| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

علي عرمش شوكت

 

 

 

                                                                              الثلاثاء 23/8/ 2011

 

رواية

ابجدية حب في مدرسة العصافير
(7-9)

علي عرمش شوكت

وبعد سماعها لجواب " ستار"، عادت اليها ابتسامتها الساحرة، وراحت تهتم بجلستها التي كانت مباشرة على الارض، والتي لم تتعود عليها، وحينها غدت تشعر وكأن زورق غرامها الذي حسبته قبل لحظات يكاد يغرق في بحر من الظنون، قد رسا على ضفاف آمنة. كان بلاسم يرقبها بخلسة عن الجميع، ويبدو عليه شيء من الاحراج لما لاحوال بيته الفقير، ولكن كليلة قد اعجبت، غير انها لم تجاهر بما راق لها من نقوش والوان لتلك السجاجيد والبسط ذات الصناعة اليدوية الريفية رغم بساطتها وقدمها، والتي فرشت على ارض الغرفة ، مكتفية بتلمس فروها الصوفي وهي جالسة عليها، وربما هذه المرة الاولى التي تجلس كليلة على الارض وفوق بساط من هذا النوع.
ومع كل ذلك الانشداد الى رؤية بلاسم الا ان رائحة البخور التي ملأت جو البيت قد اشبعت انفاسها طيباً وحسبتها اعذب عطر انعشها لكونها نابعة من بيت الحبيب الشافي، ولهذا اخذت تتنشقها وتملأ صدرها منها. اتساقاً مع خيالها الذي كان سارحاً في فلك الهيام الذي ضرب اطنابه في تلك اللحظات. وربما سيبقى ذلك العطر يذكرها، حينما تستنشقه اينما وجدته، في هذا اللقاء الحميم، مهما طال الزمن.
ولكن لم ياخذ ذلك الا القليل من اهتمامها المنصب جله على رؤية بلاسم، حتى انها لم تبال بدعوة اخيها الجالس بجانها الى مشاهدة دجاجة ومعها مجموعة من فراخها الكتاكيت، قد اثارت اعجابه وهي تسرح في باحة الدار . مما دعا احدى اخوات بلاسم لتقول له:
- هل اعجبتك الدجاجة ام فراخها...؟
- اعجبتني الكتاكيت.
- هل تريد واحداً من الكتاكيت ؟
- نعم ... ولكن كيف يأكل ؟
- الكتكوت لايحتاج الى من يجلب له الاكل ... فهو عندما يخرج من البيضة يتوجه للبحث عن الطعام بنفسه، واذا ما تركته امه سيعيش، على غير طبيعة بعض الطيور الاخرى ... سأهديك واحداً من هذه الكتاكيت.
- شكراً على هذه الهدية.
كليلة:
- اخي سمير متعدد الهوايات ، فهو يحب تربية القطط والكلاب. وسيضيف اليوم الى هواياته تربية كتاكيت الدجاج.
- والدة بلاسم: تنبري في الحديث وكأن ذكر الكلاب و القطط قد اثار حفيظتها ودعاها للقول:
- الكلاب والقطط نجسة ولا فائدة منها، ولكن الدجاج نظيف ومفيد.
زيدان: يعترض مادحاً كلبه:
- ان كلبي شير افضل من الف دجاجة.
ستار: يتذكر حادثة قد حصلت له مع قط قد رباه يوماً:
- كان لدي قط اسمه "عتاو " قد اختفى يوماً لفترة طويلة،ولكن عندما مرضت عاد الى البيت وجلس بجانبي وظل يلازمني حتى شفيت، مما دعا والدتي لوصفه بالملاك الصالح.
هاشم ادلى بدلوه هو الاخر :
- لدي طيور الحمام ابيعها كل شهر، ولكنها سرعان ما تعود الى بيتنا.
حسين:
- كان لدى جدي حصان، وفي ذات مرة تعثر وسقط جدي من على ظهره، وكسرت اضلاعه، الا ان الحصان ابى ان لا يغادر المكان الى ان جاء بعض المارة واسعفوا جدي.
ام بلاسم اصرت على ان تمتدح الدجاج بقولها:
- لدي دجاجة، تبيض بيضاً فيه صفاران، واحياناً تبيض مرتين في اليوم.
كليلة :
- انا احب صغار الاغنام ولكن لايوجد مجال لتربيتها في بيتنا.
وكان بلاسم لا يشارك في ذلك الحديث. اذ انه كان هائماً في سحر وجه كليلة وهي فرحة وكأنها واحدة من هذه العائلة، وربما ذهب به الخيال الى ابعد من ذلك.
طالت الزيارة التي اغدقت خلالها والدة بلاسم واخواته عليهم جميعاً بما توفر لديهن من شاي وخبز ساخن ممزوج بالسمسم، و مصحوباً بذلك المزيج من رائحة البخور وخمائر الخبز والسمسم المحمص، مما اعجب كليلة كثيراً، ودعاها للاستفسارعن مكان شرائه ظناً منها انه قد جُلب من السوق.
- من اين تشترون هذا الخبز لايوجد قرب بيتنا محل يبيع مثله
اجابها بلاسم
- انه من صنع امي هل اجعبك ؟ ... بامكانك ان تأخذي شيئاً منه.
- لا شكراً... انه اعجبني كثيراً لم اشاهد مثله سابقاً.
ومن باب المجاملة راح زميلهم حسين ابن برجوازي الحي يسألها عن نوع اخر من الخبز قائلاً
- هل تعرفين خبز " العروك " ؟
ابتسمت كليلة وكأنها اكتشفت شيئاً جديداً وسألت عن خبز العروك:
- ما هو هذا الخبز ؟
فبادرت احدى اخوات بلاسم، بل واشترك الجميع في توضيح ما هية ذلك الخبز.
-انه يصنع من العجين الممزوج باللحم والخضروات ذات النكهة الطيبة.
وضمن نقاشهم حول الخبز ذكرت ام بلاسم بان هنالك "خبز العباس " الا تعرفونه ؟، انه يوزع في المناسبات الدينية.
وحينما سمعت كليلة بالمناسبات الدينية كفت عن الاسئلة لانها لاتريد الخوض في هذا الامر.
قضت وقتاً مريحاً بالحديث مع اختي بلاسم وزميلتها فوزية،حول امور الحياة اليومية، كما وكان طرف اخر من الحديث يشترك فيه الجميع، يدور حول سبب عدم التحاق اختي بلاسم في المدرسة والذي اثارته الضيفة التي كانت كثيرة الاسئلة.رغم انها لم تترك لحظة واحدة لينشغل فيها ناظراها عن حبيبها، مما اضاع عليها حساب الزمن وطال وقت الزيارة.
لم يغفل بلاسم الامر فنبهها الى تلك الاطالة ، خشية عليها من لوم اهلها، الا انها كانت لا تبالي، بل تتمنى لو طال بها المقام حتى للعيش الابدي في هذه الاكواخ الفقيرة ، طالما هي الى جانب الشافي الحبيب بلاسم. ومع ان كلمات التنبيه قد صدرت عن بلاسم الذي بالعادة لايرد له طلب من قبل كليلة، الا ان هذه المرة خرج طلبه الداعي الى انهاء الزيارة عن ذلك السياق. وغدت تلك التنبيهات تحسبها كليلة وكأنها تكاد تقطع انفاسها، او تمنع ارتوائها من فرات الحبيب، فكانت تحاول الابتعاد عنها بفتح حوار ليس ذا اهمية مع الاخرين.
وبعد برهة من الوقت كرر بلاسم عليها دعوته بضرورة العودة الى بيتها. لم ترتح لتلك الدعوة، بل وحسبتها متعاكسة مع رغبتها للبقاء فترة اطول من الزمن الذي استغرقته الزيارة. استجاب اخوها قبلها الذي تشكلت لديه مآرب في انهاء الزيارة، اي ضمان حصوله على تلك الهدية التي وعدته بها احدى اخوات بلاسم، وهي عبارة عن كتكوت، فما كان على كليلة الا الاستجابة لدعوة العودة ولكن قبلتها على مضض.
نهضت وودعت والدة بلاسم واخواته وتحركت معها مجموعة زملائها ، ستار ، وزيدان ، وهاشم ، وحسين، وفوزية، غادروا بيت بلاسم . وهنا اعترى كليلة شعور قوي بالانشداد الى هذا الحي الفقير الغني بوجود من سلب قلبها، وكذلك بسكانه الفقراء الطيبين.
ظل بلاسم يرافقهم بالرغم من الحاح زملائه عليه بالرجوع الى بيته، بدعوى انه مازال يعاني من الوعكة الصحية. ولكن كليلة لم تبتعد عن بلاسم متواصلة بالحديث معه دون سواه، وكانت تتمنى في سرها لو ذهبوا كلهم وتركوهما منفردين، او كفوا عن هذا الالحاح المزعج عليه بالعودة الى بيته، اذ كانت تحسب تلك الدعوة بمثابة فصل قسري بينها وبينه، حتى في هذه المسافة القصيرة، لكونها مسافة فراق ووداع غير مريح مهما قصر زمنها... فما اشدها من صعوبة على المحبين.

كانت كليلة شديدة الاهتمام بالتعرف على كل شيء في هذا الحي الفقير الذي بدا زاهياً في نظرها، وبمحض صدفة شاهدت صفاً من النسوة وهن يحملن على رؤسهن حزماً من الحطب وهي عبارة عن كمية من سعف النخيل، كن مؤزرات بعباءاتهن وعند المشي تهتز اوساطهن بايقاع جميل، تصورت للوهلة الاولى انهن يؤدين طقوساً دينية، او تقاليد اجتماعية، ولم تهمل كليلة ذلك المنظر الذي اثار انتباهها فسألت بلاسم :- لماذا تحمل مجموعة النساء حزماً من سعف النخيل على رؤسهن..! اجابهاها بلاسم وهو مبتسم.
- لأنهن يعملن في بستان الحاج جبوري المجاور، يجمعن الثمار من تمر وفواكه اخرى، ومنهن يعملن بقلع الحشائش الضارة من بين مزروعات الخضروات، وحُزم السعف هذه هي جزء من اجورهن الى جانب حفنة من التمر مع درهم واحد، لقاء عشر ساعات من العمل في البستان. مؤكداً على الساعات الطويلة من العمل، لقاء هذا الاجر البسيط.
- اتعني هذا هو الاستغلال الذي حدثتني عنه ؟
- نعم هذا نوع من الاستغلال. وبالمناسبة ... ذلك البستان - وكان يشير الى خلف سكة قطار الموصل والى الشارع المؤدي الى مطار المثنى- انه يعود الى ملّاك اخر، وهو ( علي الصالح ) الذي تُعرف المنطقته باسمه، فهو لايعطي للعاملات سوى حفنتين من التمر و( قران ) واحد، اي عشرين فلساً، بمعنى اكثر جشعاً واستغلالاً. وعندما يأتي موسم جمع ثمار المشمش، يقطع على العاملات احدى حفنات التمر ويستبدلها، بحفنة من ثمار المشمش المتساقط تحت الشجر، اي النوع الذي لا يستطيع بيعه في السوق. واستطرد يحدثها عن جشع الاغنياء اصحاب الاملاك لاستغلال العمال الفقراء.
تكون لدى بلاسم هذا الوعي السياسي والافكار التقدمية نتيجة قربه من بعض رجالات "كمب الدبات " المناضلين من عمال السكك الذين غالباً ما
كانوا يقودون الاضرابات في هذه المؤسسة. هذا الحي العمالي، نمت فيه الافكار التقدمية واليسارية من خلال انتماء ابرز رجاله الواعين الى الحزب الشيوعي العراقي، حتى اثرت تلك الافكارعلى بعض نسائه ايضاً . وعلى سبيل المثال وليس الحصر، المناضلة المرحومة " دانوكة " هذه المرأة الامية الريفية، الا انها كانت توّعي نساء الحي بحقوقهن، وتدفعهن الى العمل في معامل حلج الاقطان مثل معمل " الوصي " الذي كان في شارع النواب في مدينة الكاظمية غير البعيد عن كمب الدبات، وكذلك في " سيف " عبد الهادي الجلبي" لجرش وتعبئة الشعير، الواقع في بداية مدينة الهادي – مدينة الحرية حالياً، بغية مشاركتهن لازواجهن في تحمل الاعباء المعيشية الصعبة في تلك الايام. ولها غاية اخرى هي، تخليص النساء العاملات في البساتين، من ذلك الاستغلال الجشع. فالاجور في المعامل افضل بكثير، اي ثلاثة دراهم، مع ان وقت العمل عشر ساعات ايضاً، ما معناه استغلال ولكنه مخفف بعض الشيء.
كما انها تتدخل لحل المشاكل التي غالباً ما تحصل بين الازواج، وكان اهل الحي يسمونها بـ ( العمة الكبيرة )، وقد سجلت هذه المناضلة في التاريخ السياسي العراقي سابقة تمثلت بقيادتها لاحدى المظاهرات العمالية المساندة لاضرابات عمال السكك عام 1949، اذ راحت هذه المرأة الستينية من العمر وبوعي فطري تحرض لمساندة المظلومين، ان وعيها هذا ربما اكتسبته من نضال ابناء عمومتها وغيرهم من قادة الفلاحين ضد ظلم الاقطاعين في الجنوب، امثال القائد الفلاحي الشيوعي المرحوم " فعل الضمد " الذي قاد انتفاضة آل ازيرج في ريف العمارة، حيث كانت تعيش، قبل اضطرارها للهجرة الى بغداد.
وكانت قد بادرت حينما قام اضراب العمال في معامل الشالجية آنذاك، لتحرض اهالي كمب الدبات من الكبار والصغار لمساندة عمال السكك المضربين، قادت الكبار الذين تجمعوا حولها متوجهة الى معامل الشالجية، وقبل ذلك جمعت بعض الصغار وكلفتهم بارسال الخبز والتمر خلسة الى العمال عبر منافذ في اسلاك اسوار المعامل، وكان من ابرز قادة الاضراب الراحل " زاهد محمد "، والفقيد "عباس سميج " الذي يسكن الحي ذاته، وهو ايضاً كان فلاحاً مناضلاً قد تعلم القراءة والكتابة حينما كان في سجن الكوت عام 1948 . مع السجناء الشيوعيين وفي المقدمة منهم مؤسس الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف ( فهد ) وبعد اطلاق سراحه اصبح قائداً عمالياً معروفاً في الاوساط النقابية، واستطاع ان يكسب العديد من عمال السكك ومن الشباب الى جانبه، وبتأثير بعض رجاله من الشيوعيين غدا هذا الحي مشبعاً بالمفاهيم الاجتماعية الحضارية. ولهذا لم يحسب اهل الحي تجوال ذلك الجمع من الشباب والشابات في حيهم شيئاً غير اعتيادي.
وفي طريق تلك المجموعة لايصال كليلة الى بيتها، دعاهم زميلهم حسين ابن صاحب الدكان الوحيد في ذلك الكمب الى تناول بعض المرطبات والمشروبات الغازية مثل البيبسي او غيره ، وعلى حسابه من دكان ابيه، المعروف بكونه الرجل المتميز بغناه والبرجوازي الوحيد في هذا الحي، مما جعل الاهالي يطلقون عليه لقب " علي كمية " تنويهاً لكمية المال الذي يملكه ... غير انه بعد ثورة 14 تموز تحول ذلك البرجوازي بفعل تأثيرالمناخ السياسي الجديد الى مدافع عن الثورة والافكار التقدمية، وافتتح مقهى في الحي وجعلها مقراً لاتحاد الشبيبة الديمقراطي.
 

يتبع


ابجدية حب في مدرسة العصافير (6-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (5-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (4-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (3-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (2-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (1-9)
 


 

free web counter