| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

علي عرمش شوكت

 

 

 

                                                                              الأثنين 29/8/ 2011

 

رواية

ابجدية حب في مدرسة العصافير
(8-9)

علي عرمش شوكت

توجهوا جميعاً الى دكان الحي الوحيد،  وتناولوا بعض المشروبات الغازية المثلجة، وكانت تلك مبادرة من اصالة كرم زميلهم. ولكن كليلة وبفضولها وحبها للاطلاع على ادق مفاصل الحياة في هذا الحي العمالي الفقير، راحت تسأل زميلها حسين عن سبب زحمة الزبائن على ذلك الدكان.

اجابها:

-        لكونه ... الدكان الوحيد في الحي.                                        

-        ولماذا اغلقت الدكاكين الاخرى ..!؟

-        لا لم تغلق وانما لا يوجد غيره .

اكتفت كليلة بهذا الجواب، اذ خلصت الى ان امر الدكان شبيهاً بحنفية الماء الوحيدة ايضاً في "كمب الدبات"، واثناء تلك الوقفة، تناهىت الى مسامعهم جلبة اطفال يهرولون خلف شخص معتوه، وعندما اقترب وهو يردد " اهزوجته " المفضلة كما يبدو والتي يقول فيها ( عية و حالوبة يا الكاظم .. واكطع تاليهم يالكاظم ) وكان يقصد بـ (العية )عاصفة عجاج، و الحالوبة بـ ( مطر من كرات ثلجية )، ويطلب من الامام الكاظم ان يميت الاطفال الذين يتبعونه و يؤذونه دائماً عن اخرهم. حينها لم تفهم كليلة ذلك المشهد، بل ودب الخوف في نفسها وراحت تحاول الاحتماء خلف بلاسم الذي طمأنها بقوله:

-        ان هذا المعتوه صديقي ... !! .

قالها مازحاً وبادر واعطاه " عانة " اي اربعة فلسان، شكره ذلك المعتوه قائلاً :

-        الله يخليلك هذه الحلوة... مشيراً  نحو كليلة.

ذهب عاضأ بين اسنانه، اذيال ما كان يرتديه من اسمال،  وسحباً خلفه بقية الاطفال ما عدا طفلاً واحداً ظل في المكان.

  تألقت كليلة في هذه الزيارة، متميزة بحسن طلعتها واناقتها، فكانت مبعثاً  للفت الانظار. وانجذاباً لمشهد المجموعة من شباب كمب الدبات وضيفتهم الارستقراطية الجميلة، ودون ان يلحظه احد ما عداها، تسمر طفل امامها، كان بحدود العاشرة من العمر، وهو احد بقايا مجموعة المعتوه، بدا صاغراً نحوها، وينظر اليها بانبهار. فهي الوحيدة التي انتبهت اليه، حسبته يريد منها ان تعطيه شيئاً مما كانت تتناوله من المرطبات، الامر الذي جعلها تبادر وتقدم له قارورة الشراب وما تبقى فيها، الا ان الطفل ابى ان يأخذها.

 فتدخل زيدان بالقول:

-        لا ياكليلة هذا الطفل لا يأخذ منك القارورة حتى وان كانت مليئة.. فكيف وانها لا تحتوي سوى بقايا. وانه يعتبرك ضيفة على حيه، ولا يجوز ان يأخذ ما يقدم للضيف. وهذه تربية سائدة بين اطفال هذا المجتمع.

 وكان يقصد مجتمع " كمب الدبات " ذي التقاليد الاصيلة.

    اعترى كليلة شيء من الخجل وشعرت انها قد قصّرت بحق ذلك الطفل. وتعقيباً على كلام زيدان خرجت من بلاسم مزحة لتلطيف الجو، الا انها قد زادت الطين بلة، اذ ضايقت كليلة الى حد ما.

-        ياكليلة هذا الطفل كان ينظر اليك كمعجب فهل تقبلينه صديقاً... ؟

اكتفت كليلة بالنظر الى الطفل باحترام وبابتسامة دافئة وتورد خداها، وكان ذلك مؤشر واضح، ينم عن عدم رضاها.  حتى وان كان ذلك السؤال من قبيل المزحة، وما زاده ثقلاً انه صادر عن بلاسم. حيث اثار استغرابها وتساءلت في قرارة نفسها :

- كيف يسمح قلب بلاسم ان اقبل صديقاً معجباً اخر غيره ..!؟، حتى وان كان طفلاً. يظل ذلك امراً مؤجل العتب فيه الى ظروف اخرى.

       انعطفت كليلة على ذاتها لتخفف عن ضيقها بالعودة الى اعتبار ما بدا من الحبيب الشافي عبارة عن مزحة ولكنها تبقى مزحة ثقيلة في حساباتها. لم تنسها وفي اول فرصة انفراد مع بلاسم عاتبته بصوت خافت متحشرج وكأنه يخرج من شخص تعرض لحالة اختناق، على تلك المزحة الثقيلة.

-  كان وقع  سؤالك لي حول ذلك الطفل كالصاعقة واثار استغرابي فلم استوعبه.

- لا يا كليلة انه فعلاً جاء من باب المزاح ... واني اعتذر وارجو ان تعتبريه زلة لسان لا اكثر ولن يتكرر.

حصلت لدى كليلة قناعة وغدت واثقة من كلام بلاسم. وهي بطبعها تصدق ما يقوله لها بقناعة صافية مجردة غالقة لنوافذ الظنون.                           

  وعند ذلك المنعطف انتهى مشوار مرافقته اياها، فصار على بلاسم ان يودعها ... واوصى زملاءه بايصالها الى بيتها.

 بدا عليها التجهم والحزن واغرورقت عيناها بالدموع، ربما بسبب اثار تلك المزحة او لعدم تواصل بلاسم معها حتى ايصالها الى بيتها، وكانت في تقديرات كليلة بان ذلك كان وداعاً قد جفت فيه المودة وغيرمتوقع . ويبدو ان بلاسم اراد، في الغالب، القيام بمحاولة لاثبات كونه ما زال تحت تأثير الوعكة الصحية. الا ان كليلة لم تعفه من عدم تواصله معها، طالما خرج من بيته ورافقها وكانت تبدوعليه العافية، وهنا بدأ يتغير المشهد معها، فبعد ان ارتوت من كأس قرب الحبيب طيلة تلك الزيارة، صارت تشعر وكأنها قد فطمت عنوة من صدر عالم هيامها، فلم تتمالك نفسها فبكت بخلسة من زملائها وكذلك من اخيها الذي كان يرافقها. والذي حمل معه هدية شقيقة بلاسم، وهي عبارة عن صندوق من الكارتون وفي داخله كتكوت دجاج صغير، كان مبعثاً لسعادته.

    وصلت الى بيتها وودعت زملاءها وكان يبدو عليها عدم الرضا، ولكن في تلك الساعة اكتملت  لديها قناعة  لاجدال فيها، ان ذلك البيت الطيني الفقير اجمل الف مرة من قصرها الفخم !!. واعتبرت زيارتها الى" كمب الدبات " ، وبالرغم من نهايتها غير المرضية لها، اعتبرتها وكأنها رحلة في جو  الريف الطيب، الامر الذي شجع كليلة لزيارة ذلك الحي مرات اخرى لاي سبب كان.

      وفي غضون تلك الحرارة العاطفية وانشدادها الى حي الحبيب، سمعت كليلة بان ثمة شبه مسرحية تطوف شوارع الحي وتسمى " سبايا عاشوراء " تقام سنوياً في شهر محرم من التقويم الهجري، فعملت المستحيل لاقناع اهلها في سبيل ان تشاهدها. وفي اندفاع وباصرار منقطع النظير لمشاهدة " السبايا "، وبالحقيقة لزيارة ديار الحبيب، تمكنت من الاتفاق مع عدد من زميلاتها من بنات المنطقة وفي مقدمتهن فوزية، وبالتنسيق مع بلاسم واختيه، الذين علّموها كيف تتصرف، ماذا ترتدي من ملابس سوداء وعباءة، تماشياً مع الشعائر الحسينية المحترمة في ذلك الحي.

     وفي يومها جاءت كليلة مرتدية تنورة سوداء وقميص رمادي داكن اللون، واستعارت عباءة سوداء من اخوات بلاسم، وبهذه الملابس تجلى وجهها وكأنه قنديل يشع ضياءاً وردياً وسط ما يحيط به من سواد العباءة . ومع ذلك كانت قلقة لظنها بعدم تناسب ملابسها مع طقوس المناسبة، فطمأنوها بان ذلك يكفي .

       كانت تلك " السبايا " تقوم في يومها العاشر الاخير نهاراً.وعندما شاهدت كليلة مأساة الشهيد الحسين (ع)، وسمعت قراءة المقتل بصوت شجي من قبل السيد " محسن الرفاعي "،  وهي في وسط جمع من فتيات ونساء الحي، وكانت تشع جاذبية وجمالاً كأنها زمردة وردية يجذب وهجها النظر عن بعد، لم تتمالك نفسها فبكيت هذه الفتاة غير المسلمة  قبل  البنات المسلمات اللواتي كن برفقتها. متعاطفة مع تلك المظالم، لقد زادتها لحظات البكاء جمالاً وتألقاً، وكانت لحظة البكاء تلك كفيلة بفضح سر الجمال.

  فالجميلة تبقى جميلة اذا ما بكيت، او ضحكت، او نامت، او حتى غضبت. ولكن يا ويلها  لو  تصرفت بخشونة. حينها ستفقد انوثتها التي تعادل معظم جمالها مهما كانت تمتلك من كنوز الجمال. وكما يقول المثل الياباني: "ان حياء المرأة اشد جاذبية من جمالها ".

      كان بلاسم ينظر اليها عن بعد، ويبدو عليه السرور، ويقول في سره وهو مبتسم - انني قد نجحت في زرع روح التضامن مع المظلومين في ضمير هذه الفتاة الصغيرة المنحدرة من عائلة متنعمة.

      ولم تكف كليلة عن تعاطفها مع تلك المأساة، وانما راحت تسأل عن تفاصيل هذه القصة المحزنة. ولاول مرة سمعت تفسيراً لكلمة كربلاء من بلاسم. وبعد ساعات من الطواف في ازقة " كمب الدبات " تواصلاً مع هذه الدراما التراجيدية، التي كان السيد محسن يطلق فيها للمشاركين في الموكب الحسيني  ( ردات ) تشير الى عدم  دوام الظلم والظالمين وهي عبارة عن شعارات سياسية مبطنة. يتجسد فيها تأثير رجالات هذا الحي المناضلين  وبعد هذه الجولة والانسجام مع هذا المشهد المحزن، اوصل بلاسم كليلة مع صديقاتها الى بيوتهن. 

عادت من مشاهدة السبايا وهي ترى نفسها قد اكتشفت مجتمعاً لاناس يختلفون عن مجتمعها، هم فقراء ومظلومون ولكنهم رحماء عطوفين،  وذوو اخلاق عالية، وكرماء بلا حدود . كما يتمتع ابناؤهم وبناتهم بالشهامة المتميزة.                                               

وصل بهما المطاف الدراسي الى نهاية الصف السادس، ويعني ذلك نهاية السنة الاخيرة في مرحلتهم الدراسية . ما يعني ان حبهما الابتدائي اذا جاز هذا الوصف، ستطرأ عليه عوامل قاهرة بسبب افتراقهما الى مدرستين متوسطتين، حيث لا يوجد في المرحلة المتوسطة اي اختلاط بين ذكور واناث، وسيفُرض عليهما فراق اجباري، وما يتبعه من انشغال البال وعدم الراحة طيلة وقت الدوام. ولكن من المؤكد ستتسع فيه مساحة الشوق لبعضهما الآخر، مما يخلق اجواءاً مقلقة ربما ستؤثر على همتهما الدراسية . وما ان بدأت العطلة المدرسية الصيفية وحصلا على النتائج بنجاح متفوق. عزم والد كليلة على استغلال العطلة المدرسية بالسفر الى سهل نينوى الموطن الاصلي لهذه العائلة، وتلك المنطقة من البلاد تسمى بأم الربيعين،حيث الاجواء الجميلة

وذات الحرارة الاقل وطاءة  من مناخ الوسط والجنوب فضلاً عن اللقاء بالاهل والاقارب، ولم يكن السفر مقصوراً على عائلة كليلة الى تلك المنطقة من البلاد، وانما العديد من العوائل وحتى العرسان لقضاء شهر العسل هناك نظراً للهدوء والجمال الخلاب الذي تتمتع به تلك السهول الخضراء.

اخبر والد كليلة عائلته بعزمه على السفر وحدده بوقت قريب جداً لكي لاتتبدد بعض ايام اجازته السنوية من العمل والتي يوقتها عادة مع العطلة الصيفية المدرسية لكي يتسنى له اصطحاب كافة افراد الاسرة معه، كان البلاغ بالسفر عادة ما يسعد كليلة ايما سعادة ، الا هذه المرة التي تحول فيها الى خبر مقرف ومزعج للغاية، مما جعلها تتمنى لو اصيبت باي مكروه لكي يعيق سفرها الذي سيبعدها عن الشافي الحبيب الذي امسى من المستحيل ابتعادها عنه حتى ليوم واحد، حيث غدت رؤياه لديها كأنها اكسير الحياة، او كما وصفته ذات مرة في حوار القلوب كما تسميه والذي غالباً ما يدور بينهما:                                     

 – كيف توصفينني ؟

 قالت له:

- انك مثل الهواء الذي استنشقه ومن دونك ساختنق وافارق الحياة.

وانهت وصفها له وقد اختنقت فعلاً بعبَرة بكاء مكتومة في صدرها وممزوجة بابتسامة خجلى جسدت عظيم الهيام والتعلق به. وفي حينها بادلها المشاعر الصادقة وكان قد وصفها:

- انك قلبي الذي يمشي على الارض. وعند افتراقي عنك اصبح بلا قلب.

- هذا جميل منك ان تودع قلبك لدي لكي اطمئن الا يحب غيري في غيابي.

- ولكن كيف سيكون مصيرك في غيابي انا ... هل ستعيشين من دون هواء ؟!!.

-  اذاما قررت الغياب عني ... ستكون جانياً عليّ بالموت.

- وكيف تموتين وقلبي بين يديك ؟

- سأموت كياناً ولكن قلبي سوف لن يفارق قلبك حتى ان يرجعه اليك.

- لكنني في حينها ساغضب على قلبينا واتنكر لهما والحق بك في عالم الرحيل الابدي.

- اذاً ينبغي ان نتعهد الا نفترق مهما احاطتنا من ظروف وصعاب.

- نعم سأبصم بابهام قلبي على هذا التعهد.

- وانا ايضاً سأبصم بأبهام قلبي وبؤبؤ عيني.

ان ذلك الظرف الملتبس قد امطرها بزوبعة نفسية خانقة، راحت تقلب في  ثنايا عقلها الذي تحول الى شبه مرجل يغلي، عن وسيلة لتخبره وتقنعه في آن معاً لكي يتجرع مرارة تلك السفرة التي هي ذاتها اصلاً غير قادرة على استيعابها، وبخاصة بعد حوار القلوب وعهد الوفاء الذي سبق وان قطعاه على نفسيهما، فراحت تكثف اللقاءات، وفي احداها والتي كانت تنطوي على اكثر من لغم جميل ودسيسة لذيذة، طلبت كليلة من بلاسم الدخول الى حديقة مسكنها الخلفية، وباصرار يختلف عن دعواتها السابقة بحجة اطلاعه على ( مدرسة للعصافير ) هكذا كانت تسمي شجرة توت تأتيها العصافير من الصباح الباكر وتغادرها مساءً، بعد ان تلتهم من ثمارها ما يشبعها.    

وبعد الحاحها الذي كان يطغي عليه طابع الرجاء وبصوتها الميال الى الغنج، وبحلاوة لسانها وسحر عينيها الباسمتين حقيقة وليس تصنعاً، تمكنت من تليين موقفه الرافض لدخول دارها، فطاوعها لاول مرة  بالذهاب للتفرج على مدرسة العصافير تلك، التي غالباً ما تكلمت عنها.

يتبع


ابجدية حب في مدرسة العصافير (7-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (6-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (5-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (4-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (3-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (2-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (1-9)
 


 

free web counter