| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عادل حبة

adelmhaba@yahoo.co.uk

 

 

 

 

الثلاثاء 16/5/ 2006

 

 

 

يوميات إيرانية
( 1 )


عادل حبه

جارتنا إيران

في صباي لم يكن لدي ولربما حتى لدى الكثير من أقراني إلا صور مبهمة عن شعب يجاورنا ويجمعنا معه الكثير من التاريخ والثقافة المشتركة، وأعني به الشعب الايراني. ان كل انطباعاتنا عن هذا الشعب الجار يبقى في اطار مظهر الزوار الايرانيين، وغالبيتهم من الفلاحين والفئات المعدمة، والذين كانوا يفدون الى العراق لزيارة العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمين وسامراء ثم يأمون بيت الله الحرام للحج في مواسمه وزيارة مرقد السيدة زينب في ضواحي دمشق. ويتسلل آخرون من الإيرانيين عبر الحدود إلى العراق أيضاً بهدف دفن موتاهم الى جوار العتبات المقدسة في النجف وكربلاء، حيث يقوم المهربون لقاء مبالغ معتبرة بنقل جثث الموتى عبر الحدود الإيرانية العراقية ثم يتم إيصالها إلى المدن المقدسة ليتم دفنهم هناك.
وبقيت معرفتي محدودة بهذا الشعب العريق على الرغم من إن اثنين من اخوالي كانا متزوجين من زوجتين إيرانيتن. ويحمل احدهم، طيب الذكر المرحوم الحاج مصطفى محسن الصفار، الجنسية الإيرانية منذ العشرينيات من القرن الماضي، حيث غادر العراق للعمل في مرفأ بيروت وصادف أن زار إيران للسياحة ووقع في غرام فتاة ايرانية وتزوج منها في طهران وتجنس بالجنسية الإيرانية بعد أن خيرته حكومة رضا شاه بين البقاء وحمل الجنسية الإيرانية أو مغادرة إيران. وإستقر الخال في إيران حتى وافته المنية في عقد التسعينيات من القرن العشرين. كان الخال يتردد على بغداد بين فترة واخرى في مواسم الحج وينظم رحلات الحجاج والزوار الإيرانيين الى العتبات المقدسة في العراق بما كان يعرف آنذاك "بالحمله دار".
إن قلة معلوماتنا عن الشعب الجار يعود الى ان مناهجنا الدراسية التي كانت تعج بنقل الجوانب السلبية في العلاقات التاريخية الغابرة معه فقط، بل وتبالغ فيها احياناً وتشوهها في احيان اخرى لدوافع قومية او طائفية ضيقة. وتفتقر هذه المناهج الى الموضوعية في الحديث عن تاريخ هذا البلد وثقافته وحضارته وتأثيرها على حضارتنا وثقافتنا في العهود الغابرة مما يزرع بذور السلبية لدى التلامذة والطلاب تجاه هذا الشعب الجار الى حد انكار الصفة الفارسية على العدد الكبير من العلماء ورجال التنوير والثقافة والذين برزوا في عصور مختلفة من عهود الدول الاسلامية. فالمناهج عموما وضعت من قبل المتأثرين بجانب واحد من الثقافة التركية أي العداء للفرس، وجلهم من التربويين العرب الذي قدموا مع الملك فيصل الاول بعد ان طردته السلطات الاستعمارية الفرنسية من سوريا. وبالتالي تصبح هذه المناهج إمتداداً للنزاعات التاريخية بين العثمانيين والفرس من اجل السيطرة على المنطقة. وبلغ الامر حداً لم يتردد عنده بعض المتنفذين من غير العراقيين في وزارة المعارف العراقية، ساطع الحصري على سبيل المثال، في الثلاثينيات من التهجم على شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري. فقد ألصق الحصري بالجواهري كالعادة تهمة "الشعوبية" لسبب بسيط هو تغزله بمصايف ايران وحسناواتها.
تشير الوقائع التاريخية إلى أن الحضارة الفارسية كانت أحد الروافد الاساسية للحضارات الاسلامية المتلاحقة. فالحضارة الفارسية أغنت العالم أجمع بالفلسفة والأدب والفن والعلوم والمعرفة. والحضارات ما هي الا نتاج امتزاج لابداعات شعوب مختلفة. إن الفرس بدورهم وإستناداً الى الوثائق التاريخية الفارسية انتهلوا الشعر من العرب. فقد ارسل الامبراطور الفارسي "يزدكرد" إبنه "بهرام كور" إلى مدينة الحيرة لتلقي فنون الشعر والتتلمذ على يد الشعراء العرب، وليكون اول من أنشد الشعر بين الفرس حسب الروايات الإيرانية. وهكذا اخذ الفرس بناصية الشعر وتألقوا ليخرج منهم عمالقة من أمثال حافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي وعمر الخيام ومولوي والفردوسي في العصور الوسطى، ثم امير الشعراء بهار ونيما يوشيج ابوالشعر الحرالايراني وسياوش كسرائي وأحمد شاملو وآخرون في العصر الحديث. إن عدداً من الشعراء الإيرانيين كتب الشعر بلغة الأدب والشعر آنذاك، أي اللغة العربية. فالشاعر النابغة سعدي الشيرازي أبدع في وصف دجلة وبغداد عند إستباحة المغول لها في قصيدة عصماء طويلة أنشدها باللغة العربية. ولعب الموسيقار والمغني ابو الحسن زرياب الفارسي دوراً كبيراً في تطوير الموسيقى العربية في القرنين الثاني والثالث الهجري عندما استقر في بغداد ام الدنيا وعاصمة الخلافة العباسية آنذاك، ثم انتقل الى تونس ثم الى قرطبة حيث انشأ آنذاك اهم معهد موسيقي هناك في العالم المتمدن.
لقد طرأ قدر من التغيير في تصورات جيلنا في بداية الخمسينيات ليقربه من معرفة جارتنا إيران وشعبها عندما أقدم الزعيم الوطني الإيراني الدكتور محمد مصدق رئيس وزراء ايران في بداية الخمسينيات على تأميم النفط الإيراني مما أدى إلى إحتدام الصراع بين الشعب الأيراني والإحتكارات النفطية البريطانية. وتركت هذه المواجهة تعاطفاً لدى العراقيين مع الشعب الايراني وأضافت أثراً إيجابياً على تطور الحركة الوطنية في العراق على وجه الخصوص. وبدأت بعض الصحف العراقية الديمقراطية بنشر تقاريرها السياسية والثقافية عن أيران. فصحيفة "الاهالي" العلنية الناطقة بلسان الحزب الوطني الديمقراطي في بداية الخمسينيات كانت تنشر مقالات ممتعة للكاتب العراقي فخري عبد الكريم، وهو إسم مستعار لكاتب من أهالي كربلاء، حول السياسة والفن والثقافة الايرانية. ونشرت جريدة الجهاد في 23 تموز عام 1952 قصيدة تضامن لشاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري كان يأمل أن يتممها وذلك بمناسبة إنتفاضة الشعب الإيراني وإنتصاره بعودة مصدق إلى الحكم ومطلعها :

               سالت لتملي ما تشاء دماؤهـــــــا           وهوت لترفع شأنها شهداؤها
               وإنصاع مخضوباً يركز نفســـــــه          ما بين ألوية الشعوب لواؤهـا
               ضاءت وبالمهجات تفرش أرضها           بالمكرمات النيرات سماؤهـــا

وبحكم العلاقة التقليدية التي ربطت الحزب الشيوعي العراقي بحزب توده ايران والتي تطورت خاصة بعد إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي في 14 شباط عام 1949 وما تلقاه من دعم من حزب توده ايران، نقلت الصحافة السرية الشيوعية العراقية معلومات ضافية عن المعركة التي يخوضها الشعب الايراني من أجل تأميم الشركات النفطية البريطانية علاوة على نشاطات حزب توده ايران الذي تصاعد نفوذه في تلك الفترة ومارس النشاط العلني منذ عام 1941. وتقودني الذاكرة إلى يوم هروب شاه إيران وأعوانه إلى العراق، إثر فشل إنقلابه الأول بقيادة الجنرال زاهدي، وبتخطيط وتمويل من المخابرات المركزية للولايات المتحدة، ضد مصدق في 16 آب عام 1953 بعد أن فضح أسرار الإنقلاب أحد أعضاء تنظيم الضباط التابع لحزب توده النقيب فياضي الضابط في الحرس الشاهنشاهي الإيراني. ففي أثناء مرور موكب الشاه في شارع الرشيد وعند محلة سيد سلطان علي قادماً من مطار بغداد ومتوجهاً إلى القصر الأبيض، نظم الحزب الشيوعي العراقي فعالية ضد الشاه الهارب حيث رشق المشاركون فيها موكب الشاه محمد رضا بهلوي بالطماطم والبيض الفاسد. وبمحض الصدفة كنت في هذا المكان القريب من بيتنا الواقع في صبابيغ الآل، ولم أتردد آنذاك بالمساهمة مع الآخرين برشق الموكب بحبة طماطم تعبيراً عن التضامن مع الشعب الإيراني وإستنكاراً لموقف الشاه من الدكتور محمد مصدق ثم لذنا بالفرار. في عام 1958 طلعت علينا جريدة إتحاد الشعب السرية الناطقة بلسان الحزب الشيوعي العراقي بخبر مثير على الصفحة الأولى عن إعدام الشخصية العسكرية الإسطورية ومسؤول التنظيم العسكري لحزب توده إيران وأحد قادته خسرو روزبه مع نبذة من دفاعه الجريئ في المحكمة العسكرية



ثكنة جمشيدية في طهران ربيع عام 1958
خسرو روزبه قبل تنفيذ حكم الاعدام وامام خشبة الاعدام

الإيرانية وصورة له وهو مشدود على عمود الإعدام. أثار الخبر لدى الكثير من العراقيين حالة من الإنشداد والإعجاب بهذه الشخصية الفريدة في تاريخ الثوريين من الضباط. ولربما ترك ذلك أثراً ايجابياً كبيراً على الضباط ذوي الميول اليسارية في الجيش العراقي أيضاً.
ومع كل هذه التطورات بقيت معلوماتنا محدودة عن الاوضاع الاجتماعية والثقافية في ايران، بل وحتى عن دول مجاورة غير عربية مثل تركية، قياساً بما كنا نعرفه عن دول بعيدة عن بلادنا كالدول الاوربية والولايات المتحدة او الإتحاد السوفييتي و بلدان اوربا الشرقية. ولعب الصدام السياسي بين النظام الشاهنشاهي الايراني وبين الانظمة العربية دوراً في تعميق هذه الفجوة، وأدت حتى الى القطيعة احياناً بين الشعب العراقي وشعوب البلدان العربية الأخرى وبين الشعب الايراني. وقد تعمقت القطيعة إثر ثورة تموز عام 1958 وإنهيار النظام الملكي وخروج العراق من حلف بغداد الذي كان يضم كل من العراق وايران وتركيا والباكستان وبريطانيا وبرعاية الولايات المتحدة كإمتداد لحلف الناتو لمواجهة ما سمي آنذاك بالتهديد السوفييتي. واتخذت ايران سياسة عدائية للنظام الجديد بحيث انقطعت قوافل الزوار الى العتبات المقدسة وكل صلة بين البلدين لتصل الى حد الاستنفار العسكري والتراشق بالسلاح على الحدود بين البلدين طوال فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم .

يتبع