|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  18  / 2 / 2016                                 مزهر بن مدلول                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

في الطريق الى المملكة!
(2)

مزهر بن مدلول
(موقع الناس)

ليس من السهل على (شرّاد) ان ينتزع نفسه من الشعور المفرط باليتم، فتلك مهمة صعبة على طفل لم يمهله القدر ان يرضع من ثدي امه ولا ان ينام على صدرها، هذا ما كانت تشعر به (وصيفة)، فأغدقت عليه، وهي المرأة التي مازالت رغم شيخوختها تحتفظ بصحو ذهنها وبحرارة قلبها، اغدقت عليه بكل ما تستطيع من شفقة وما تدخره من عطاء، لكن، وبالرغم من ذلك، فالمزاج الحاد والمندفع في بعض الاحيان وجد طريقه الى سلوك (شرّاد) بصورة واضحة..

لم يبق من البيت الذي ولد فيه شيء يدّل عليه، فكل ما فيه انطمر تحت التراب، كما لم تعد لـ(شرّاد) اية رغبة بالمرور فوق اطلاله، ولا من شيء يجذبه اليه، لكنه تعلق في (الصريفة) التي نشأ فيها منذ ولادته وحتى اكمل سنته التاسعة، وهي ذات السنة التي اسلمت فيها (وصيفة) الروح!، ويبدو ان موتها خلف اسىً عميقا في نفسه، فقد كانت بالنسبة له امثولة في نكران الذات، وكانت دائما مستعدة للتنازلات من اجل ارضاء مزاجه الثقيل!، وعلى الرغم من تراكم الزمن، الاّ انّ صورة (وصيفة) مازالت تطلّ على (شرّاد) مثل ضوء بعيد يغيب لحظة ثم يضيئ من جديد، وما فتأت ذكراها بالنسبة له، علامة من علامات الأمان والعواطف العميقة، وعندما يتكلم عنها، لسانه يتعثر، ولا يعرف من اين يبدأ، وخاصة عندما يستعيد لحظة احتضارها المرعبة!....

يصف (شرّاد) تلك الليلة والمرارة تختبئ خلف عينيه....
- كان الدخان خانقا، والهواء شحيحا، ورائحة الموت تملأ فضاء (الصريفة)، وكانت جدتي (كما يحلو لشرّاد ان يسميها) تئنّ وجسدها يختض، بينما كنت احبس انفاسي ولا اقوى على النظر في وجهها الذي تغير تغيرا مفجعا، وكانت ترمقني بنظرة تعبر عن عجزها واستسلامها للموت، وكنت ارتعد من الخوف ومشاعري مبهمة ورأسي محشوا بالضجيج والصراخ..

ويضيف:
- على هذا النحو امضيت ساعات الليل الطويلة، وعندما لفظت جدتي انفاسها، ساد صمت رهيب، كما تسود الظلمة وتتكاثف خارج البيت، فلبثت مقرفصا حول موقد نار (المطّال) مذهولا، لا الوي على شيء، وساقاي يرفضان ان يتحركا، وما ان انبلج ضوء الفجر، حتى هرولت الى بيت جارتنا (غزالة)، وكان ذلك بالنسبة لي مثل حلم خاطف، حتى اني لم اخبر (غزالة) بموت جدتي، ويبدو اني كنت لا اريد ان اسلم بهذه الحقيقة الغامرة بالقسوة والتي لا اقوى على تحملها!.

يتنهد (شرّاد) ويسترسل بالحديث عن جدته (وصيفة):
- كانت تزهو بالفرح عندما تراني اضحك، فترد وتقول: (ضحكة العافية والأمان يا بعد روحي)، اما اذا رأتني وقد استبد بي كرب، فتكابد من اجل ان تصنع طرفة تجعلني اضحك، وكنت بالمقابل اشعر بانّ فرحي يضيء لها روحها ويثلج لها قلبها، وفي فصل الصيف كانت تستيقظ مع الديك لترش باحة البيت بالماء البارد، تقوم بذلك، فيما روحها مرحة وميّالة لاختراع النكتة بطريقة تلقائية!، وحين تهطل على الارض رمال صفراء، و تملأ ارجاء الافق ريح عنيفة، تمسك جدتي باطراف (دشداشتي) لكي لا تحملني الريح وتطير بي فتفقدني الى الابد!.

ويقول ايضا :
- عندما يأتي وقت النوم، تسرد عليّ قصصا من عوالم بعيدة ومتخيلة على طريقة قصص (الف ليلة وليلة)، لكن جدتي لا تفوت فرصة الاّ واطرت على امي وابي، فلطالما حكت لي عن امي (لميعة)، واصفة اياها بانها نقية الروح وتأخذ الحياة بيسر وسهولة، لكن الناس ظلموها وجعلوا ايامها عاصفة بالقلق، اما عندما تتحدث عن ابي (ناصر)، فتقرب وجهها الصغير الهزيل من وجهي وكأنها تريد ان تهمس لي بشيء لا تريد ان يسمعه احد غيري، فتقول :
- على الرغم من شعوره بالوحدة والحزن، لكنه لم يكن مستسلما لوحدته ولم يقتات من حزنه، وهو رجل راجح العقل، وروحه ممتلئة بالاحلام، على العكس من رجال قريتنا المنغمسين بالحياة السطحية..

