| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
saieb.khalil@gmail.com

 

 

 

الجمعة 11/12/ 2009

 

لا تقطع ذراعك العليلة يا عراق

صائب خليل

"التغيير، التغيير"..على وقع الإنفجارات ومنظر الدم والخوف، تتوالى وتتعالى الصرخات التي تطالب وتحث الناس على المطالبة بـ "التغيير"! تغيير الحكومة، تغيير البرلمان، تغيير النظام كله. الناس حائرة، فهي أيضاً تريد التغيير، بل وبأسرع وقت ممكن وبأي ثمن، فما يجري لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، لذلك تلقى هذه الأصوات إذناً صاغية، فهي تدق على أوتار الخوف والرغبة من الإنتقام ممن أوصلوا البلاد إلى هذه الحال.
الألم المتزايد الطويل، الذي يفقد الناس صبرها وقدرتها على التفكير والتحمل يذكرني بحادثة ظريفة رغم محتواها الصعب. فقد حدثني أبي يوماً عن قصة حقيقية لفلاح من ناحية راوه (ذكر لي إسمه لكني نسيته) كان يسقي بستانه عند الفجر، وكان له ضرس يؤلمه طوال الليل، حتى وصل به الحال أخيراً أن رفع مسدسه وأدخله في فمه وأطلق النار جانبياً على الضرس!

كيف وصل العراق إلى هذه الحال؟...سأقول لكم رأيي، ولكم أن تحكموا بأنفسكم...

حين جاء الإحتلال، جاء فاغراً فمه ولعابه يسيل من أجل النفط. وجاء أيضاً طامحاً إلى تأمين مركز سيطرة يحول شعباً كبيراً وأرضاً عريقة، إلى "دولة شقاوات" كإسرائيل، تسهم في فرض سيطرته على المنطقة. وجاء بخبرة طويلة في الضغط على الشعوب غير المطيعة والتي تتناقض مصالحها مع مصالحه، خبرة تعود إلى القرن التاسع عشر واحتلالاته الأولى في كوبا والفلبين، وتمر بخبرته الكثيفة في إجبار شعوب أوروبا على هجر اتجاهها اليساري، من خلال تهديدها بالجوع بعد الحرب، ومن خلال التعامل مع عصابات المافيا في إيطاليا واليونان وفرنسا لضبط تلك الشعوب، وثم من خلال تجاربه العديدة في البلدان الأقل تطوراً في أميركا الجنوبية، حيث أدرك أن لا مناص من العنف لإقناع الشعوب بالتنازل عن ثرواتها وسعادتها من أجل حرية شركاته في أسواقها وثرواتها. لقد أدركت أميركا من هذه التجارب أن القوة والعنف سلاحها الوحيد من أجل طموحاتها. (1)

والحقيقة أنها حاولت أحياناً، في أميركا الجنوبية، أن تنافس الحركات الشعبية في مشاريع مفيدة، من أجل إقناعها بالتخلي تلك الحركات، إلا أنها فشلت تماماً: الشعب اقتنع أن الخلاف بين المصالح لا يمكن عبوره، والحكومة الأمريكية أقتنعت أيضاً باستحالة تنسيق مصالح الطرفين. وحاولت أميركا أحياناً أن تجد بعض النزيهين ليعملوا معها ولها، من أجل تشكيل حكومات تستطيع أن تقنع الناس وتؤمن الإستقرار اللازم للإستثمار، لكنها سرعان ما أدركت أن هؤلاء سينقلبون عليها عاجلاً أم آجلاً، وأن حثالات البلاد خير صديق لها (2). وحين واجهتها مشكلة الكفاءة، حيث ان الحثالات يكونون ايضاً فوضويين وغير قادرين على التفكير وحل المشاكل بأنفسهم وتنظيم حكومة أو مؤامرة، فعملت على إنشاء مدرسة يدخلها الحثالات الفوضويون، ليتخرجوا مجرمين أكفاء، قادرين على تنظيم الإغتيالات والمؤامرات بكفاءة، وحتى إدارة الحكومات بعض الشيء.

في يوم ما كشف السناتور إدوارد كندي أن جميع الدكتاتوريات في أميركا الجنوبية، تخرجت من "مدرسة الأمريكتين" (#) وحاول إغلاقها، وكان هناك ناشطين كثيرين حاولوا معه، دون جدوى، فقد كانت مدرسة الأمريكتين ثروة لا غنى عنها للإحتلال. مازالت المدرسة تعمل بنشاط، (بإسم آخر) ومازالت تخرج الحثالات الكفؤة لتنقض على أي بلد ينتخب حكومة تعمل من أجله، وكان آخرها حكومة الهندوراس، والتي مازالت قضيتها قائمة.
القيادات الشعبية كانت هي الأخرى تأمل في علاقة جيدة مع أميركا، فأميركا قدمت نفسها بشعارات رائعة عن الإستقلال وحرية تقرير المصير. فجمال عبد الناصر ذهب إلى أميركا يطلب مساعدتها أولاً، وهوشي منه، القائد الفيتنامي الكبير، كتب مرات عديدة إلى البيت الأبيض يطلب "المساعدة" على التخلص من الإحتلال الفرنسي، وثم الرجاء في عدم الحلول محله. وكاسترو ذهب فور إسقاط نضام باتيستا إلى واشنطن يطلب العون منها، والصينيون الشيوعيون كانوا في البدء يعاملون الأمريكان بصداقة وإعجاب شديدين، وبقوا محتفظين بأثر لتلك المعاملة حتى حين كانت الولايات المتحدة تشن الغارات عليهم، فحافظ الفلاحون على جميع الطيارين الأمريكان الذين تم إسقاط طائراتهم فوق الصين في الخمسينات، احياءاً ولم يمسوهم بأذى...
وهكذا حتى صفت الأمور بمعرفة الطرفين أن العلاقة بينهما علاقة عداء، وتناقض مصالح شديدين. البعض فضل إدارتها بشكل ما، والبعض الآخر أدرك أنه لا يوجد شكل لإدارة تلك العلاقة فأغلق حتى السفارة الأمريكية في بلاده، حين أدرك أن أي تواجد أمريكي فيها سوف يستغل لضربه، وليس غريباً أن يحدث هذا في الدول الغنية بالخبرة المريرة مع الأمريكان، والتي سبق وأن شاركت السفارات الأمريكية مع السي آي أي في إعادة الفاشست إلى السلطة فيها، أو محاولة إعادتهم، مثل فنزويلا وإيران. (3)

جاء الأمريكان إلى العراق، جاءوا ومعهم خبرة طويلة في التعامل مع الشعوب. يعرفون متى تثور ومتى تهدأ، متى تتوحد ومتى تحتار، متى تتكلم ومتى تسكت. ويعرفون كيف يجدون أرذالها وكيف يتعاملون معهم. كيف يعاملون الشرفاء ويعزلونهم وكيف يجعلون من اللصوص فعالين في مراكز حساسة. كيف يتعاملون مع الديمقراطية والدكتاتورية، البرلمان والحكومة والإعلام. ما أهمية الجيش والأمن والعصابات ومتى تنجح ومتى تفشل. متى يصدق الناس أكاذيبهم ومتى تنطلي الأكاذيب. كيف يعرفون رد فعل الشارع بسرعة لتغيير الخطط إن تطلب الأمر. كيف يؤثرون على الإنتخابات، بالإعلام والإشاعات والفضائح، الصحيحة منها والمختلقة، إضافة إلى التزوير. كيف يجعلون أتباعهم ومن يعجبهم من السياسيين فعالين وخصومهم مشلولين. كيف يتعرفون على من يريد خداعهم وتمرير الوقت للإنقلاب عليهم. جاءوا بكل هذا ودرسوا خبرات غيرهم أيضاً.
بالمقابل جاء العراقيون إلى اللقاء بلا أية خبرة، ومن كان عنده خبرة ما في ا لتعامل مع الإستعمار أما نساها أو تعب منها أو أذهله الفارق بعد أكثر من نصف قرن.

كان العراقيون يأملون، حالهم كحال الفيتناميين والمصريين والكوبيين والصينيين قبل أكثر من خمسين سنة بأن الأمريكان قد يمكن التعامل معهم لما هو "مصلحة الطرفين". لكن الأمريكان كانوا مدركين تماماً للحقيقة المؤلمة، لذلك فقد اختاروا سفرائهم من بين خبراء الإرهاب وأصحاب خبرة في تأسيسه في بلدان العالم الثالث، مثل نكروبونتي(4)، ولم يأتوا بشخص له خبرة في بناء حضاري وعلاقات ودية وإصلاح الشقاقات بين الأقليات. وعمل نكروبونتي على تأسيس شبكته مسلحاً بكم هائل من الوثائق التي تم تهريبها إلى الولايات المتحدة، وبأحدث وسائل التجسس، عمل بنشاط وهمة بينما كان العراقيون يحتفلون بديمقراطيتهم الجديدة ويجربون حرية الكلام والكتابة وتكوين الأحزاب والمنظمات والسفر، وكلها أمور جميلة مغرية لمن لم يجربها سابقاً.
في هذه الأثناء اختار الإحتلال كأول رئيس للوزراء شخصاً يتميز بالخبرة في الإرهاب أيضاً حسبما كتب هيرش، عضو منظمة حنين البعثية، أياد علاوي (5)، وكلف بإعادة من يستطيع الإتصال بهم من رجال أمن صدام وتنظيم شبكة أمنية إرهابية لا تتغير إن تغيرت الحكومة وفشل علاوي في الوصول إلى الحكم ثانية، بالرغم من كل الدعم والتزوير واختلاق الفضائح عشية الإنتخابات. وبالفعل كان هناك بعد خروج علاوي من الحكم، بضعة آلاف رجل أمن صدامي في وزارة الداخلية!

وشيئاً فشيئاً، تصاعدت روائح إرهاب وطائفية لم يعرف العراق ولا المنطقة شيئاً قريباً من قسوتها وعنفها في تاريخها كله: أناس يقتلون على الهوية، إنتحاريين يفجرون أنفسهم ويضحون بحياتهم لمجرد قتل جماعة من الطائفة الأخرى، أطفال يتم ثقب رؤوسهم بالمثاقب الكهربائية لأنهم من الطائفة الأخرى، رؤوس مقطوعة لأشخاص لم يفعلوا أي شيء! أطفال يقتلون بتفجير سيارة "للقضاء على نسل الرسول"! المسيحيين الذين لم يتعرض لهم أحد يوماً يقتلون بالجملة، الكفاءات العلمية تصبح هدفاً لعصابة من ثمانية آلاف متخصص من القتلة!
أشياء عجيبة غريبة، لا يعرف الشعب العراقي كيف يتعامل مع هولها، لأنه لم يعرف مثل جنسها في الماضي، فقد كان العنف، حتى حين يحدث، موجهاً بقصد مفهوم ولضحايا معينة، ولم يكن يوماً بهذا الكم وهذا القياس الهائل.
كان هذا العنف كائناً غريباً على أرض العراق، لكنه لم يكن كذلك في أميركا الوسطى عندما كان نكروبونتي سفيراً في الهندوراس،(6) يدير عصابات التمرد في تلك المنطقة! (7) (8)
ومرت الأيام والشهور والسنين، وأستفاد الإحتلال أقصى استفادة من المرتشين واللصوص وكل ذي ضعف أخلاقي في العراق، وحرص على طمأنت اللصوص الكبار وحمايتهم وإنقاذهم من أيدي الشرطة وتهريبهم إلى الخارج، أو إيصالهم إلى الأردن أو كردستان، حيث لا خوف على لص ولا خوّان. أدخل الإحتلال عملائه في وسط الحكومة، وحرص على المراكز الأمنية والعسكرية الحساسة، فكل شخص فيها يجب أن ترضى السفارة عنه، وإلا فأنه يقتل في حادث "إرهابي" كما حدث لمبدر الدليمي مثلاً.

واستناداً إلى خبراته القديمة، عمل الإحتلال على أن يؤمن نظام الحكومة شللها التام. فعمد على الضغط من أجل إقامة "حكومة فيتو" ليستطيع أي من عملائه إيقاف أي قرار لا يناسبه، وأسمى الحكومة "حكومة توافق" وخرج علينا أحد الأغبياء من الحكومة ليقول : إتفقنا أن "ما سيتفق عليه الجميع سيمر، وما ليس كذلك لن يمر"! وفي البرلمان، والذي يبقى المؤسسة الأقرب إلى الناس في أي بلد، تكفل قرد قميء من خلال رئاسته له، بجعله مسخرة للناس لكي لا تكون هناك علاقة احترام يشعر فيها الشعب بالثقة بأن هناك من يدافع عنه. وتكفل تشكيل هيئة الرئاسة المكون من ثلاثة أشخاص هم الأكثر قرباً من الإحتلال، بمنع إقرار أي قانون، وإصابة المؤسسة الديمقراطية والحكومة بالشلل! كذلك تكفل الوزراء "التوافقيون" بتعطيل الحكومة في أي وقت، مصيبين البلاد بالعجز، وبلجوء الحكومة إلى السفارة الأمريكية حين تريد تمرير أي قرار، حتى أن جمعية للنساء ذهبت إلى السفارة للمطالبة بحقوق المرأة!

لقد كتبت في تلك السنين، أملاً أن أثير في البعض الشعور بالخطر، ومنذ دخول نكروبونتي العراق، كتبت عن تاريخه الإرهابي،(7) (8) وعن خطر وشلل حكومة التوافق (9) منذ ولادتها مع الإبتكارات العجيبة التي صاحبتها مثل "الحق الوطني" مقابل "الحق الإنتخابي"، وكأن "الحق الإنتخابي" جاء من الهند. كانت جميع الأحزاب في حينها بلا استثناء تغوص في المؤامرة دون أن تعي في أي مستنقع تضع قدمها وأي حكومة مشلولة كانت تجهز للعراق، ولا أذكر أن حزباً ما أو سياسياً ما أبدى أي تحفظ أو اعتراض لاعلى حكومة الفيتو ولا على تعيين نكروبونتي في ذلك الوقت! اليوم أدركت الغالبية من الأحزاب ما معنى "حكومة التوافق" وبدأت الكتابة عنها، لكن علاقة الإحتلال بالإرهاب وتأسيسه، بقيت تابو لم يجرؤ أحد على الإقتراب منه، إلا الصدريين حسب علمي، وهؤلاء لم يستمع لهم أحد أيضاً.

ولم ينفع المنطق في إثارة الإنتباه إلى أن الإحتلال هو المستفيد الوحيد من الإرهاب الذي يتخذ حجة لبقائه في البلاد بعد أن عانى الكثير من أجل توقيع إتفاقية أسماها بـ "سحب القوات" للبقاء سنتين أخرتين. فبقايا البعث والقاعدة يفترض أن من مصلحتهم ترك الإرهاب حالياً لحين خروج الإحتلال، او على الأقل الإكتفاء بمهاجمة الإحتلال نفسه، لكي يشعر الناس أن "القاعدة" ، هذه التسمية الخرافية، معهم! والدول التي اتهمت أيضاً بالإرهاب، سوريا وإيران، هي أكثر الدول مصلحة في خروج الإحتلال، لكن هذا لم يشفع لهما لدى زيباري أو المالكي. أما الأردن، التي رحبت بكل سراق العراق ولفضت فقرائه، وطالما تآمرت على شعبه في الماضي، ودعمت جلاده وآوت بقايا عائلته، فكانت تحصل على بركة الحكومة ونفطها المدعوم، رغم أنها تطالب الحكومة بديون تدعيها، ورغم أن الحكومة تعلن صراحة عجزها عن دعم أيتام العراق وفقرائه! (10)
بقي كل طرف يفضل توجيه تهمة الإرهاب إلى خصم محلي، إقليمي أو عراقي، ينافسه في السلطة. لم ينفع المنطق ولم تنفع حتى الأدلة القاطعة والإمساك بالإرهاب متلبساً في البصرة عام 2005، حيث ألقي القبض على ضابطين بريطانيين متنكرين بزي رجال دين ويحملون أسلحة إرهاب وتفجير عن بعد في سيارة قرب إحدى الحسينيات وإطلاق النار على الشرطة وقتلهما أثنين من أفرادها! ولم تنفع الشكاوي في ديالى من أن القوات الأمريكية كانت تنقذ القاعدة في كل مرة يتم فيها محاصرتها.
وجاءت المعاهدة، ووقف الشعب وقفة ارهبت المرتشين من سياسييه وخشوا عقوبته في الإنتخابات القريبة. لذا كان لا بد من تنظيم مسرحية إرهابية لجعل الجميع يوقع لكي لا يجد الشعب من يمثله. وقام المالكي وزيباري بتمرير التمثيلية ووقعها في البرلمان الكثير ممن تظاهروا برفضها القاطع مثل رجل أميركا المفضل أياد علاوي الذي تغنى بمساوئها قبل التصويت ليخدع البعض أنه قد يحيد عن الموقف الأمريكي في شيء. وكذلك فعل ممثلوا "السنة"، والذين ملأوا الدنيا ضجيجاً بموقفهم "الصلب" من الإحتلال!
وكان يفترض من المعاهدة أنها "أهون الشرين"، كما قال البعض، ويفترض أن الشر الأفضل هو تمديد الإحتلال، وتحويل قواته من قوات مسؤولة من الأمم المتحدة إلى أتفاق ثنائي مع أميركا. والشر الآخر هو عودة بقايا الصداميين والبقاء تحت الفصل السابع.
يفترض أن المعاهدة أهون الشرين، فإذا بها تأتي ببقية الشرور كلها معها، فلا العراق خرج من الفصل السابع، ولا حمانا الأمريكان من الإرهاب، بل هاهو يتفاوض مع بقايا البعث في تركيا ويرد بخشونة على توسلات رئيس الحكومة العراقية الذي حاول ثنيه. لم نسمع اعتذار من فرض المعاهدة ومن مهد لها ومن وافق عليها، للشعب العراقي على الورطة التي ورطه فيها، ربما بغير قصد.

والآن، حان وقت الإنتخابات، والحكومة القادمة هي الحكومة التي ستقرر تنفيذ انسحاب القوات الأمريكية أو السماح لها بالبقاء لمدة أطول، أو، وهو الأفضل للأمريكان، إتاحة الفرصة للقوات الأمريكية للإنسحاب مع ضمان أن البلاد ستكون في أيديهم بمساعدة قوة قليلة لا تكفي لمواجهة حكومة عراقية يساندها الشعب، لكن قادرة على مساندة حكومة عميلة ضد الشعب. إن تجارب الأمريكان تقول لهم أن حثالات البلاد هم من يجب أن تعتمد عليهم في الأمر. وأن من بقي فيه بعض كرامة، رجل خطر، حتى لو كان مؤيداً متحمساً للسياسة الأمريكية، مؤمناً بأنها لخير العراق، لأنه سرعان ما سيكتشف الخطأ. أما بالنسبة لمن لا أخلاق له، فليس هناك خطأ.
لقد حصلت الحكومة الأمريكية على العديد من المزايا من الحكومة الحالية التي وقعت اتفاقات مريرة ليس مع أميركا فقط بل أيضاً مع حلف الناتو ومع البريطانيين، ومع صندوق النقد الدولي، كل منها ستكون عقبة في طريق حرية أبناء البلاد في اختيار طريقها، كما تشير جميع تجارب الشعوب. لكن أميركا لم تكتف بهذا "التعاون"، فهي تريد طاعة مطلقة تتيح لها تمرير المشاريع الأكثر قباحة مثل إدخال إسرائيل بشكل رسمي إلى البلاد، فتح البلاد للإستثمارات الوحشية بلا حساب لمصلحة الناس، عقود نفط فاحشة الأرباح، وولاء سياسي مطلق لها وقاعدة إنطلاق عسكرية وسياسية لتأديب كل من يجرؤ على فتح فمه في المنطقة.
هذه الحكومة التي يعرف الجميع مساوئها، وقد كتبت أنا الكثير عن ذلك وبقسوة تامة، ليست بالسوء الكافي للإحتلال. فهو يريد اليوم أن يجهز على بقية مقاومة شرفاء البلاد لمخططاته المدمرة، وتحطيم ما يأملون الخروج به من هذه المذبحة، من نظام فيه أثر ديمقراطي قادر على الحياة والتحسن. إنهم لا يكتفون بحصول حثالاتهم على مناصب أمنية وعسكرية خطيرة تشمل حتى وزير الدفاع إضافة إلى الكثير من ضباط الأمن، بل يريدون أن ينهوا أي أثر لمقاومة التدمير في الإنتخابات التالية.

لكن قد تقول: وهل هناك أثر لتلك المقاومة؟ وأقول: نعم! ولولا ذلك لما عرقلت المشاريع الأمريكية وتعسرت ولما استمر القتل ولتوقف الإرهاب. لا إرهاب هناك في كردستان، لأن قيادات الحزبين الكبيرين الفاسدين، يسيطرون على السلطة تماماً، كما أنه ليس هناك معارضة شعبية كبيرة للأمريكان ولا للإسرائيليين، فلا يجد الإرهاب له هدفاً وبالتالي سبباً للبقاء. وهو ما يدل أيضاً على ان نظرية جنون الإرهاب خرافة، وأن الإرهاب يعرف أهدافه بدقة، مثلما ينظم عمله بدقة!
لقد ألقيت تهمة الإهمال على الحكومة بالتفجيرات الأخيرة، وهي تهمة مشكوك بها. فالحكومة، بغض النظر عن أهدافها وأخلاقيتها، لا بد أن تكون حريصة جداً على سلامتها وعلى تقديم صورة جيدة عن إدارتها للبلاد. الصحيح ليس أن الحكومة مهملة، لكنها عاجزة. وعجزها هذا تراكم مع السنين بتأثير الضغط والحماقات والضعف الإنساني وخبرة الإحتلال وسلبية الشعب أيضاً(11). كما أن القاء التهمة على المنافسين من التيارات الأخرى، مسألة لا تستحق الإهتمام، ليس فقط لأن مثل هذه العمليات صعبة للغاية، خاصة بوجود الأمريكان (لم يقتل أي ضابط أمريكي كبير في كل هذا العنف الشديد الذي استمر سنوات). وإنما أيضاً لأن من الخيال المبالغ فيه أن تتحول المنافسة السياسية بين كتل تكون حكومة حالياً، إلى تفجيرات تقتل الناس للبرهنة على ضعف الحكومة!

أن من يقوم بالتفجيرات إنما يفعل ذلك للإستيلاء على السلطة، وخاصة السلطة الأمنية، من خلال ربط الإرهاب بعجز الحكومة وإهمالها وعدم كفاءة القائمين على مكافحته فيها. وبالتالي سيتم تقديم "الأكفاء" الذين ينتمون إلى نفس جبهة الذين قاموا بالتفجيرات، وتجبر الحكومة على قبولهم. إن أعمالاً بمثل هذا الحجم لا تتم إلا بالتعاون مع صاحب السلطة العسكرية والأمنية والإستخبارارتية الأعلى في البلاد الآن، ألإحتلال. ومثل هذا التنسيق الهائل للإعلام المركز المؤقت مع التفجيرات، من برامج فضائية وأمطار الإيميلات التي تغزو حاسباتنا وتدعو الشعب إلى تغيير حكامه ونظامه وبلهجة تتعمد العنف والتهييج ليست إلا عمل جهة كبيرة القدرة على تنفيذ مثل هذا التنسيق والضغط.

لقد جاء الإحتلال مبرراً نفسه بنشر الديمقراطية وحل مشكلة الفصل السابع والقضاء على الإرهاب وساعد هذا الإدعاء على بقائه وتمكينه من السلطة وتوقيع المعاهدات معه. والآن بعد أن حصل على ما يريد، فهو لا يجد مبرراً لتنفيذ وعوده وخسارة أهم أوراقه. أما الديمقراطية فلقد كانت العدو الأكبر له، حيث أن سلطة الشعب ترعبه حتى في بلاده نفسها. فالجهات المتنفذة المستفيدة من الإحتلال والجيش والإستثمار تعادي الديمقراطية حتى في بلادها، وتتهرب منها ولطالما اصطدمت ببمثلي الشعب في بلادها وعملت على عرقلة عملهم وتهميشهم، مثلما حدث عندما رفضت تقديم نص الإتفاقية حتى إلى الكونغرس الأمريكي، وعلمت حكومتنا أساليب التهرب من البرلمان وتجاهل صلاحياته(12). لذا فهي تسعى إلى القضاء على الديمقراطية، لكن بأقل وضوح ممكن. وخير طريق للقضاء على الديمقراطية هي بتسليط قوى الأمن والعسكر عليها، لذا فهي حريصة على أن يتولى هذه القوات من تعتمد عليهم لإبقاء العراق تحت سيطرتها حتى في حالة مغادرة معظم قواتها.

لقد حاول الإحتلال أن يتفاوض مباشرة وبصراحة مع بقايا الصداميين، وحين وجد تقبل ذلك مستحيلاً أنقلب إلى تمثيل دور الرافض لعودة البعث ليتسنى له العمل على إدخاله بسهولة أكبر(13)، ولكي لا يرى الناس الحقيقة الكبيرة وهي أن الصداميين والإرهاب والإحتلال كلهم في خندق واحد. كلهم شر واحد وليس شرّين لنختار أهونهما، والخيار بين مقاومة مشاريع "محور الشر الحقيقي" هذا أو الإستسلام له.

هذه هي قصة ما حدث وكيف وصلنا إلى هنا حسب تقديري، وما وصلنا إليه خطير جداً ويهدد بالكوارث. لايهمني أبداً الحكومة القادمة، فأنا لا آمل بحكومة ممتازة، إنما كل أملي أن يمكن إنقاذ كل شيء من التحطم نهائياً، لعل المستقبل يأتي بحكومة يسعد بها الإنسان ويفتخر. ولذا أقول للناخب العراقي: البرلمان رغم فساده، هو مرجعك الأفضل، والديمقراطية رغم عرجها ومرضها، هي الخيار الذي يعطي الأمل، فالديمقراطية إن تمت صيانتها لبضعة فترات إنتخابية، قادرة على شفاء نفسها وإصلاح عطبها، فيخرج الفاسدون والمفسدون بالترشيح المتتالي والتأثير الفعال للناس. لذا أقول: إن لم تجد ممثلاً جيداً لك لتنتخبه، فانتخب من أجل إدامة الديمقراطية، وإن لم تجد من يزيد قوة الديمقراطية في وجوده في البرلمان، فانتخب من يمثل خطراً أقل عليها، خاصة وأن عدم الإنتخاب، يهدد بإعطاء الحجة للإنقضاض على هذه الديمقراطية المريضة. إن لم يكن متاحاً لإنتخابنا أن يأتي بحكومة جيدة، فليكن الهدف منه حماية الديمقراطية قدر الإمكان. إن برلماننا وديمقراطيتنا ذراعنا المعطوبة التي سببت لنا الكثير من الألم، لكننا لا ننتقم من يدنا ونقطعها إن هي آلمتنا، بل نحاول أن نعالجها ونشفيها.
ستقولون، أنك تعيش في الخارج، ولا تعرف مدى الألم الذي يعاني منه عراقي الداخل بسبب فساد هذه الحكومة وأخطائها وجرائمها، وأقول لكم أن الحكم السليم يبقى مطلوباً وخاصة في الوضع الصعب، وأن الألم لا يبرر الخطأ، وأن التعب لا يبرر الخطأ، فالفلاّح الذي أطلق النار على ضرسه لم يدمر إلا نفسه، ولعله حين سؤل في المستشفى عن حماقة عمله، قال "إنكم لا تدركون مدى الألم الذي كنت فيه!"

 


(1) ما بعد المعاهدة 2- عندما تريد شيئاً يمتلكه شخص آخر: هل صداقة أميركا ممكنة؟
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/7usa2.htm 
(2) قال الإحتلال للشلاتية
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=118730 
(#) مدرسة الأمريكتين - قصة معمل لتفريخ الدكتاتوريات والسفاحين
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/26usa.htm
(3) ما بعد المعاهدة 2- عندما تريد شيئاً يمتلكه شخص آخر: هل صداقة أميركا ممكنة؟
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/7usa2.htm 
(4) نيغروبونتي:ارهابي خطر يجب طرده فورا
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=21758 
(5) دور علاوي في فقدان سيادة العراق على العمليات العسكرية ووجوده تحت الفصل السابع
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/18alawi.htm 
(6) نيغروبونتي: السجل الخطير لسعادة السفير
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=20653 
(7) أبي يفتش عن جواب لحيرته : بحث عن الحقائق في موضوع العنف في العراق – 1
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=76359 
(8) أبي يجد جواباً لحيرته: بحث عن الحقائق في موضوع العنف في العراق - 2
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=76978 
(9) التوافق هو الحل... ان لم تكن هناك مشكلة
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=40460
(10) قدرات الدولة ... وأيتامها
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/1eg.htm 
(11) الناخب وغضب العروس
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/6val.htm
(12) بوش والمالكي ومعاهدة من وراء شعبيهما
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/22bush.htm 
(13) أميركا تريد إعادة البعث؟ من يقول هذا الكلام؟

- عندما تقود الخيوط الى الإتجاه غير المناسب لتفسير الإرهاب
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/1musil.htm 

- من قتل اطفال النعيرية؟ رائحة فضيحة اكبر من ابوغريب!
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/26bth.htm

- أما حان الوقت لننظر بشجاعة إلى الإرهاب في عينيه؟
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/19ter.htm


 

11 كانون الأول 2009




 

 

free web counter