشيد العظيم.
وعرفته في جلسات خاصة جدا مع الأديب المندائي الكبير الراحل نعيم بدوي، حيث كان عبد الرزاق ينشدنا قصائده الشعبية وبعض من قصائده المقفاة، والتي كانت بعيدة جدا، لا بل متعارضة مع شعره الذي ساد حقبة الثمانينيات والتسعينيات، والذي كان يمدح ويمجد السلطان فيه.
أخذت عنوان القاعة التي سيقام فيها الحفل، وكانت الدعوة عامة، وفي اليوم المقرر ركبت قطار الأنفاق إلى أقرب محطة، ومن هناك استأجرت سيارة أجرة أقلتني إلى العنوان المطلوب، فالتفاهم مع الفرنسيين مشكلة للسائح الذي لا يعرف لغتهم.
كنت قد حضرت إلى القاعة مبكرا جدا، فرحت أتجول في معرض الكتاب المقام بالمناسبة، والذي لم أجد فيه كتبا جديدة، ولم يعرض الشاعر عبد الرزاق فيه سوى ديوانا واحدا من دواوينه العديدة، ولكن وللأسف كانت كل القصائد فيه مكرسة لمديح القائد( الفذ، الضرورة، الحفظه الله). اشتريته لا حبا بالقائد طبعا، ولكن كمن يشتري لوحة للشيطان رسمها فنان إيطالي عاش برعاية أسرة متديشي.
جلست في المقهى المجاور أتصفح ما سطرته مخيلة الشاعر في انتظار بدء الحفل. وهناك وجدت أحدهم ينتظر مثلي. كان الرجل شاردا الذهن حتى لم يلتفت لي حين جلست إلى طاولته ومعي فنجان القهوة. كان وجوده هناك صدفة لم أكن أتوقعها، إنه صديقي ثابت.
ربطتني بثابت صداقة قديمة من النوع الذي لا يفرط فيها، وكان لقاءه يفرحني دائما.
آخر مرة رأيته فيها، كانت في بغداد قبل عقد من الزمن. ظل ثابت مصرّا حينها على أن يكون آخر بدوي يودع الصحراء.
كان في الخمسينيات من عمره، امتلك محلا لبيع المصوغات الذهبية في سوق بغداد الجديدة.،وأشاد بيتا على مساحة أرض واسعة في محلة السيدية، وعاش هناك في بحبوحة، فمائدتهم لم تخلو يوما من "البشوش والبط والطيور المحشية" كانت أم شارت تطبخها على الطريقة المندائية، تحضر توابلها بيدها في وصفة خاصة سميت (بهارات صبه). وعلى الرغم من حب ثابت للأطفال إلا أنه لم يرزق بغير بنت جميلة أسماها شارت وهو اسم مندائي.(1)
لعبت الصدف دورا أساسيا في حياة ثابت، والغريب في الأمر أن الرجل كان منظمّا وحريصا على تخطيط حياته بدقة، والتي انتهت بشكل غير مخطط له إطلاقا.
يعيش ثابت اليوم وحيدا في مدينة صغيرة في جنوب مملكة السويد لم يتخيل العيش فيها، ولا حتى عنده علم بوجودها على هذا الكوكب.
تعلم لغة البلد هناك وأضافها إلى حصيلته من اللغات النادرة الاستخدام، والتي كان يتحدث ببعض منها بين الحين والحين، متباهيا أمامنا بمعارفه الواسعة، وخاصة عندما نلتقي مع أجانب صدفة، كان يرطن ببعض الجمل المندائية، ويقول إنها لغة أجداده، ولغة السيد المسيح، ويصر على أن السيد المسيح كان ينطقها، وهنا يحيط نفسه بهالة من المعرفة أمام من لا يعرف تلك اللغة القدسية المندثرة.
بعد العناق وغيرها من طقوس اللقاء، رحت اسأله بإلحاح عن أخباره وكيف يعيش؟ وأين؟ وماذا؟ قاطعني مدليا بتصريحه المعتاد( كل شيء في أوانه)، سوف أحدثك عن كل شيء ولكن ليس الآن دعنا نخرج سوية بعد الحفل إن كنت متفرغا.
راقت لي الفكرة، وخاصة إن سوسن وزوجها مرتبطان بأعمال كثيرة في فندقهم الذي اشتروه في شارع الكاتب الكبير أميل زويا بالقرب من برج ايفل.
أعطيته عنوان الفندق الذي أنزل فيه من باب الاحتياط، وهكذا فعل هو. ولكن قل لي يا صديقي العزيز ثابت، كيف وصلت إلى هنا مادمت تعيش في السويد؟
كان ذلك بمحض الصدفة، وتعرفني كم أكره الصدف، ولكن رب صدفة خير من ألف ميعاد يا أبا يحيى.
رتبت حياتي في مدينة تروسه بشكل قد يبعدني عن الكآبة ورتابة الحياة اليومية في تلك البلدان. فلا قوانين جديدة كل يوم ولا قرارات ولا مكرمات ولا مفاجآت. كل يوم يشبه الذي قبله، لا بل كل عام نسخة من العام الذي سبقه، وهكذا، وبعد أن أنهيت دراسة اللغة، وأصبحت أعيش على مساعدات البلدية، حيث لم أوفق بالحصول على فرصة عمل مهما كانت بسيطة.- العمر يا أبا يحيى وللعمر حوبه هنا-. ليسوا مثلنا، نموت ونحن واقفون، مثل أشجار النخيل.
أنهض صباح كل يوم مبكر، وبعد الفطور أقوم بجولة على الساحل أراقب زوارق الصيادين، يدفعني الفضول أحيانا لرؤية السمك الذي يباع في تلك الزوارق مباشرة، من غير أن أشتري شيئا منه إلا ما ندر. فلم أعتد بعد على القبول بفكرة أن هذا سمك يمكن أكله، فحنيني إلى القطان والبني أو الشبوط، ينغص عيشتي هنا.
اقضي نهاري أحيانا في الغابة المجاورة صيفا، حيث الهدوء والهواء النقي، وهناك أسرح مع الذكريات، أحاول دفنها عميقا.
وعند عودتي ظهرا إلى البيت أسرع إلى صندوق البريد المليء دائما بصحف الإعلانات، ورسائل البلدية، التي لا أفقه منها شيئا. وأظل متلهفا في كل مرة على أمل استلام رسالة من أحد!
ذات مرة وجدت بين الصحف بطاقة بريدية، كتب عليها اسمي وعليها طابع بريد فرنسي، كتبت الرسالة بلغة لم أفقه منها شيئا، لعنت اليوم الذي حشوت فيه المخ بلغات لا يستعملها البشر، المندائية والهورمانية والفارسية، والتركمانية والعربية، وهنا أضفت عليها السويدية. وبعد محاولات عدة، عثرت على من فك لي رموز تلك البطاقة البريدية المكتوبة باللغة الفرنسية، كانت دعوة خاصة لحضور الحفل الذي ننتظر افتتاحه أنا وأنت الآن.
لا أعرف من الذي دعاني إليه، وكيف عثر على عنواني؟ أتكون أنت وراء ذلك؟ فأنا أذكر مقالبك الخفيفة الظل دائما، أتذكر سفرتنا إلى رومانيا؟
لا لست أنا حتما، فأنا لست مدعوا إلى الحفل أصلا، وإنما علمت عنه مساء أمس من بعض الأصدقاء، وأنا هنا في زيارة قصيرة.
وعندها حان وقت الافتتاح، فتركنا ما نحن فيه وذهبنا سوية لنشغل مقعدين متجاورين داخل القاعة، وبذلك حرمني من فرصة التعرف إلى سيدة فرنسية أنيقة كنت أمني النفس بالجلوس بقربها. وحشرت بدلا عن ذلك بجانب رجل عجوز ذو ملامح شرقية.
لم تكن الكلمات التي تعاقب الخطباء عليها تثير اهتمامنا كونها باللغة الفرنسية التي نجهلها.أو حديث إنشاء مكرر فيه الكثير من السفسطة.والتبرير.وبعد الكلمات المملة وعلى هامش الحفل التقينا بالشاعر عبد الرزاق وكان برفقته أحد الصاغة المندائيين اللذين نعرفهم وهو الذي كان مشرفا على مسألة ترجمة وطباعة الكنزا.
وبعد الشروح غير المقنعة من الأخ المشرف والمعّد لهذه الفعالية، والذي هو صاحب الدعوات التي وصلت واحدة منها إلى ثابت، خلصنا بنتيجة أنهم يقدمون للمندائيين (جمّارة برحي) كما قال بدلا من الكنزا ربا. وبذلك تحول آخر كتاب غنوصي مهم، إلى (جمارة برحي)، أكلوا عوافي!
لقد صيغت الترجمة لتلاءم الوضع السائد في العراق، فلم تكن الترجمة أمينة، وصيغت على الطريقة الإسلامية، ولم يكتفي المشرفون بهذا القدر، وإنما وثقوّا تلك الترجمة كونها معتمدة من قبل المندائيين ككتاب مقدس لهم، وأهدوا نسخة منه مكتوبة بماء الذهب إلى السلطان على أساس أنها الكنزا ربا ولم يكتب تحتها حتى كلمة ترجمة.
تركت الحفل أنا وثابت قبل أن ينتهي لنستمتع بجو باريس، ولنتمم أحاديثنا. وقبل أن نغادر القاعة طلب منيّ جاري العجوز الذي ظل يلاحقني حيثما ذهبت أن نتعارف، بعد أن سمع حديثي مع ثابت عن لقائي بالشاعر عبد الرزاق في أبو دودو. وبعد أن تعارفنا ظهر أنه يهتم بأبي دودو وليس بالشاعر والحمد لله، وطلب مني موعدا للحديث عن بغداد ومحلاتها القديمة.
ولكوني خالي الشغل و(أدور طلايب) اتفقت معه على موعد في اليوم التالي، فاليوم هو مخصص للحديث مع ثابت الذي سيسافر غدا.
ودعّت الرجل العجوز وانطلقت مع ثابت، قاصدين شارع الشانزلزيه. جلسنا هناك في إحدى المقاهي المكتظة، نحتسي الجعة ونسترجع ذكريات الأيام الخوالي.
كيف تركت العراق يا ثابت؟ أنسيت ما كنت تقوله، بأنك آخر عراقي يترك العراق؟
نعم أنا العراقي الأخير الذي ترك العراق، فالعراق الآن أصبح للأمريكان والإيرانيين الآن وليس لأهله، وإلى جيوش فدائيي القاعدة والتكفيريين و"اللطامه".
 

يتبع

(1) كان ثابت من المندائيين الذين عاشوا في العراق عندما كان يسمى ( ميسبتاميا) وهم ينطقون اللغة الآرامية القديمة.


¤ الصدفة (1)

 

free web counter