وهنا تتوقف جدتي للحظة، وبعد ان ترفع بصرها الى السماء وتصطدم نظراتها بسقف الصريفة!، تعود لتنهال على رجال القرية الذين يخيم على ارواحهم الكسل، فتنعتهم بجميع النعوت وترميهم بمختلف الشتائم!.

يضحك (شرّاد) ضحكة جذلة ويترحم على روح جدته..
- الله يرحمك جدتي.. الله يرحمك..

رفض (شرّاد) الانتقال الى بيت (غزالة)، واصرّ بعناد طفل على البقاء في بيت جدته، كان يحس بان خروجه من بيت المرأة الطيبة التي فتحت جميع نوافذ قلبها واحتضنته، كخروج السمكة من الماء!، ففي هذا البيت تنفس بملئ صدره، وفيه نمت وتفتحت اغصان سنواته التسع، وتحت سقف هذه (الصريفة) امتلأ وجدانه بالسلام، وحول موقد نار (المطّال) استلقى على ظهره من الضحك وهو يستمع الى نوادر جدته وعالمها الفكاهي، وخلاصة القول، ان (شرّاد) استخلص خياله من بيت (وصيفة)، وهو لا يتردد عن الوقوف بين آن واخر متأملا فوق انقاضه!.

حين تخطى الرابعة عشر من عمره، انخرط كليا في الزراعة، وراح يعمل حتى شربت الارض من عرقه، وفاحت من التراب رائحة جسده، فقام باستصلاح مساحة واسعة من ارض اجداده التي اكلتها (السبخة)، واقتطع جزءا منها قريبا من بيته ليزرعه بالنخيل والرمان والعنب، وبعمله الدؤوب هذا، المملوء بالثقة والتفاؤل، اكتسب (شرّاد) مكانة مرموقة بين ابناء قريته، وبات الجميع يحسب له حسابا....

شاع في اوساط الريف خبر الحاجة الى ايدي عاملة في مدينة البصرة، فعمت البهجة على وجوه الناس، وراح بعضهم ينسج حولها الحكايات، فوسائلهم البدائية لا توفر لهم اكتفاءا ذاتيا، وحكومة الاستعمار تركت الافق يضيق بهم رغم سعته، اما الاقطاعيون والسراكيل واصحاب الحق بالخمس وغزو الجراد، فلم يتركوا للفلاح سوى القناعة بالمشيئة الالهية والاذعان للقدر!.

كان (شرّاد) منظورا من الجميع، ومظهره يعطي انطباعا بانه رجل مختلف، فهو بالاضافة الى قوته البدنية ووسامة طلعته واهتمامه باناقته، كان حلو المعشر، لذيذ الكلام، ويتمتع بنظرة ثابتة وعنيدة وشديدة الاتقاد، ولهجته حاسمة، ولا يتخلى عن هدف قبل ان يفوز به، واذا اتفق لي ان اقول، بأن (شرّاد) لا تعوزه الجسارة في ان يتخطى بعض الحواجز العرفية عندما يريد تنفيذ فكرته..

لم تمر الاّ سنوات قليلة، حتى اصبحت ل(شرّاد) ثروة جديرة بأن يفخر بها، فابتاع عددا من رؤوس الغنم، كما ابتاع فرسا يستخدمها في حراثة الارض وفي تنقلاته، وقام ببناء غرفة من الطين، وهو اول رجل يبني الى جانب الصريفة غرفة من الطين!، فكان يسعى دائما لأن يجد علامة تميزه عن غيره، ولكن من دون مجازفات ومن دون سقوط في الاوهام.

عندما ازدهرت الحياة في ارض (شرّاد)، وتكاثر قطيع الغنم حتى ناهز الثلاثين، تخلى عن العمل في البصرة، وكان من الناحية الاخرى قد قطع شوطا في تدريب مهاراته لان يتولى ادارة شؤون القرية بعد ان يذهب شيخها العجوز الى دار البقاء!، والذي لا يخفي (شرّاد) سخريته من تفكيره والتشكيك في قدرته.

قال (شرّاد) ذات مرة..
- خاطبني شيخ القرية بفظاظة امام الناس، كانت صورة الموت ظاهرة في عينيه الجاحظتين، وسيماء وجهه المذعورة توحي بأنّ ايامه باتت قليلة، كان كثمرة متعفنة معلقة بغصن يابس وتنتظر العاصفة!، قال الشيخ :
- شرّاد يا ابن (ابو ركَبة)!.. وتوقف للحظة!..

كان الشيخ يجد مشقة في نطق الحروف كاملة، فتخرج من فمه متقطعة.. بينما راحت اصابعي بدافع الغريزة الطبيعي تتحسس رقبتي، تلفتت فلم ارَ شيئا غريبا على الوجوه، وتساءلت مع نفسي، ماذا يريد مني هذا العجوز الهرم الذي لم يبق منه سوى كومة عظام هزيلة؟، وهل كان يقصد اهانتي؟!.

هذه الكلمة، اخافتني، حتى جدتي (وصيفة) لم تأت يوما على ذكر (ابو ركَبة) امامي، وعادت اليَّ في تلك اللحظة صورة جدتي صافية كالأثير، عادت بكل نورها المتلألئ وقيمتها المعنوية كما لو اني طفل وبحاجة الى ولي أمر ينوب عني!.

اكمل الشيخ كلامه..
- يا ابن ابو ركَبة، انت كبرت، وصرت بين الرجال مرهوب الجانب، وعندك (خير من الله)، وما ينقصك سوى العروس، لكي تتخلص من نزواتك الصبيانية!!...

ما عساني ان اقول لهذا الرجل الذي كانت سفينته على وشك الغرق!، كيف اردّ على هذه الغمزة الخبيثة!، وخطر ببالي ان ادير له رأسه بسيل من الشتائم والتوبيخات!، لكن التقاليد كانت اقوى مني فاستغفرت ربي وسكتت، ثم هذا العجوز المرتاب، الحذر، الذي لا يثق بغيره، ميت الجوارح وبليد الحواس، ولا يستحق ان اخوض معه سجالا، ولا يحتاج لان ابرهن له بأني الاجدر بمهمته، ولا اخفي!، باني لطالما تمنيت ان احتل مكانه وتلك الفكرة خبئتها في رأسي منذ مدة، وانتظر الوقت المناسب لتنفيذها!.

كان عقل (شرّاد) ممتلئا بالتأمل، التأمل الخصب، الصافي والايجابي، الذي يؤدي الى الحيوية والابتكار!، فانهمك في التفكير بكل ما من شأنه ان يقضي على الوحشة الهائلة التي تعم القرية، وخاصة في فصل الشتاء حيث الارض في سبات.....

وفي صباح احد النهارات الصافية، تلفع بعباءته وامتطى ظهر فرسه وولى وجهه ناحية المدينة، لم يرها سابقا، لكنه سمع عن حمّاماتها الحارة التي يتمدد تحت بخارها الرجال!، كانت المدينة تثير دهشته وفضوله....

عندما وصل اليها، وطاف ساعات مشدوها في شوارعها، ادركه التعب، فربط فرسه امام مقهى ضاجة بالحركة!، تهالك على احد مقاعدها، ارخى جسده، فكر في بستانه وقطيعه ونظام القرية القائم على السكون، تناهت الى مسامعه اصوات تخرج من جدار المقهى!، اصوات لبشر لا يشبهوننّا!، اعقبتها اصوات طبول كانت تقرع بطريقة محسوبة...

وبعد وقت وجيز، وبينما كان غاطسا في حيرته، ورأسه يرفض اي تفسير!، واذا بصوت آخر سبق وان تعرف عليه، انه صوت المؤذن، بدأ يرفع آذان الظهر، هزّت قشعريرة جسد (شرّاد)، ردد مع نفسه : (هذا حلم اقرب منه الى الخيال.. هذا صوت (محيسن) مؤذن القرية.. كيف وصل الى هنا؟.. اتراه مختبئ خلف الجدار؟!)..
كان (محيسن) هو روزنامة القرية، وصلتها الروحية بالسماء، ودليلها الوحيد الى الصلاة، لكن ان يصل صوته الى هذه المقهى!، هذا ما لا يدركه عقل (شرّاد)!!...

لاحظ صاحب المقهى على وجه هذا الفلاح الغريب حيرة واسئلة تنطق بمختلف النبرات!، فاقترب منه وراح يحكي له عن سر ذلك الجدار الذي يتكلم ويغني ويرفع الآذان، روى له تفاصيل اللغز، مما جعل (شرّاد) يستميت من اجل الحصول على واحدة، ولما ارشده الى المكان، دفع (شرّاد) جميع ما في جيوبه من دراهم، ثم ركب فرسه وعاد ادراجه الى بيته!.

شاع في القرية الخبر، (شرّاد جايب صندوكَ يحجي)!، ازدحم مضيف الشيخ بالرجال والاطفال الذين اتسعت عيونهم، وضع (شرّاد) (الراديون) على دكة، ووضع الى جانبه بطارية كبيرة الحجم (راديون ابو الباتري)، قام بربطهما بواسطة سلك معدني، وادار احد الازرار.....

قال اكثرهم ذكاءا: هذا وهمٌ يجب ان يتهشم!.. قال عاقلٌ آخر: هذا ضلال يجب ان يتضح!.. قال جاهل: هذا (طنطل) يجب ان نهرب منه!.. لكن عواطف (شرّاد) واركان روحه اهتزت، عندما تواردت الى ذهنه مقاطع من اغنية ريفية شديدة البوح!!....




في الطريق الى المملكة! (1)







 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter