| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

علي عرمش شوكت

 

 

 

                                                                              الأربعاء 13/7/ 2011

 

رواية

ابجدية حب في مدرسة العصافير
(1-9)

علي عرمش شوكت

وجد نفسه محملاً بالهموم على اثر التحول الذي طرأ على حياته، معتبراً فقدان والده في حومة مرض عضال انهكت العائلة اقتصادياً، يساوي ضياع معظم دنياه، وفي غمار ذلك راح يبحث عما يعوضه عن الفراغ العاطفي، الذي احتل صدارة اهتماماته. لم يجد مخرجاً من حصار اليُتم وتداعياته المعنوية والمادية، وكان صغيراً لم يبرح اشراقة عامه الرابع عشرة. صار شديد النزوع الى عبورعتبة الطفولة ببلوغ مبكر.

مدرسة الشالجية الابتدائية في بغداد كانت الوحيدة المختلطة بين ذكور واناث في ذلك الزمان- اواسط الخمسينيات – وكان القبول في المدارس بعد بلوغ الطفل السنة السابعة من العمر.

الصف السادس الابتدائي الذي بلغه كان يحسبه فردوساً، يقضي الدوام اليومي فيه وكأنه في عالم آخر. ففي لجة  مشاعره شبت ونضجت عواطفه، واصبح يحسب ساعات الدراسة سلوته الوحيدة، وفي دواعي شعور زاه  نشبت نبضات قلبه بأشتباك ودود مع مثيلاتها المنبعثة من قلب زميلته الجميلة التي كانت تشاركه مصطبة الدراسة. كان يحسب ذلك ابهى تجليات الرجولة المبكرة لديه والتي كرس جل جهده لنشوئها.

هل تلك العلاقة مع فتاته كانت تجليات حب ؟، ام استلطاف ؟، ام مجرد لهو مراهقة ؟، ام ماذا ... ؟؟ .

في مطلق الاحوال كان تعلقاً وجدانياً، تتناغم عوامله فتطرز سلوة قلبيهما بألوان طيف زاهية. كانت كفيلة بنمو بذرة حب قد نبتت في ارض بكر.

برز في مقدمة زملائه المتفوقين فضلاً عن شخصيته الرزنة المتميزة، مع كونه لم يزل يافعاً صغيراً، مما شكل سبباً دافعاً لتتعلق به. وكانت جميلة لاتضاهيها اخرى فأنعطف نحوها من دون الاخريات.

ومضى الزمن في طبعه السرمدي ... السير الى الامام دون توقف او رجوع وتبعاً له اقترب عمرهما من مغادرة الاربعة عشر ربيعاً، حيث واصل الاثنان معاً في الصف السادس الابتدائي.  لم تظهر في علاقتهما اية عقبات تذكر، رغم انهما من فئتين اجتماعيتين مختلفتين، حيث كان والدها مهندساً في  سكك الحديد في معامل الشالجية، وكان ابوه عاملاً فيها. هي تسكن في بيت فخم ضمن حي على الطراز الغربي، بناه البريطانيون الذين كانوا آنذاك مسؤولين عن ادارة مؤسسة السكك الحديدية، وهو يسكن في ( كمب المليتري ) Military Camp   التسمية الانكليزية –  ولكن العمال يطلقون عليه اسم ( كمب المنتري ) وهو عبارة عن بيوت من الطين يسكنها عمال معامل الشالجية، و المفضل تسميته  لدى العمال بـ ( كمب الدبّات ) نظراً لسكانه الذين ينتسب معظمهم الى عشيرة الدبّات ... التي هي فخذ من قبيلة بني طي، ويقع هذا الحي في محاذاة الجانب الغربي من معامل الشالجية، كما تحده من الغرب سكة قطار الموصل ومنطقة علي الصالح.

ولم يتوقف الامر عند هذه الفوارق الطبقية فحسب، انما هنالك فوارق اخرى ربما اكثر صعوبة ايضاً، تتمثل بعائلتها ذات الديانة غير المسلمة، وهو من عائلة مسلمة . فهل اكثر من هذه العوائق ..! ؟

ربما لحكيم قلوب قول: ان هذا هو الحب كالهواء لا يقف حائلاً دون تسربه اي عائق، ولا يتخلص منه اي فراغ في الحياة. فقلوب اليافعين من

الجنسين في مثل عمرهما...غالباً ما ترف رفيفاً يكاد يكون مسموعاً، وبلا تحفظ، لبعضها البعض. هكذا كان قلباهما يتعلمان ابجدية الحب ويخوضان غماره . مع ان الحب في طبعته الاولى ليس له قواعد ثابتة، الا انه يبدو وكأنه ثابتاً في اول محطة له. ومن ابرز معالمه: انه يهمل حساب الاحتمالات السلبية. حيث يبقى يحلق في عالم الاحلام الوردية .

غدا ترابطهما اوثق من جذور نخيل بساتين منطقة " العطيفية " التي تحيط باماكن سكناهما من كافة جوانبها. كان يدعوهما حافز الشوق الى لقاء يومي، عصراً، لانهما لا يكتفيا بوقت دوام المدرسة، الذي يعتبرانه  يمر مسرعاً وكأنه طريد يبحث عن ملاذ .

نبض ساخن تحت ظلال اشجار التوت وبين اغصان اللبلاب وشجيرات زهور القرنفل والجهنمي، التي تحيط بأسيجة تلك البيوت، التي تنطوي على  اجمل ما خلقته الطبيعة من جمال وما  صنعه الانسان من لوازم حياتية وثيرة... حيث تنشرح الصدور بعطر زهور الهندباء البري التي تملأ ارض باحة واسعة بين تلك " الفلل " الراقية ذات الحدائق الغناء، وبخاصة في فصل الربيع ...كان يتم ذلك اللقاء بينهما مبرَراً بالمطالعة والتحضير للدروس اليومية وبرضى عائلتها المتحررة جداً... ونظراً لقرب امتحانات البكلوريا للصف السادس الابتدائي . مع ان الامر لا يخلو من  المنغصات التي تصدر من بعض اقرانهما الذين يتواجدون بحكم سكنهم في ذلك الحي او مروراً  به .

وعلى بلاط  كونكريتي مستطيل لايبعد عن باب مسكنها سوى بضعة امتار، عرضه متران وطوله خمسة امتار ،يحتل احد اركانه  شبه هرم كونكريتي ذو قمة مسطحة، ولذلك يتحول احياناً الى مقعد، لا يتعدى ارتفاعه عن نصف متر، وهو عبارة عن حجر اساس لتلك البيوت. كان يحسبانه

بمثابة مركز الكون، طالما يلتقيان عنده، كما تتحول ارضية البلاط المحيطة به الى سبورة للكتابة، مدادها طباشير ملوّنة. وبين ارقام الرياضيات وقواعد اللغة العربية وغيرها لاتخلو اللوحة من رسوم معبرة بلغة خاصة يفهمانها وحدهما فقط. لايبتعد إعرابها عن ضمائر جياشة تجاه بعضهما البعض، ربما شبح قبلة، او خيال قلب مصاب بسهم خارق، او طيف عيون باسمة كعينيها .كان يرسمها دوماً ويكتب حولها ارق العبارات التي تضعها بمصاف النجوم في سماء الجمال، ولكن سرعان ما تمحى تلك الرسوم، خشية من ان يراها بعض المارة او يرصدها احد الخبثاء الذين غالباً ما يمرون بمحاذاتهم، قصداً او بغير قصد.

لم يسبق ان تم التلامس بينهما حتى بالصدفة او بالمصافحة، الى حين ان حصل  تشابك انامل اياديهما على الارض، عندما امتدت يده ليصحح مسألة رياضية، كانت اخطأت في حلها وهي تكتبها على ذلك البلاط .

تلامس ... كأنه تماس تيار كهربائي سرى في بدنيهما، مما جعلهما هائمين   برهة في غياهب رومانسية لا قرار لها. كما راحت عيونهما تتبادل تساؤلاً حائراً في متاهة لم يهتديا الى منافذها، يلفهما صخب لحظات ساخنة تتجاذب في لجتها مشاعر جامحة، وترسم لوحة جدل مع هيمنة سكون ظاهري. حينها غدا فرط غليان عواطفهما في اوّجه، وكاد قلباهما ينطا الى الفضاء محلقين في رحاب زوبعة الهيام التي لم تدم سوى لحظات، مع انها انطوت على اجمل ما في الدنيا من طيف عابر بهيج

شبح مجهول يفرض ارادته عليهما في التحول من مذاكرة درس الرياضيات الحسابية الى درس لم يكن يُطرق في الماضي، او كأنه لم يحن موعده بعد ... اعلن احدهما للاخر بانه " يحبه ". تكلمت عيونهما اولاً واعقبها النطق مدوياً من كليهما بكلمة " احبك " في آن معاً. كانت تلك الكلمة كالثمرة التي اكتملت النضوج ولم تمتلك القدرة على البقاء معلقة. جاءت  متماهية مع ابتسامتها الساحرة تصحبها نظرة يعتريها شيء من الحياء العذري. اما هو فوجد نفسه في مشهد مأخوذاً بموجة عاتية من السرور والدهشة، جعلته يبحث حوله ليتأكد من وجوده منفرداً معها دون اخرين    غيره، وان كلمة احبك التي تراقصت فوق شفتيها الشبيهتين بزهرة الجنبد الوردي اللون ...  كانت له وحده .

و في ذلك الحين الجميل بدأت نقطة تحول في علاقتهما ، ربما لعامل الزمن اثره المباشر ايضاً. حيث اقتربا معاً في تلك الفترة من عتبة العام الخامس عشر من العمر، وعادة ما تكون مثل هذه السن اكثر قدحاً لشرارات العواطف الملتهبة، وان جموح قلوب الفتية في هذه المرحلة العمرية هو سمة تتميز بالنزوع الى الانطلاق العاطفي. وكان هذا التحول سليل عصف تلك العواطف الشاهقة.

فتهدمت اسوار وازيحت حواجز وباتت السبل سالكة لاحاديث بأيقاعات سمفونية ساكنة، وكأنها تُعزف في ساعة السَحر، وغدا الكلام يدور عن ادق الامور، فهو كان يحاول في بعض الاحيان جرجرتها الى كلام عن السياسة واحداثها الملتهة آنذاك، التي دخل معتركها تواً. الا انها كانت لا تفقه شيئاً في السياسة، وهي صغيرة عليها، و حين التداول فيها تشعر انها مرغمة على الابتعاد عن حوار القلوب المثلج للصدور الملتهبة عشقاً وهياماً. ولهذا كانت تلوذ عنها بالتطرق لمواضيع عن الغناء والموسيقى ... فهي تحب اغاني فريد الاطرش و عفيفة اسكندر، و رضا علي ، وعبد الحليم حافظ، وهذا الاخير كان حديث العهد آنذاك، سمع باسمه لاول مرة منها، ومجاراة لها ابدا برغبته  ليعرف المزيد عن ذلك المطرب  الجديد.                                                                  

وفي اليوم التالي جلبت له مجلة الشبكة المصرية التي ملأت صفحاتها عن اخبار العندليب الاسمر. لكن اهتمامها هذا لم يرحه، مما حرك لديه نوازع الغيرة، فراح كعادته يقدم لها النصح بعدم الانشغال كثيراً بهذا المطرب. ولكنها اقدر من ان تفوتها علامات التجهم وعدم السرور التي ظهرت باديةعلى محياه اذ عالجت الامر بقولها:                                       

- احب اغاني هذا المطرب لانها تجعلني عند سماعها اشعر وكأنك انت الذي تقول كلماتها الجميلة لي .  

وهنا انفرجت اسارير وجهه، وعاد الى جوه الممتع. وكانت لا تمل  الحديث   عن  التلفزيون الذي وصل حديثاً الى العراق.  ولكنه كان  يعتبر هذا الجهاز وسيلة للدعاية الاستعمارية، حيث جاءت به معاهدة حلف بغداد الاستعمارية عام 1955، ولا يختلف بلاسم عن ان جهاز التلفزيون كان في حينه يعتبر انجازاً علمياً مهماً. .. مع كل ذلك كان يشاركها موضوع الحديث عن الاغاني، وعن مشاعره عندما يسمع تلك الاغاني العاطفية، وبالاخص روائع ام كلثوم واغاني الريف، مع انه يعرف ان حبيبته لا تستمتع بهذه الاغاني الريفية ... وفي ذات الوقت يحاول ان يجبر خاطره، فيعزو ذلك الاختلاف في الذوق الفني بينهما الى تجليات النشأة والفوارق الطبقية،  فراح يحدثها عن اغاني فريد الاطرش وعن فلمه،( لحن الخلود ) مع فاتن حمامة، الذي شاهده بمناسبة العيد، هذه المناسبة الوحيدة التي تسمح له ظروفه المادية بدخول السينما مع اقرانه قائلاً:

- كدت اخرج من صالة سينما الحمراء في شارع الرشيد واتوجه الى هنا عندما استمعت الى اغاني فريد الاطرش وهو يغني في فلمه " لحن الخلود " كنت جسماً في الصالة ولكن عقلي قد غادرها محلقاً عبر تلك المسافة الى هنا، وتخيلتك بجانبي في اول وهلة ولما صحوت من ذلك الخيال الجميل ولم اجدك، ضاقت بي صالة السينما وزهقت. ولكن آثرت البقاء تحسباً من زعل اصحابي الذين كانوا معي.                                                        

- انا ايضاً شاهدت مع عائلتي فلم "لحن الوفاء" لعبد الحليم حافظ مع شادية في سينما روكسي، وشاهدت فلماً اخر هو " ليالي الحب " لعبد الحليم حافظ مع آمال فريد في سينما الخيام .

كان كل ذلك يدور في الوقت الذي غابت عن بالهما تلك الفوارق الطبقية والاختلافات الدينية، التي لابد ان تشكل عقبات ليس من السهل تخطيها، الا انهما لا يعبآن بها لكونهما قد وقعا تحت سطوة سلطان الحب الذي عادة ما يترك ظلاله على الرؤى ولا يجعل لها اي مدى خارج حدوده   .وهنا تجلى الحب بابهى طباعه العسيرة ابداً على القيود والصدود، واخذ سلطته الكاملة، وفرض هويته فقط، والغى كافة الهويات الاخرى، سواء كانت طبقية ام قومية ام دينية  وغيرها . الامرالذي سرّع بحلول موسم نضوج حبهما، وغديا يتناغمان في كل شيء، حتى المزاح صار يأخذ نمط المداعبات الرومانسية الجميلة . 

يتبع


 

free web counter