| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عادل حبة

adelmhaba@yahoo.co.uk

 

 

 

 

الثلاثاء 19/9/ 2006

 

 


يوميات ايرانية
( 19 )


عادل حبه

السعي للتأقلم مع حياة السجن
عند وصولنا الى سجن قصر، لم يتجاوز عدد السجناء في القاطع رقم 3 المائة وعشرين سجيناً سياسياً على اقل تقدير، ومن تلاوين سياسية مختلفة. فهناك السجناء المحكومون بسبب النشاط السياسي في اطار حزب توده ايران. ويلتحق بهم اعضاء الفرقة الديمقراطية الاذربايجانية التي تعتبر منظمة للمناضلين الآذربايجانيين ذات الصلة بحزب توده ايران وفرعه في آذربايجان الايرانية، والتي اسسها الفقيد سيد جعفر بيشوري في بداية عقد الاربعينيات.


الفقيد سيد جعفر بيشه وري

وضم السجن بين جدرانه ايضاً اعضاء في الحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني الذي هو الآخر كان يعتبر في ذلك الوقت امتداداً لحزب توده في المناطق الكوردية الايرانية، والذي أسسه الشهيد قاضي محمد الذي أعدم في مدينة مهاباد عام 1946 بعد انهيار الحكم الذاتي لكردستان ايران. وقد استقل هذا الحزب عن حزب توده ايران في وقت لاحق.
وقبع في السجن عدد غير قليل من السجناء ممن هربوا الى الاتحاد السوفييتي في اثناء اعلان الحكم الذاتي في كل من آذربايجان وكوردستان في عام 1945، أو في فترات الملاحقات ضد اليسار الايراني، ثم عادوا من جديد الى ايران للالتحاق بعوائلهم. كما يضم هذا الفريق من السجناء اولئك الذين هربوا الى الاتحاد السوفييتي بعد الاطاحة بحكومة الدكتور محمد مصدق في عام 1952 وقبلها.


الشهيد قاضي محمد

إن غالبية هؤلاء السجناء محكومون بأحكام ثقيلة تتراوح بين العشر سنوات الى السجن المؤبد. وهناك نفر قليل من السجناء من انصار الدكتور مصدق بما يعرف بـ"حزب نهضة الحرية" أو "نهضت آزادي" الذي يتزعمه المهندس مهدي بازركان وآية الله سيد محمود الطالقاني. ولم يكن في السجن آنذاك أي فرد من أنصار الحركة السياسية الدينية سوى شخص واحد هو عبد خدائي الذي شارك في الاغتيالات السياسية في الخمسينيات ضمن المنظمة المعروفة "فدائيان اسلام". إنه هو الذي قام بمحاولة اغتيال الدكتور محمد فاطمي وزير خارجية حكومة الدكتور مصدق الذي نفذ به حكم الاعدام بعد انقلاب عام 1952. أما من أعتقل في أحداث حزيران عام 1963 من أنصار السيد روح الله الموسوي الخميني، فقد جرى إعدام البعض منهم وأطلق سراح الآخرين. كما ضم السجن عدداً المتهمين بالتجسس لصالح الاتحاد السوفييتي وهي تهمة كانت رائجة ولربما حتى انهيار الاتحاد السوفييتي. فهذه التهمة كانت توجهها الحكومات الايرانية المتعاقبة ضد معارضيها اليساريين.
وكان من بين السجناء رجل دين كان على صلة بجنرال في الجيش الايراني واسمه حجازي ممن اتهموا بالاعداد لانقلاب عسكري لازاحة الشاه بدعم من الولايات المتحدة وادارة الرئيس جون كندي بالذات. فالولايات المتحدة في عهد الرئيس حون كندي كانت تشعر بالعزلة الخانقة للحكم الشاهنشاهي داخلياً واقليمياً والفساد المستشري في البلاد، وبالتالي الخطر الذي يهدد مصالحها في حالة انهيار الحكم. ولهذا سعت الولايات المتحدة الى تغيير في الحكم يسعى الى ضمان مصالحها والاتيان بحكم موالي لها أيضاً وسد الطريق امام اية قوى معادية للولايات المتحدة قد تسعى الى الاطاحة بالشاه. وقد شرع بتطبيق هذه السياسة الامريكية لادارة الحزب الديمقراطي أزاء العديد من الانظمة الديكتاتورية الهشة الموالية للولايات المتحدة الامريكية في مختلف بقاع العالم، ومثال ذلك في فيتنام.
لاحظنا في الساعات الاولى من وجودنا في سجن قصر ان جواً من الوجوم والحزن والحداد يخيم على السجن. فمنضدة "البينغ بونغ" الموجودة في باحة السجن خالية من روادها. كما أن بعض الوسائل البسيطة من أدوات الالعاب الرياضية كرفع الاثقال الخفيفة و"أميال" الزورخانة، وهي الرياضة التقليدية القديمة التي يمارسهاالايرانيون لحد الآن، لا يوجد من يزاولها في تلك السويعات. أستفسرنا عن السبب، وقيل لنا ان السجناء لا يمارسون اياً من وسائل اللهو من رياضة او نرد او دومينو او شطرنج لمدة ثلاثة أيام عندما ينفذ في اي سجين او عدد من السجناء حكم الاعدام، وهو أجراء بمثابة اعلان الحداد على ارواح هذه الضحايا واحتراماً للموتى. لقد عرفنا أنه قبل مجيئنا الى السجن بيوم اويومين، نفذ حكم الاعدام بثلاثة من العرب وهم محي الدين الناصري ودهراب الناصري وعيسى نصاري من قادة "حركة تحرير عربستان".

 
شهداء المعارضة العربية في ايران عام 1964

هذه المناسبة الاليمة قادتنا الى التعرف الى عدد من السجناء العرب الذين انتظموا في حركة قومية سرية عرفت بأسم "جبهة تحرير عربستان"، والتي تأثرت بالحركة الناصرية وتحضى بدعم من عبد الناصر. وكانت هذه الحركة تطالب برفع الظلم القومي والتمييز ضد العرب واحقاق الحقوق القومية للعرب الايرانيين.
لقد تم القاء القبض على هذه المجموعة في عام 1963، وحكم على عدد منهم بالاعدام. ونفذ الحكم فيهم قبيل انتقالنا الى سجن قصر في نهاية عام 1964 كما أسلفت. وكان في مقدمة من نفذ بهم حكم الاعدام كل من محي الدين الناصري ودهراب الناصري وعيسى نصاري كما أشرت، كما تم الحكم على آخرين من ناشطي التنظيم بالاحكام المؤبدة. وكانت هذه هي المرة الاولى التي التقي فيها بعرب سياسيين من عربستان، كما كانت تسمى هذه المنطقة حتى الثلاثينيات من القرن العشرين، ثم ليجري بعدئذ تغيير الاسم الى اسم قديم وهو خوزستان، وتعني بلاد الخوزيين التي سكنها الاكراد الفيلية واللر الحاليين، قبل ان تستوطنها القبائل العربية المهاجرة من شبه الجزيرة العربية بعد الفتوحات الاسلامية. ان تقاليد هؤلاء ولهجتهم لا تختلف البته عن امتداداتهم في البصرة والمناطق الجنوبية العراقية الحدودية. وتجمع هؤلاء مع العراقيين صلة القرابة، وكانوا على اتصال دائم مع امتداداتهم العشائرية في العراق لحين توتر العلاقات العراقية الايرانية. وتحولت هذه المناطق لعقود الى مناطق عسكرية يصعب المرور منها او تجاوزها الا من قبل امهر المهربين أو من غيرهم. استقبلنا هؤلاء الناس الطيبون البسطاء بحفاوة وود وتعاطف سيما وأن هناك الكثير من التشابه في العادات واللهجة خاصة مع كل من كاظم المالكي ومحمد الحمداني وهما من اهالي البصرة. وإضافة الى ذلك لاحظنا أن هناك حساسية بينهم وبين السجناء السياسيين الآخرين لاعتبارات قومية وتاريخية، والتي كان يؤججها النظام ويغذي نزعة العداء للعرب بشكل مطلق ومستنداً الى أسقاطات تاريخية عفا عنها الزمن تماماً، كما يفعل القوميون المتطرفون عندنا في تأجيج الكراهية ضد الفرس بشكل عام حاكماً أكان أم محكوماً.
ومما اثار لدينا الدهشة والاستغراب هو شدة الاحكام الصادرة على السجناء، حيث تتراوح الاحكام بين 10 سنوات الى السجن المؤبد والاعدام بشكل عام مع استثناءات قليلة لاحكام تتراوح بين 3 الى خمس سنوات. ولذا كان الحكم الصادر بين 3 الى 10 سنوات يعد حكماً هيناً في قاموس السجناء السياسيين الايرانيين. ويتندر السجناء بهذا الحكم الى حد انهم يحددون مكاناً قرب باب غرف السجن لهؤلاء السجناء على اعتبار انهم سوف يخرجون من الجب قريباً!!.. وفي الحقيقة ان السلطة الايرانية وجدت في تشديد الاحكام الصادرة وسيلة ردع للنشاط السياسي للمواطن الايراني. ولكن كما اثبتت التجربة التاريخية لنضال الايرانيين ضد السلطة وجبروتها واستبدادها، فان قسوة الاحكام لم تردع النشاط المعارض والمضاد للسلطة والمطالبة بالتغيير وهي ارضية موضوعية للمعارضة.
ولم يخلو السجن من بعض السجناء الذين تراجعوا عن مواقفهم تحت ضغط الحرمان والمعاناة وقدموا براءتهم من نشاطهم السايق، وكانوا يشكلون نسبة غير قليلة. الا ان قليلاً جداً منهم تحول الى مخبرين على السجناء الآخرين سعياً منهم للتزلف للحكم والخروج بأسرع وقت من هذا الجب. كان كل هم هؤلاء المخبرين منصباً على كتابة تقارير الافتراء ضد السجناء الآخرين، ونقل بعض ما تيسر من اسرارهم. وما ان حطت اقدامنا باحة السجن حتى بدأ هؤلاء برصد حركاتنا وصلاتنا مع السجناء الآخرين بحيث اصبحنا جزءاً لا يستهان به من عمل هؤلاء البؤساء، علماً اننا لم نكن من المواطنين الايرانيين، وبالتالي لا نشكل اي خطر على النظام الايراني وأمنه خاصة ونحن وراء جدران السجن المنيعة العالية.
في بداية وجودنا في السجن واجهتنا مشكلة غريبة علينا. ففي اليوم التالي من وجودنا في السجن فتح باب السجن ودخلت مجموعة موسيقية من أفراد الشرطة وهي تحمل الاطبال والابواق والزنار واخترقت ممر قاطع السجن متوجهة الى باحته. وراح عدد غير قليل من السجناء "النادمين" بالتوجه الى الباحة ايضاً لينتظموا في صفوف اشبه بالترتيب العسكري. سألنا احد السجناء الذين ابدوا وداً وتعاطفاً معنا وعلى عجل عن ما يحدث وما هو المطلوب. أخبرنا احدهم ممن لم يتوجه الى الباحة ان هذه الفرقة تأتي يومياً الى القاطع لتدعوا بالثناء والحمد والعمر المديد للشاه محمد رضا بهلوي في ظل العزف الموسيقي البائس والبدائي. كان واضحاً ان عدد غير قليل توجه الى غرفهم لتفادي سماع "جعجعة" الفرقة وصيحات الثناء المزعجة للشاه كمظهر من مظاهر الاعتراض ضد هذا التهريج المهين للقيم الانسانية. وعندما لاحظنا هذا المشهد المسرحي الغريب توجهنا نحن، اي المجموعة العراقية، ايضاً الى غرفتنا لنتفادى المشاركة في هذه المهزلة. فما لنا و الدعاء للشاه والثناء له. وما ان انتهى هذا "الكرنفال"، حتى خرجت الفرقة الموسيقية وعاد السجناء الى باحة السجن ورأينا من شارك في هذا "الحفل" وما يسمونه بالفارسية "شامكاه" وهم يعودون الى غرفهم وهم في غاية الاحراج امام اقرانهم من السجناء. لقد استمرت هذه العملية يومياً عندما كنا في القاطع رقم 3 من السجن عند غروب الشمس الى ان حدثت تطورات في تركيبة السجن وقدوم سجناء جدد كثر لا ينصاعون لهذه المهزلة بعد سنوات، لتجبر ادارة السجن على الغاء هذه الاجراءات التي اصبحت تثير السخرية لدى السجناء والإحراج لمن يشارك فيها بل وحتى لإدارة السجن. في الحقيقة ان هذه المهزلة ما هي الا اسلوب من أساليب إذلال السجناء وتحطيم ارادتهم ومقاومتهم والحط من كرامتهم واجبارهم على الاستسلام.
في اليوم الرابع من وصولنا الى هذا السجن، انتشر السجناء في باحة السجن المثلثة الاضلاع. وراح البعض يتخطى في الباحة وآخرون يمارسون لعبة كرة المنضدة او لعبة الزورخانة التقليدية. ولفت انتباه الجميع المهارة التي يمارس فيها حسين قبادي هذه اللعبة الصعبة رغم كبر سنه. كان هذا الرجل منهمكاً في أداء اللعبة وغير معني بإهتمام السجناء وفضولهم وتعاطفهم نحوه وهو يمارس اللعبة. وعلى حين غرة طل رئيس عرفاء الشرطة ورئيس حراس السجن ووقف على عتبة الدرج المؤدي الى باحة السجن وبيده ورقة. وبدأ بقراءة الاسماء المكتوبة في الورقة وذلك للاستعداد بالذهاب الى المحكمة او التحقيق في صباح اليوم التالي. وفي آخر قائمة الاسماء نادىالعريف وبإرتباك على حسين قبادي لكي يجمع ماعندنه من حاجيات شخصية ومرافقته. خيم جو من الوجوم والرهبة على السجناء في تلك اللحظة. فهذا الرجل لا ينتظره تحقيق ولا محكمة، فقد انتهى كل شئ وحكم عليه من قبل المحكمة العسكرية بالاعدام رمياً بالرصاص. هذه الحقيقة كان يفهمها السجناء والعريف ايضاً ولذا سيطر الوجوم وحتى الرعب على الجميع خاصة وان من استدعي هو هذا الرجل الاسطوري. وقف الجميع وهم في حالة من التطير والالم لوداع قبادي. اصطف السجناء على طرفي الرواق وكانهم في حالة استعداد عسكري لتشيع عسكري ولتوديع قبادي الى مثواه الاخير. سار حسين قبادي بخطوات ثابتة دون ان تبدر منه اية بادرة من الارتباك، ودون ان ينبس بكلمة ولا حركة شفاه امام السجناء الآخرين، ليلقى مصيره في فجر اليوم التالي في السجن. ودخل السجن من جديد في حالة حداد لمدة ثلاثة أيام لفراق من شاركهم ولو لايام معدودات في هذا الجب.

يتبع

¤ الحلقة الثامنة عشر

¤ الحلقة السابعة عشر

¤ الحلقة السادسة عشر

¤ الحلقة الخامسة عشر

¤ الحلقة الرابعة عشر

¤ الحلقة الثالثة عشر

¤ الحلقة الثانية عشر

¤ الحلقة الحادية عشر

¤ الحلقة العاشرة

¤ الحلقة التاسعة

¤ الحلقة الثامنة

¤ الحلقة السابعة

¤ الحلقة السادسة

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى