| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عادل حبة

adelmhaba@yahoo.co.uk

 

 

 

 

الثلاثاء 22/8/ 2006

 

 


يوميات ايرانية
( 15 )


عادل حبه

في معتقل باغ مهران

في صباح أحد الأيام نودي علينا وطلبوا منا التهيؤ للإنتقال إلى محل آخر. جاء أحد الحراس وقام بوضع العصابة على عيني وقيدوا يداي بالأصفاد، وكذا الحال بالنسبة للآخرين. قادونا إلى سيارة لم نستطع تمييزها ولا المحل الذي كنا فيه لوجود العصّابة على عيوننا. في الحقيقة كنا في مزاج أفضل بعد أن إلتأم الشمل وخف كابوس التعذيب. وتبادلنا القبلات، وفي أثناء ذلك بدأ كل واحد منا يمازح الآخر سعياً من الجميع لتغيير المزاج ورفع المعنويات لدى الآخرين. سارت بنا السيارة لمدة ساعة تقريباً، وهي سيارة مخصصة لنقل السجناء مغلفة بألواح حديدية وذات شبابيك صغيرة يأتي منها سيل من النسيم العليل المنعش الذي لم نشمه منذ وقوعنا في أسر الجلادين. كنا نشعر بأن السيارة كانت تتسلق مناطق مرتفعة دون أن نستطلعها. ثم توقفت السيارة وسط ضجيج وصراخ آمري وعسكري لم نفهم إلا القليل منه. أنزلونا من السيارة الواحد تلو الآخر وقادونا إلى غرفة وأغلقوا بابها. أمر أحدهم بنزع العصابات عن الوجوه. وكان أول من وقع نظري عليه هو ضابط عسكري أقرع برتبة عقيد في الجيش، ويقف إلى جانبه شخص طويل القامة وكريه الوجه له اسنان كأسنان الكواسر ويد طويلة مشوهة وكف عريض بشكل غريب. وما أن بادرت بالحديث معه وقدمت بعض الطلبات حتى بادرني بكف قوي على وجهي أدارني نصف دائرة ووقعت على الأرض. وكان يدردم بلغة غير فارسية وبقسوة مكشراً عن أنياب لا تشبه أنياب البشر. خمنت أن اللغة التي كان يتكلمها هي اللغة الآذرية، التركية. بعد فترة عرفت هوية الشخصيتين، فالضابط الاقرع هو عقيد في الجيش ومدير السجن. هذا العقيد مثل الاطرش بالزفة و لا يحل و لا يربط كما يقول المثل البغدادي. أما الثاني فهو رئيس عرفاء ذاع صيته بالقسوة والتعذيب والمعروف بـلقب "شعباني"، وهو الآمر الفعلي في المعتقل. أما إسمه الأصلي فهو الحسيني وهو من أصل آذري. وكانت مهمته لا تقتصر على الجانب الإداري بل كان يقوم بدور الجلاد عند القبض على المعارضين، ولعب دوراً سئ الصيت عند القبض على تنظيم الضباط التابع لحزب توده إيران في عام 1953. ومن النادر أن يفلت أي شخص معتقل أو سجين من صفعات الحسيني القوية وركلاته التي يعتبرها بمثابة "فيزا" للدخول إلى "إمبراطوريته". لقد نال هذا الجلاد جزاءه عندما حكم عليه بالإعدام بعد الثورة الإيرانية عام 1979، وبعد أن سلب الحياة من العديد من خيرة الإيرانيين جراء تعذيبهم بوحشية.
إنتهت "مراسيم الإستقبال الحافلة"، وقادونا واحداُ إثر الآخر إلى زنزانات متتالية تطل على رواق مشترك يطل على ساحة واسعة أشبه بمعسكر الجيش. وعوضاً عن الشرطة الذين كانوا يحرسون المعتقل الأول، فإن هذا المعتقل كان يحرس من قبل الجنود الإيرانيين. بعد أيام عرفنا أن هذا المعسكر يعود إلى الجيش الإيراني وتشرف عليه المخابرات الإيرانية المعروفة بـ "الساواك"، وكان يدعى بـ "باغ مهران". هذا المعتقل كان مخصصاً للأجانب وللإيرانيين المعارضين الذين يعودون إلى البلاد وجلهم من العائدين من الإتحاد السوفييتي. وقد أدركت ذلك منذ الساعات الأولى عندما كان يتبادر إلى سمعي حوار بعض المعتقلين باللغة الروسية. وكان هناك معسكر آخر يشرف عليه الساواك ويسمى "قزل قلعة"، وهو مخصص للمعتقلين الإيرانيين فحسب. وذاع صيت كلا المعتقلين بإعتبارهما من المعتقلات المخيفة للمخابرات الإيرانية والتي أودتا بحياة المئات من المناضلين الإيرانيين من مختلف الإتجاهات خلال فترة الحكم البهلوي.
حشرونا كل على إنفراد في تلك الزنزانات، وأوصدوا الأبواب علينا والتي لم تكن لحسن الحظ سوى تراكيب أبواب تتكون من قضبان حديدة متشابكة. تزود كل فرد منا بثلاث بطانيات عسكرية بنية اللون مستهلكة إستخدمنا واحدة كفرشة والأخرى كوسادة والثالثة كغطاء نحمي به بدننا من البرد في الليل. كانت تلك البطانيات تعد شئ ترف بالمقارنة مع عانينا منه في معتقل مخابرات الشرطة. حرموا علينا تبادل الحديث ولو كان من وراء هذه القضبان حيث كان الحراس لنا بالمرصاد. وغدا واضحاً من الوجبات وأرغفة الخبز التي يقدموها لنا إننا في معسكر تابع للجيش. كانت مساحة كل زنزانة لا تتجاوز أقل من مترين مربعين. جذبت الجدران إنتباهي ورأيت كتابات باللغة العربية إلى جانب اللغات الفارسية والروسية..الخ. أثار فضولي ماحك على الحائط باللغة العربية، ورحت أقرأ ما عبر عنه المعتقلون العراقيون الذين سبقوني إلى هذه الزنزانة من عبارات تحكي عن معاناتهم أثناء إنقلاب شباط في العراق، إضافة إلى سطور من أشعار وعبارات نثرية مفعمة بالحنين الى الوطن والأهل مذيلة بأسماء مختلفة. وكان من بين الأسماء أناس سمعت عنهم أو عرفتهم وقد هربوا إلى إيران لتفادي الطغيان. لاحظت على الجدار بضعة أبيات باللغة العربية لأشعار بالفصحى أو العامية مذيلة بإسم الشاعر العراقي مظفر النواب لا تسعفني الذاكرة بترديدها، وكلها تعبر عن الشجن وعن الشعب الذي أهدرت كرامته. وكان واضحاً إن هذه الزنزانات قد إحتضنت العديد من العراقيين خلال تلك الفترة ثم جرى تحويلهم إلى السلطات العراقية قبل إعتقالنا بفترة قليلة. إن مقارنة بين الجب الذي كنا فيه بعد الإعتقال وبين هذا المعتقل الحالي، تشيرالى أننا الآن في حال أفضل، خاصة وقد أخذنا ننعم برؤية الشمس ونرى السماء ونرى النجوم التي كانت تتلألأ في الليل على غرار مثيلاتها في بوادينا. والأهم من ذلك كان بإستطاعتنا ان نرى البشر العاديين. كانوا يقدمون لنا خمسة سجائر وعلبة كبريت يومياً. ولكن غالبيتنا لم يتعاطى التدخين، ولذلك كنا نجمعها ونضعها في ورق ونوصلها إلى مدخل زنزانة أخرى لكي يستلمها المدخن القهار الوحيد بيننا وهو محمد علي سيادت. أما علب الكبريت فكنا نلهو بأعواد الثقاب حيث نصنع منها سلال صغيرة غالباً ما كنا نقدمها إلى بعض الحراس اللطفاء معنا.
بعد يومين أو ثلاثة، نودي علي وقادني الحراس بعد أن تم تقييد يداي إلى غرفة ليست ببعيدة عن زنزاناتنا. وما أن دخلت حتى لاحظت رجلاً يلبس طاقماً أنيقاً وربطة مناسبة وجالساً وراء طاولة كبيرة. رأيته بالغ الجدية وعبوساً ويتظاهر بالقسوة والجبروت وبياض عينيه يغطيهما اللون الاحمر. فاجأني بالحديث بلهجة عربية فراتية واضحة. وباشر حديثه بتكبر وإستعلاء محاولاً توجيه إهانات مباشرة. قلت له إنني واجهت الأمرين من جلاوزتكم، وينبغي عليك التحدث بكلام مناسب لكي أعرف ماذا عملنا ضد أمن بلدكم ونظامكم. نحن أناس عانينا الأمرين من حكامنا ولجأنا إلى هذا البلد ولم نقم بعمل يهدد بلادكم. ولذا أتمنى أن يتم التعامل معنا بإحترام وإلا سوف ألزم الصمت وأفعل أنت ما تريد.
أعاد هذا الموظف ترديد عبارات التجسس و..و.. ثم بادر إلى توجيه الأسئلة التقليدية التي تطرح في عمليات الإستجواب. عرفني بنفسه على أنه "علي زاده"!!. وبالطبع لم يكن ذلك هو الأسم الحقيقي له. وقد عرفت بعد ذلك من أحد السجناء العراقيين من اهالي كربلاء ومن أقربائه،وهو حسين المراياتي، والذي إلتقيت به لاحقاً في سجن قصر في طهران، أن هذا المحقق من أهالي كربلاء ومن آل المراياتي، وترك كربلاء منذ فترة مبكرة إلى إيران وإنخرط في صفوف الساواك، في شعبة النشاطات الخارجية ومكافحة التجسس. وهكذا إستمر التحقيق من جديد لعدة أيام، وتكرر ذلك التحقيق مع الآخرين أيضاً. كان التحقيق تكراراً مملاً لما سبقه، والذي جرى في مبنى إستخبارات الشرطة بإستثناء عدم تكرار التعذيب الذي إقتصر هذه المرة على الصفعات والركلات الخفيفة.
مرت أيام والأمور تسير على منوالها الرتيب المضجر. في أحد الأيام لاحظنا الحراس وهم يقودون معتقلاً وقد وضع على رأسه كيساً فضفاضاً من قماش أبيض لكي لا يتمكن أحد من التعرف عليه. قادوا هذا المعتقَِل إلى زنزانة في وسط باحة السجن وأغلقوا عليه الباب بعد أن أزاحوا الكيس عن رأسه. لم نستطع التعرف عليه لأن باب الزنزانة كان في إتجاه معاكس لزنزاناتنا. ولكن في اليوم التالي وبعد أن جلبوا الغذاء له ورافقوه لغسل الصحون، أدار وجهه وتعرفنا عليه وما كان إلا رفيقنا العزيز محمد حسن عيدان (أبو ثائر). وقع هذا الأمر علي كالصاعقة، فكيف عرف هؤلاء بمكانه علماً أنه كان أثناء الإعتقال في العراق. ورحت أضرب أخماس بأسداس وخشيت أن يلقى الآخرين نفس المصير. علمت بعد إنتهاء التحقيق إن إعتقال أبو ثائر قد جرى بعد أن تم العثور على نسخة قديمة من برقية مرسلة منه إلى سعيد الذي لم يتلفها، وبعد ذلك تتبع المحققون مصدر البرقية وكانت من محافظة إيلام التي تقع على الحدود من العراق مقابل محافظة الكوت، حيث كان لأبو ثائرأقرباء يحتمي بهم ويأوى عندهم عند الإنتقال من وإلى العراق. وقام عملاء السواك بترصده الى ان ظهر في محافظة ايلام قادماً من العراق واعتقلوه. في اليوم التالي من وصول أبو ثائر نودي علي وذهبت برفقة الحرس إلى غرفة التحقيق ورأيت أمامي المحقق المدعو علي زادة وكذلك الرفيق أبو ثائر.
وبادرني المحقق بالسؤال : هل تعرف هذه الشخص ؟
أجبته بالنفي.


ابو ثائر في سجن قصر – خارج البند الرابع- ربيع عام 1967
في العاصمة طهران

وجه المحقق نفس السؤال إلى أبو ثائر وكان جوابه بالنفي أيضاً. ولكن ما أن سمع المحقق بجوابه حتى إنهال عليه بالركلات والصفعات التي كانت ترتد إلى صاحبها بسبب الهيكل الضخم والبنية القوية التي كان يتمتع بها أبو ثائر.
ولم يتوان المحقق عن أن يصفعني بالمناسبة بضع صفعات على الخفيف. وبعد حين نادى "علي زاده" على الحرس ليعودوا بنا إلى زنزاناتنا مرة أخرى.
إستمرت الإجراءات الروتينية معنا وكان يتم مناداتنا بين الفترة والأخرى لطرح الاسئلة وتلقي الأجوبة. بقيت التشديدات علينا بإعتبارنا من النشطاء السياسيين الخطرين على الأمن الإيراني!!!.

يتبع

¤ الحلقة الرابعة عشر

¤ الحلقة الثالثة عشر

¤ الحلقة الثانية عشر

¤ الحلقة الحادية عشر

¤ الحلقة العاشرة

¤ الحلقة التاسعة

¤ الحلقة الثامنة

¤ الحلقة السابعة

¤ الحلقة السادسة

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى