| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

علي عرمش شوكت

 

 

 

                                                                              الأحد 17/7/ 2011

 

رواية

ابجدية حب في مدرسة العصافير
(2-9)

علي عرمش شوكت

كان اسمها ( كليلة ) مأخوذاً - حسب ما قالت هي- عن قصص. ( كليلة ودمنة ) كان يناديها كليلى او يا شبه ليلى، فيغمرها بسرور لا حدود له في هذه التسمية، اذ يذهب بها الخيال الى شعور.. بانها تشبه ليلى العامرية، حبيبة قيس ابن الملوّح، وما يتبع ذلك من عشق اسطوري بين حبيبين، مع انه لم يُكتب له النجاح بسبب الفوارق الطبقية ايضاً، ولم يأت ببالهما حينها بان حبهما سيتعرض الى نهاية قد لا تقل مأساتها عن ماساة عشق قيس وليلى.
كانت تناديه يا شافي القلوب ، لان اسمه ( بلاسم ) وهو مأخوذ من جمع بلسم، الذي يعني الدواء الشافي. وكعادتها تستدرك على الفور، وتقول : يا شافي قلب واحدة وليس قلوب الاخريات . يتلقى هذا الاستدراك بفرح غامر، ويكاد يفقد توازنه ويغيب لحظات ويحلق اخرى في الخيال. الا ان جاذبيتها اقوى من قوة تحليقه فتحطه وتشده الى جانبها
ورغم ذلك. يبقى بلاسم قوي الشكيمة ، وابي لاينقاد بيسر، ولا يدع للابتذال اية فرصة ليتلبس في شخصيته، بالرغم من كونه لم يزل شاباً يافعاً، وليس له تجارب حياتية طويلة ينهل منها، فكان يكتفي بوقت محدد في لقائهما، رغم تمسكها باطالة فترة بقائه الى جانبها، ولا يأتي في الايام الممطرة اوالشديدة البرودة، كما يغيب في الايام التي تضطره ظروفه الاقتصادية ويذهب فيها الى العمل، رغم احتجاجها على ذلك الغياب الذي تجهل حقيقته. ويمتنع عن تلبية دعواتها المتكررة للدخول الى بيتها، مع ان عائلتها ترحب به، وله علاقات حسنة مع والدها الذي هو الاخر معجب باخلاق بلاسم، وقبل هذا وذاك كان معجباً بذكائه الذي كان يشكل سبباً مهماً في مساعدة ابنته في الدراسة .
كان بلاسم يحاول ان يترك تأثير شخصيته المحافظة الى حد ما على شخصية كليلة. كان يبذل قصارى جهده في ذلك، لكونها كانت تتميز بطباع منفتحة وحضارية جداً، فغالباً ما تحاول اظهار مهاراتها امامه، مثلاً، تقلد المطربات، وبخاصة بعد ان اقتنت عائلتها تلفزيوناً. وربما كانت هذه العائلة من اوائل العائلات الغنية التي تشتري جهاز تلفزيون، الذي وصل الى العراق قبل غيره من الدول العربية وذلك في عام 1955، حيث جُلبت محطة التلفزيون الى البلد لخدمة معاهدة استعمارية الا وهي معاهدة (حلف بغداد) ، ووضعت المحطة في الوهلة الاولى في معرض بغداد الدولي، ومن ثم اعطيت الى الحكومة العراقية.
وفي ذات مرة غنت كليلة مع محاولة تقليد المطربة عفيفة اسكندر، اثناء رحلة مدرسية قامت بها المدرسة الى بساتين العطيفية بالقرب من جسر الصرافية في جانب الكرخ. وعندما لاحظ بلاسم التفاف التلاميذ حولها قدم لها نصيحة في اليوم التالي بضرورة التحفظ في مثل هذه الاماكن والمناسبات العامة. كما كان قد اسمعها نصحاً عندما كانت تحاول ان تريه بانها تستطيع ركوب دراجة ابيها الهوائية ( البايسكل ) في الشارع العام امام منزلها. كل ذلك كان بلاسم يرى فيه ما يعرّضها الى لوك الالسن الوسخة. غير انه في قرارة نفسه يحب خفة دمها وبراءة سريرتها وبقايا المرح الطفولي لديها.
تعامل بلاسم بروية عندما عرف ان المدرسة لديها قرار بتنظيم رحلة مدرسية لاكثر من صف لزيارة " طاق كسرى " التاريخي في منطقة "سلمان باك " جنوب بغداد. اعتذر عن المشاركة من المعلمة الست ماري المسؤولة عن تلك الرحلة، بحجة انه منشغل مع ضيوف جاءوا من خارج بغداد. وعندما سمعت كليلة بموقفه الممتنع عن المشاركة تضايقت كثيراً، لكونها كانت متحمسة للسفرة، وكانت قد رسمت لها في مخيلتها ابهى صور اللقاء مع الحبيب. كما انها فرصة ممتعة للتسلية ولمشاهدة الاثار هناك، وظلت تجادل نفسها وتقلب دفاتر افكارها لعلها تعثر على عبارة مجدية تتمكن من خلالها اقناع بلاسم بتغيير موقفه العازف عن المشاركة في تلك السفرة. ومن دون ان تشعر سحبتها تلك المحاولات الى الوقوع في دائرة الظن، بأن هنالك سبباً يشكل حالة الامتناع لدى بلاسم، وليس ما يعلنه، ولكن سرعان ما تداركت والغت تلك الظنون، حينما اكتشفت انها متورطة في زعزعة ثقتها في هذا الحبيب الشافي، الاكثر حظوة بثقتها في حياتها. ولكن بصدفة حسنة وكأنما رسا على رصيفها قارب العبور الى شواطئ الحقيقة، اذ سمعت من الست " ماري المسؤولة عن السفرة " حديثاً مع " الست خديجة " معلمة التاريخ، مفاده بان اغلب ابناء العمال عاجزون عن دفع اجورالسفرة البالغة ثلاثة دراهم والتي كانت تساوي آنذاك اجرة العامل اليومية. وبالمناسبة كان هنالك تمايز طبقي واضح، بين التلاميذ من ابناء العمال، وبين زملائهم من ابناء الموظفين والمهندسين، من حيث الملابس وغيرها، حيث كانت المدرسة تمنح الفقراء ما يسمى " بمعونة الشتاء" تنطوي على بعض الملابس والاحذية من النوع الرخيص، اما ابناء الموظفين فيشترونها من السوق بانواعها الفاخرة، مع انها زي موحد من حيث الشكل. وهنا يبرز التمايز الذي كان في حقيقة الامر مدعاة للتمحور والصراع احياناً بين فئتي التلاميذ، وكان يبدو وكأنه انعكاس غير مباشر لصراع طبقي بالانابة عن الاباء. كما يعكس حاله على موقف ادارة المدرسة وبعض المعلمات اللواتي يدافعن دائماً عن ابناء الاغنياء حتى وان كانوا على خطأ في تجاوزهم على ابناء العمال، وبخاصة عن ابناء الموظفين الكبار في مؤسسة السكك، لكون المعلمات كنّ يقبضن رواتبهن من هذه المؤسسة، ليس هذا فحسب وانما يجرى التعامل بمعايير مزدوجة فيما يتعلق بدرجات الامتحانات، حيث تعطى درجات عالية لابناء الاغنياء وهم لا يستحقونها، وتخفض درجات بعض ابناء العمال وهم من ابرز الاذكياء، واذا ما حصل تنافس بنشاط مدرسي معين بين تلميذ غني وتلميذ فقير يكون الفوز لا محالة للتلميذ الغني.
وفي ذات يوم اجرت المدرسة امتحاناً بدرس الرياضيات لاكثر من صف في قاعة واحدة، وكان برعاية مشرف جاء من مديرية التربية، وبعد ان قامت المعلمة بكتابة الاسئلة على السبورة ببضع دقائق نهض تلميذ فقير من ابناء العمال واسمه جبار معلناً الانتهاء من الاجابة على تلك الاسئلة، وبعده بدقائق ايضاً نهض تلميذ اخر واسمه علي من ابناء الفقراء ليسلم ورقة الاجابة على ذات الاسئلة، الامر الذي لفت انتباه المشرف الاستاذ عبد الكريم الواقف الى جانب مديرة المدرسة فسألها.عن هذين التلميذين.
- هل هما قادران حقاً على الاجابة الصحيحة بهذه السرعة ؟
- نعم هؤلاء من الاذكياء .
- اذاً لماذا لم يبرّزا ولم يشركا في المسابقات المدرسية .؟
واردف قائلاً وهو يطالع اجابات التلميذين:
- ان هذين التلميذين من الاذكياء جداً لماذا لم تلتفت المدرسة اليهما ؟ الامر الذي احرج المديرة المنحازة دائماً الى ابناء الاغنياء.
لم تنج الرحلة المدرسية من موقف الادارة غير المكترث بابناء الفقراء، اذ تم تحديد اجور السفرة دون مراعاة الاحوال الاقتصادية لابناء العمال. مما جعلهم يعلنون عدم مشاركتهم فيها بسبب عجزهم عن دفع اجورها، وكان من ضمنهم بلاسم.
وعلى اثر سماع كليلة بعجز التلاميذ من ابناء العمال عن دفع المبلغ المحدد، ايقنت حينها ان هذا السبب هو الذي يمنع بلاسم من المشاركة في الرحلة تلك، فقدحت في بالها فكرة راحت تتقدم بها كمقترح الى ادارة المدرسة، مفادها بان تطلب المدرسة من التلاميذ المتمكنين التبرع للسفرة، مما يتيح الفرصة لجمع مبلغ لدى الادارة يمكنها من اعفاء التلاميذ غير القادرين على دفع اجرة السفرة، والذين يمكن ان تختارهم المدرسة كمراقبين على التلاميذ اثناء تحركهم. وبادرت فعلاً بفتح حملة التبرع بـ 600 فلس اي مايعادل اجور لأربعة تلاميذ، الا انها اشترطت ان يكون من ضمن المعفيين، بلاسم. على ان لا يعلم بأنها هي التي تبرعت، لقد راقت الفكرة للمعلمة ماري المسؤولة عن ادارة السفرة، ولكن جلب انتباهها طلب كليلة ان يكون بلاسم اول المعفيين، فدار حديث بين المعلمة وبينها تميز بانهمار شديد لاسئلة محرجة تعادلت مع جلسة تحقيقية مع متهم بجناية.
- يا كليلة انت تبرعت بمبلغ يغطي اجرة اربعة تلاميذ ... لماذا اشترطت ان يكون بلاسم اولهم ... ولم تعط اسماء اخرين ..؟
- لان بلاسم زميلي ومعي في نفس الصف .
- هنالك الكثير من تلاميذ صفك .. لماذا هذا التلميذ بالتحديد
- لكون ادارة المدرسة تريد مراقبين قادرين على ضبط التلاميذ في السفرة وان بلاسم يجيد هذه الشغلة وهو مجرب في داخل الصف.
- الادارة لم تطلب ذلك ... انما هو مقترحك .
- نعم مقترحي .. فهل هو مفيد ام لا ؟
- صحيح مفيد جداً ... ولكنني اسأل عن دوافعك لهذا التبرع وتحديد بلاسم بالذات .
- لا توجد اية دوافع انما لكون بلاسم يستحق المساعدة وهو ذو شخصية مؤثرة على من حوله من اصدقائه كما انه ذكي ويحسن التصرف في الوقت المناسب.
- يا كليلة انت لست صريحة معي .
لاذت كليلة بالصمت وتورد خداها من الخجل، كما كفت المعلمة عن ذلك الحوار عندما شعرت انها قد اثقلت على كليلة بالاسئلة. وختمت كلامها بالقول "
- اتمنى لك التوفيق يا عزيزتي.
انسحبت كليلة وهي شبه مقطوعة الانفاس.
نفذت المدرسة المقترح واُشرك بموجبه عدد من التلاميذ الفقراء وفي مقدمتهم بلاسم الذي رفض الفكرة في البداية، ولكن بعد الحاح كليلة وادارة المدرسة وافق على مضض.
جهزت المدرسة ثلاثة باصات خشبية هي المتوفرة آنذاك من وسائط النقل. اراد بلاسم ان يستقل الباص التي تتواجد فيها الست " ماري " مسؤولة السفرة، ولكن كليلة سحبته الى باص آخر، لانها كانت تحاول
الابتعاد عن هذه المعلمة الباحثة عن سر العلاقة بينها وبين بلاسم، ولكي تأخذ راحتها بالجلوس الى جانبه والتمتع بالحديث والتعليق حول ما سيشاهدونه خلال الطريق، الذي سيستغرق قطع مسافته، اكثر من ساعة و نصف. كانت شوارع بغداد آنذاك نظيفة رغم بساطتها، وكانت تعكس التطور الثقافي المدني لدى اهالي بغداد في ذلك الوقت . وكانت مدينة بغداد لا تعرف الازدحامات، مما جعل باصات السفرة المدرسية تنفرد في الشارع في بعض المناطق، حيث لايوجد غيرها، لم يكن في ذلك الزمن بمقدور المواطن او حتى الموظف المتوسط الحال ان يمتلك سيارة.
سار موكب السفرة بثلاث سيارات منطلقاً من امام مدرسة الشالجية الواقعة بمحاذاة المعامل، ومن منعطف مسجد براثا تحول يميناً باتجاه محلة الجعيفر ومنطقة الكرخ القديمة وعبر محلة الشواكة عبوراً لجسر الملك فيصل الاول – جسر الاحرار- قرب محطة الاذاعة في الصالحية باتجاه شارع الرشيد ومن خلاله الى الجنوب مروراً بالباب الشرقي ومعسكر الرشيد، وعبوراً لجسر نهر ديالى، وصولاً الى طاق كسرى في منطقة سلمان باك.
تمت السفرة على هوى كليلة التي كادت تتخلف عن الالتحاق بها تبعاً لامتناع بلاسم عن المشاركة، لكن دوافع الحب تخلق المعجزات. مما جعل كليلة تخرج بتدبيرة سلسة ومقبولة، حتى لم تلاق اي عائق من قبل ادارة المدرسة، التي رحبت بل وطبقت المقترح كاملاً . ما عدا زخة الاسئلة التي انهمرت على كليلة من قبل الست ماري مسؤولة السفرة.
انيطت ببلاسم وبعض زملائه مهمة المراقبة لمساعدة ادارة المدرسة على تحقيق الهدف من تلك السفرة اي الاطلاع عن كثب على المعالم الاثرية التي يدرسها التلاميذ في درس التاريخ، وهي رحلة نزهة وترفيه للتلاميذ والمعلمات على حد سواء. وبعد ان تجول التلاميذ في الاثار التاريخية المتمثلة بالطاق الشهير وما حوله من توابع اثرية، تشكلت فرقة استطلاع ووضعت بعهدة بلاسم وزيدان وستار وهرمز للبحث عن المكان المناسب الذي يحط التلاميذ رحالهم فيه، فوجدوا بستاناً قريباً. وجرى الاستئذان من صاحبه مع التعهد والالتزام بعدم العبث بالنخيل واشجار الفاكهة و المزروعات الاخرى.
هناك تجلت الفوارق الطبيقة بصورة صارخة، عندما اخرج كل تلميذ ما جلبه معه من طعام، وفي ذلك الحين تجلى المثل القائل- الطيورعلى اشكالها تقع- متجسداً من دون تخطيط مسبق، اذ راح بعض التلاميذ يفرش الارض ببعض الافرشة للجلوس عليها وكذلك فرشت بعض السفر البلاستيكية للاطعمة وجلبت معها الملاعق وغير ذلك من لوازم المائدة، خصوصاً وان الاطعمة كانت متنوعة من المشويات والمقليات والفواكه المختلفة في موسمها ومنها في غير موسمها !!، اما القسم الاخر من التلاميذ فكان ما في جعبهم من المأكولات لا تضاهي ما جلبه الاخرون من زملائهم ابناء الاغنياء، فهي عبارة عن بيض مسلوق ودولمة وخيار وبصل وطماطة وجبن ولبن وبطاطة مسلوقة، اما الفواكه فلم يتوفر لديهم منها سوى التمر، وليس لدى هذه الفئة افرشة ولا حتى سُفرات للطعام، فاعتمدوا على استخدام الجرائد القديمة .
 

يتبع


ابجدية حب في مدرسة العصافير (1-9)
 


 

free web counter