| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عادل حبة

adelmhaba@yahoo.co.uk

 

 

 

 

الثلاثاء 1/8/ 2006

 

 


يوميات ايرانية
( 12 )


عادل حبه

تحت طائلة العبث الهمجي

كانت الغرفة فارغة من أي أثاث، ومظلمة، ماعدا بصيص مصباح صغير معلق في قمة السقف العالي. ولا تعثر في الغرفة على أي منفذ أو نافذة. وكانت جدرانها ملطخة بالأوساخ ولربما كانت آثار دماء.
طلبت من الرجل الذي قادني الى هذا الجب أن يأتي بمترجم لكي يساعدني على
التفاهم معهم. ولكنه أجابني بصلافة أنت تعرف الفارسية ونحن نفهم ما تقول.
وسألني هذا الرجل بلهجة ساخرة عن الغرفة وهل هي مريحة!!
أجبته مدمدماً ببعض الكلمات التي كنت أتقنها باللغة الفارسية:لابأس. ولكنني سألته لماذا أنا معتقل وبأي مجوز قانوني؟
وأجابني بلهجة ساخرة ... أنت من سيخبرنا عن سبب القبض عليك، ولكن ليكن في علمك أنه لايوجد قانون في الدائرة التي تقف أنت في وسطها... ورسم حولي دائرة كاملة بقطعة طباشير أخرجها من جيبه. ثم بدأ يتحدث بلهجة تودد و بلغة عربية لم أفهم نصفها، وقال ما معناه إنني ضيفهم وحق الضيافة ينطبق علي إيضاً. إستغربت من حديثه وشعرت كما لو أنني أشاهد فلماً سينمائياً تجارياً كالذي كنا نشاهده بين الحين والآخر في دور السينما من الدرجة الثالثة.
سألني عما أود تناوله من الطعام؟
أجبته فوراً وأنا ألاحظ هذا التغيير الكبير نحو لغة التودد!! جلو كباب... الوجبة الإيرانية المشهورة واللذيذة.
وسرعان ما نفذوا طلبي وأسعفوني بفرشة مناسبة كي أتمدد عليها. كل ذلك وأنا في حيرة من أمري حيث لم يكن لدي سابق خبرة بأساليب الأمن الإيراني وتعامله مع "زبائنه" بالرغم من القصص الرهيبة التي ينقلها معتقلوا الأحزاب السياسية الإيرانية على صفحات جرائدهم السرية، والأساليب المرعبة التي يتعامل بها البوليس معهم. بعد تناول الطعام دخل علي محدثي مرة أخرى وبدأ حديثاً متشعباً لم أفهم نصف فحواه ولا مغزاه.
فاجأني بسؤال غريب:هل تعرفني؟
أجبته من أين لي أن أعرفك؟.
بادر هو إلى التعريف بنفسه... إنني محمد خطائي !!! كان الإسم غريباً علي أذني حيث لم أسمع به من قبل بتاتاً. وبالمناسبة فقد لمع إسم هذا الشخص كجلاد قاسي للمعارضين الإيرانيين في عهد الشاه وتدرج في سلم الجلادين ضمن ما يعرف في السبعينيات بـ "الكوميته"، أي اللجنة الأمنية لتصفية المعارضين. وقد تم إغتياله في منتصف السبعينيات على يد الميليشيات المسلحة التابعة لمنظمة مجاهدي خلق إيران.
وإستطرد خطائي قائلاً: إنني جلاد السياسيين!! ولم يصمد أمامي أي من المعتقلين السياسيين. تحدث بلغة مغرورة ولغة الواثق من مهارته في تنفيذ مهمته المشينة. عندها تغيرت لهجته من التودد إلى الوعيد وراح الشر يقدح من عينيه.
ثم خاطبني قائلاً: ينبغي عليك الإعتراف بكل شئ، وتتحدث لنا عن كل تاريخك منذ الولادة حتى الآن.
أجبته:عن ماذا أعترف وأنني مواطن عراقي ليس لي علاقة بالشأن الإيراني؟
وما أن تلقى خطائي جوابي حتى أمر بسحب الفرشة التي كنت أجلس عليها، ثم تقدم نحوي عملاقان مفتولي العضلات، ونزعوا عني بقوة ملابسي وقيدوا يداي ورجلاي وبدءا بالضرب بالهراوة البوليسية المكونة من قضيب حديدي حلزوني مغلف بمادة مطاطية. شرعوا بالضرب على كل ما يتسنى لهم ضربه من أجزاء بدني بحيث تفجرت الدماء من كل جانب، وتناثرت على جدران الغرفة وأرضيتها. ولم أشعر سوى أنهم يتقاذفوني يمنة ويسرة بالضرب الذي أخذ يشتد تباعاً مع صراخهم الهيستيري وشتائمهم باللغة الفارسية التي لم أفهم معنى غالبيتها. لا أدري كم إستمر هذا العبث الهمجي، ولكني شعرت بعد فترة ان قواي تخور وإنني بدأت أفقد الشعور والإحساس نتيجة الضرب المستمر ووقعت أرضاً فاقداً الوعي. لا أدري كم إستمرت هذه الحالة، سوى إنني لاحظت وأنا ممد على الأرض إن شبحاًً أبيضاً يحوم حولي وبيده سماعة طبية. كنت مبتلاً، ولربما قد سكب علي الماء بعد فقدان الوعي. أخذ الطبيب أو الممرض يضرب وجنتاي للتأكد من حالتي وعلامات القلق بادية عليه. أما أنا فقد كانت الآلام تكبس على كل قطعة من بدني والدماء تنزف من الجروح في الوجه والبدن التي سببها الضرب المبرح من قبل الجلاوزة.
وبعد أن تأكد الطبيب أو الممرض من عودة الوعي إلي، تركني الجميع وأنا ممدد على الأرضية الكونكريتية للغرفة وأنا شبه بجثة هامدة جراء هذا العمل الهمجي. حاولت معرفة الوقت ورحت أبحث عن ساعتي، التي أهداها لي أخي عبدالله في موسكو عند الوداع، والتي يبدو أنها تطايرت على أرض الغرفة. وبعد جهد لمحت الساعة وزحفت بإتجاهها ورحت أحدق فيها فإذا بعقارب الساعة تشير إلى الساعة الخامسة والنصف صباحاً تقريباً. وهذا يعني أن الجلاوزة قد إستمروا عدة ساعات ليرووا غليلهم. حاولت النوم ولكني كنت أحس بأوجاع وآلام شديدة طالت أية جهة أود التمدد عليها. ولكن جاءتني الغفوة بعدئذ ولم أصح إلاً على صوت ضجيج وصدى أقدام عسكرية تروح وتجئ في الرواق الرئيسي. خمنت أن النهار قد خيم وبدأ دوام الموظفين والشرطة في المبنى الذي كنت محجوزاً فيه. فتح الباب وطل رأس شرطي وراح يحدق بي ليتأكد من وجودي داخل الغرفة. وبعد حين جاء آخر وهو يحمل كأساً من الشاي وقطعة جبن صغيرة كوجبة فطور لي. إن حالتي لم تكن تسمح بتناول أي شئ لشدة الأوجاع بعد كل هذا "المزاح" الثقيل. لم يأت أحد من الجلادين ولا المحققين خلال الدوام الرسمي في المبنى ولم أكن أسمع إلا ضجيج المارين في رواق المبنى. وكنت خلال ذلك أمعن في التفكير عن إحتمال وجود معتقلين آخرين من فريقنا وكيف تم إعتقالهم وكيفية تفادي المزيد من الأضرار لمن بقي خارج حلقة الإعتقال. لم يكن في الغرفة أي مكان لقضاء حاجتي أو أية دورة للمياه، ولم يكن بإستطاعتي الوقوف لكي أنادي على الحارس. ولذا إستخدمت الكأس المصنوع من الألومنيوم وأقرعه على الأرضية الأسمنتية لكي أنادي الحارس. جاء الحارس وطلبت منه الذهاب إلى غرفة دورة المياه لأقضي حاجتي. خرج الحارس وبعد فترة عاد بعد أن أخذ إذناً بذلك ورافقه من يساعده. وأوقفوني على قدمي وأخذت أتكأ عليهما للوصول إلى دورة المياه. كانت قدماي ويداي مقيدتان حيث رفض الحارس فك قيودي. وليتخيل القارئ مدى صعوبة قضاء الحاجة في مثل حالي آنذاك. على أي حال مرت الأمور بشكل ما، وعدت متكئاً على الحارسين وأنا أقطع الرواق من غرفة دورة المياه إلى غرفتي. كان الرواق طويلاً، أو بدا لي طويلاً لأنني كنت مقيداً وأخطو خطوات السلحفاة. وكان الرواق شبيهاً بالأروقة التاريخية القديمة ذات الأطواق والسقوف العالية. ولاحظت أنه كان خالياً إلا من بضع أفراد من الشرطة يقفون على أبواب عدد من الغرف. كان الوقت يقترب من المساء حيث لاحظت الشمس وهي تميل إلى الغروب وينعكس شعاعها البرتقالي على جدران الرواق. ولم يعد يسمع ذلك الضجيج الذي كان يصل إلى سمعي في النصف الأول من ذلك اليوم.
ساد الظلام تدريجياً على المكان بعد أن خيم الليل. وكنت أفكر في ما ينتظرني في هذه الليلة حيث أيقنت أن الجلادين لا يقومون بعملهم إلا في الليل. وعلى حين غرة فتح الباب بشدة ودخل خطائي وزمرته والعصي بأيديهم وهم أشبه بفصيل عسكري يقتحم أحد القلاع العسكرية.
بدأ خطائي سؤاله لي : هل فكرت بمطاليبنا، وهل ستعترف بكل ماتعرفه؟.
أجبته:"عن أي شئ تتحدثون؟ إنني مواطن عراقي ليس لي أية علاقة بالشؤون الإيرانية، وقد إضطررت للمجئ إلى إيران بسبب الأحداث الدموية التي وقعت في العراق كما هو معروف لديكم".
وقال خطائي:"لا تلف ولا تدور، يجب عليك أن تتحدث لنا بالتفصيل عن تاريخك الشخصي وماذا كنت تفعل في جيكوسلوفاكيا وهل ذهبت إلى الإتحاد السوفييتي وهل لك علاقة مع حزب توده وما هي علاقتك مع سفارات الدول الإشتراكية في طهران وبالعراقيين الموجودين في إيران ....الخ"، وعدد قائمة لا حصر لها من المطاليب وختمها بقوله:"أنت متهم بالتجسس لحساب الحركة الشيوعية والإتحاد السوفييتي طبعاً !!!!".
كل إتهام كان يمكن أن أتجرعه إلا تهمة التجسس لحساب هذه الدولة أو تلك، ولذا ما إن سمعت كلماته حتى إنتابني غضب شديد ورحت أكيل الشتائم لهم بكلمات عربية وفارسية ووو... لأشبع غليلي من الغضب على هؤلاء الأوباش. ويبدو أن رجال الأمن الإيرانيين عادة ما يطرحون مثل هذه الإتهامات للإستفزاز ولإثارة الرعب لدى المقابل ولتوريطه ودفعه لتقديم أدلة مغايرة لتفادي مثل هذا الإتهام الخطير، وهذا ما حصل للعديد من السجناء كما فهمت لاحقاً. وفي الواقع فكرت ملياً بكلام الجلادين ورحت أستعيد هدوء الأعصاب لئلا أفقد زمام الأمور. وما أن أنهيت كلامي حتى غمز خطائي لفريقه وخرجوا من الغرفة. ولكن ما أن مرت فترة قصيرة حتى عادوا ومعهم معداتهم لكي يعاودوا مهمتهم التي شرعوا بها في اليوم الماضي.
وبدأت من جديد طاحونة التعذيب لتستمر حتى منتصف الليل وهم يكيلون ضرباتهم علي بدون أي رحمة أو تردد وبشكل أشد من اليوم السابق. وفي الواقع كنت أئن من هذا الضرب المبرح، ولكن ما عساي أن أفعل وأنا مكبل بالقيود تحت رحمة هؤلاء الجلاوزة. تركوني وأنا أشبه بالجثة الهامدة ولم يكن بإستطاعتي هذه المرة حتى الطلب من الحارس أن يساعدني بالوصول إلى دورة المياه لقضاء حاجتي. كان الجناة هذه المرة أشد ضراوة ولمحت بعضهم وهو يتناول أقراص تبدو طبية أو مسكنة لكي يستمروا بعبثهم. ولم أستطع تلك الليلة حتى التمتع ولو للحظات بالنوم لشدة الآلام التي سببها التعذيب. وبقيت مستلقياً على أرضية الغرفة الاسمنتية حتى الصباح حيث غفيت ولم أستيقظ إلا عندما جلبوا مايسمى بالغذاء وأيقنت أنه قد حانت ساعة الظهيرة. وإستعدت قدراً من قوتي بعد فترة النوم وشرعت بتناول فتات من الخبز المخصص للسجناء وحفنة من الرز والمرق.
لم يكف الجلادون عن فعلتهم في اليوم التالي أيضاً ولكن بكيفية وأسلوب جديدين. بادروا هذه المرة إلى الإستعانة بالفلقة المغمسة بالماء المالح، كما يصفها الجلادون، كي تفعل الفلقة فعلها من الإيذاء وبكيفية أشد. وبدأ الضرب بالفلقة على الرجلين بعد شد الرجلين بحبلين يتوسطهما وتد ذو قطر عريض نسبياً لكي يتم إستقرار الرجلين عليه أثناء التعذيب، وهي طريقة قديمة أستعملت في عهود غابرة من عهود التعذيب. لا أدري كم إستمر الضرب وأنا أتلوى من شدته وقسوته إلى أن صاح خطائي طالباً منهم التوقف. لم أعد أشعر بأن لي رجلان، فقد ألقيت نظرة عليهما بعد ان فكوا الوثاق ورأيت أنهما قد أنتفختا وأصبح سمك القدمين أضعاف سمكهما في الحالة العادية. حاولت أن أطأ الأرض ولكنني لم أشعر بتاتاً بأرضية الغرفة. وأدركت أن الأوردة والشرايين قد تمزقت حيث تغير لون القدمين ليتراوح بين الأحمر والأسود بعد حين. ويبدو لي أن المسؤولين عن هذه الفعلة ماكانوا يريدون أن تصل الأمور إلى هذا الحد. فقد فقدت السيطرة عند الوقوف على قدمي. وبقيت لعدة أيام لا أستطيع المشي، بل أذهب إلى دورة المياه وأنا أزحف على ركبتي ومنكبي لأصل إلى مقصدي كالسلحفاة. وسرعان ما إستدعوا الطبيب الذي بادر إلى علاجها بمسحها بمرهم الكافور من أجل تنشيط دورة الدم في أوردة وشرايين القدمين وإعادتهما إلى الحالة الطبيعية.

يتبع

¤ الحلقة الحادية عشر

¤ الحلقة العاشرة

¤ الحلقة التاسعة

¤ الحلقة الثامنة

¤ الحلقة السابعة

¤ الحلقة السادسة

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى