|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  21 / 01 / 2015                                 د. كاظم حبيب                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

زيارات حزينة إلى مخيمات سكان النزوح القسري بإقليم كردستان العراق
(1)

كاظم حبيب 

أربيل

حين كان الزائر إلى أربيل قبل عامين أو ثلاثة يتجول في شوارع عاصمة الإقليم وأسواقها، كان يشعر بالحياة الجديدة المتحركة التي عمّت في هذه المدينة التاريخية وفي باقي مدن الإقليم مثل السليمانية ودهوك، وبالتغيرات الكبيرة جداً التي حدثت فيها، إذ إنها لم تعد تلك المدينة القرية المهملة والمهمشة التي كانت حتى منتصف التسعينات أو حتى نهاية القرن العشرين بسبب سياسات النظم السياسية التي هيمنت عليها. فخلال أقل من عقدين من السنين تحولت أربيل إلى مدينة حديثة بشوارعها وجسورها ومنتزهاتها الكبيرة والمنتشرة في أنحاء مختلفة منها وعماراتها وفنادقها الشاهقة وأسواقها التقليدية العامرة وأسواقها العصرية الحديثة (مولاتها) وكثرة الناس الذين تجدهم يتسوقون فيها، سواء أكانوا من بنات وأبناء المدينة أم من السياح القادمين إليها من أغلب مدن العراق الوسطى والجنوبية والغربية والموصل أو الأجانب الذين جاءوا ليتعرفوا على ما تحقق بالإقليم أو ليساهموا مع شركاتهم في بناء وتطوير هذه المدينة. لقد كانت حركة العمران وإقامة المجمعات السكنية تسير بسرعة كبيرة وبمعدلات عالية، إضافة إلى تأسيس الكثير من الجامعات الجديدة وتعاظم عدد الدارسين فيها لا بأربيل وحدها بل في كل محافظات الإقليم رغم المستوى الضعيف لأغلب هذه الجامعات حتى بعد مرور عشر سنوات أو أكثر علي تأسيسها، بما فيها جامعتي صلاح الدين والسليمانية.

وإذ كانت لديَّ ملاحظات سلبية أساسية جديدة على اتجاهات التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتعليمي فلم أبخل بها على الأصدقاء بل طرحتها مراراً وتكراراً، سواء برسائل شخصية أم عبر مقالات إلى الكثير من الأخوة المسؤولين بالإقليم وإلى الأحزاب السياسية التي تقود عملية البناء والتطوير بالإقليم أو عبر المناقشات المباشرة والتي كانت تمس الاقتصاد الكردستاني على نحو خاص، إضافة إلى قضايا أخرى تمس جوانب عديدة من الحياة السياسية والاجتماعية والتعليمية.

وقد لخصت أبرز تلك الملاحظات في حينها في ابتعاد حكومة الإقليم، كما الحكومة الاتحادية، كما أرى، عن التنمية الاقتصادية التي يستوجبها اقتصاد إقليم كردستان العراق، وأعني بذلك ابتعاد حكومة الإقليم عن المهمة المركزية التي تستوجب إجراء تغيير فعلي وحقيقي مدروس ومبرمج ومنظم في بنية اقتصاد الإقليم والتي يفترض أن تجد تعبيرها فيما بعد في بنية تكوين الدخل القومي، أي في إقامة صناعات وطنية مناسبة تتناغم مع المتوفر من الموارد الأولية بالإقليم، وتحديث الزراعة وتوفير مستلزمات تطورها وتنمية الصناعات الحرفية إلى جانب تطوير اقتصاد النفط، وليس الاقتصار على استخراج وتصدير النفط الخام، وتوجيه المزيد من رؤوس الأموال المتوفرة صوب التصنيع والتشغيل الإنتاجي بدلاً من التركيز على الاستيراد السلعي الاستهلاكي وإغراق الأسواق المحلية بالسلع الاستهلاكية والكمالية وتنشيط النزعة الاستهلاكية عند الإنسان الكردستاني والاقتصار في التوظيف على البناء وتعمير المدن والسكن والشوارع لا غير، على أهمية هذه الوجهة في التعمير وضرورتها أيضاً. وهذا يعني ضرورة إيجاد التوازن المناسب في توزيع وتوجيه الموارد المالية المتوفرة صوب الاستثمارات لأغراض التنمية الإنتاجية، أي التصنيع وتحديث الزراعة، وصوب الخدمات الإنتاجية والاجتماعية. كما لامست بوضوح موضوع البطالة المقنعة التي فاقت كل تصور والعمالة الأجنبية التي كان في الإمكان الاستغناء عن أكثرها لصالح تشغيل الأيدي العاملة الكردستانية بدلاً من توظيفهم في دوائر الإقليم. كما لم انس الإشارة إلى الفساد المالي والإداري والمحسوبية والمنسوبية، وخاصة الحزبية، كما في عموم الدولة العراقية، وهما كانا وما زالا يستنزفان الكثير من الموارد المالية ويتجاوزان على حقوق الإنسان من هذا الجانب أيضاً. يضاف إلى ذلك طرحي موضوع العلاقة بين الحرية الفردية والأمن للمواطنين وأهمية إيجاد علاقة سليمة وفعالة لهذين المجالين الحيويين للإنسان ولحياة الإقليم الكردستاني والدولة العراقية.

وكانت ردود الفعل لملاحظاتي نادرة جداً، وحين كتب لي السيد الدكتور برهم صالح جواباً على رسالتي المفتوحة التي نشرتها بعد توليه منصب رئيس وزراء الإقليم، وكان قبل ذاك مسؤولاً عن الملف الاقتصادي العراقي، ورد فيه قبولاً نسبيا لملاحظاتي، ولكنه تضمن الكثير من التبريرات للسياسة المنتهجة عملياً، وبالتالي فيها إصرار على مواصلة الدرب نفسه الذي سار عليه الإقليم طيلة الفترة السابقة. ولا شك في أن الفكر اللبرالي الجديد كان وما يزال هو المهيمن على التصور العام عند المسؤولين عن عملية التطور الاقتصادي والاجتماعي بإقليم كردستان العراق وسعيهم للاقتداء بالنموذج الخليجي الهش والمناهض للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة. وهي إشكالية لا تقتصر على الإقليم بل هو تصور سائد لدى حكام بغداد أو العراق عموما حتى الآن، كما يبدو لي. ومن يتابع التطور في الخليج سيجد إن قشور الحضارة الغربية متوفرة تماماً أما المضمون والجوهر فهي ما تزال علاقات العشائر والبداوة، وبضمنها الموقف من المرأة والحريات العامة وحقوق الإنسان. كما إن البناء الاقتصادي فيها هش، أو كما يبني الإنسان قصراً على ارض هشة متحركة سرعان ما يتهاوى!

حين كنت أتحدث وأناقش بشأن هذه المسائل كانت تمر في ذاكرتي وأمام ناظري كشريط سينمائي مكثف، كل ما مرَّ بالعراق من أزمات وانقلابات وموت ودمار وحروب وحصار ومصادرة حقوق الإنسان على امتداد سبعة عقود منصرمة بسبب طبيعة ونهج وسياسات الدولة الريعية وما أنتجته وتنتجه من عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع العراقي، بما في ذلك الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والفقر والبطالة والحرمان والغنى الفاحش والفساد, وأعني بذلك اقتصار القسم الأعظم من موارد العراق المالية أو دخله القومي على استخراج وتصدير النفط الخام وغياب التنمية والتنوع في الإنتاج وتكوين الدخل القومي. والأبرز في كل تلك الصورة المرعبة لما حصل بالعراق من مآسي وكوارث تحملها الشعب العراقي بصبر لا يحسد عليه ، ومعه شعب كردستان العراق، بسبب سياسات النظام الدكتاتوري ونهجه الدموي وعسكرة الدولة والاقتصاد وخوض الحروب العنصرية والتوسعية الداخلية منها والخارجية، وبسبب الحصار الاقتصادي الدولي الذي دام 13 سنة من سني عجاف ومريرة على الإنسان والمجتمع والاقتصاد الوطني. ولقد خسر الشعب العراقي ما يزيد عن مليون إنسان، دع عنك الجرحى والمعوقين ومئات المليارات من الدولارات الأمريكية، وما نعيش تحت وطأته اليوم هو من نتاج تلك الفترات وما بعدها.

وخلال السنوات الأربع الأخيرة من حكم المستبد بأمره وبالشعب العراقي كله، حكم الدكتاتور الصغير نوري المالكي، تدهورت العلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم. وإذ تتحمل الحكومة الاتحادية القسط الأكبر والرئيسي من المسؤولية في هذا التدهور المتفاقم والمريع في العلاقات بين الحكومتين، بسبب عدم معالجتها للكثير من القضايا التي كان يجب معالجتها، بما في ذلك تنفيذ بنود المادة 140 من الدستور العراقي أو المصادقة على قانون النفط الخام، أو موضوع الرواتب لقوات البيشمركة باعتبارها جزءاً من القوات العسكرية العراقية ...الخ، فأن ردود الفعل من رئاسة وحكومة الإقليم كانت هي الأخرى متشنجة وتتحمل جزءاً من المسؤولية أيضاً. وزاد الأمر سوءاً قيام نوري المالكي بقطع إيصال الرواتب وتعطيل دفع الحصة المطلوبة من الميزانية العامة للإقليم، إضافة إلى تعطيل البت في الميزانية العامة وتشديد الصراع حول عقود النفط الكردستانية بدلاً من معالجتها في ضوء إصدار قانون النفط العراقي وحل المشكلات العالقة حتى بلغ الأمر أحياناً إلى احتمال صدام عسكري بين الطرفين. لقد وصلت العلاقات في فترة حكم المالكي إلى طريق مسدود حقاً رغم محاولات المالكي إيجاد فرصة البقاء في السلطة لدورة ثالثة بمختلف السبل غير المشروعة وغير الدستورية. وإزاحته عن السلطة فتح الطريق نسبياً لمعالجة المشكلات القائمة. ولولا الانهيار الكارثي بالموصل وما نجم عنه لبقي المالكي متشبثاً بكرسيه المسحور! وقد تسبب حكم المالكي بشكل خاص في الكارثة التي يعاني منها العراق كله في الوقت الحاضر وتجلت في ما سأحاول طرحه في الحلقات القادمة.

وحين زرت كردستان في شهر كانون الثاني/يناير 2015 رأيت ما كنت أتوقعه قبل ذلك ولم أكن أتمناه لشعب كردستان ولا للشعب العراقي الذي يعاني من نفس المشكلات. والوضع الراهن ناشئ عن عوامل سابقة متراكمة وجديدة كانت في بالي حين كنت أطرح ملاحظاتي على الأخوة المسؤولين بالإقليم أو حين كنت أطرح رؤيتي للوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي العام بالعراق.

واليوم يعاني إقليم كردستان العراق من مشكلات كثيرة. فهو من جانب يقاتل قوات داعش المجرمة التي اجتاحت واستباحت الموصل والكثير من قرى ونواحي وأقضية محافظة نينوى وبعض مناطق كركوك وديالى، ومن جانب آخر ما زال الإقليم يواجه نزوحاً مستمراً إليه من المناطق التي تعرضت للاجتياح والاستباحة أو التي يجري فيها القتال. كما أنه يعاني من نقص في السلاح والعتاد والمعدات العسكرية والتي لا تصله بالسيولة والسرعة المطلوبتين ولا بالكميات والنوعيات المنشودتين لمواجهة فاعلة ومظفرة ضد القوات الغازية.

كما إن الإقليم يواجه تقلصاً شديداً في السيولة النقدية الناشئة من عوامل كثيرة بما فيها مشكلة أسعار النقط وتقلص إيرادات العراق من النفط الخام ...الخ، مما أدى إلى تقلص كبير في القدرة على تأمين الموارد المالية لتمويل المشاريع العمرانية بالإقليم وتقليص النسبة التي تدفع للموظفين من رواتبهم، وتوقفت الكثير من الشركات الأجنبية عن العمل وانعكس كل ذلك وغيره على السوق الكردستاني، إذ تقلصت السيولة النقدية إلى حدود بعيدة والذي يجد تعبيره في الكساد العام في أسواق أربيل والإقليم عموماً وفي توقف العمل في الكثير من المشاريع الاقتصادية وفي إنجاز مشاريع البناء وغيرها.

إن هذه الأزمة الراهنة يمكن أن تمر وينتصر العراق وينتصر الإقليم على عصابات داعش المجرمة وبقية المليشيات الطائفية المسلحة، ولكن السؤال: ماذا بعد ذلك؟ هل سيتعلم حكام العراق من كل ذلك؟ وهل سيتعلم حكام وأحزاب الإقليم من هذه التجربة الجديدة والقاسية أيضاً، دع عنك التجارب السابقة؟ هذا ما لا أستطيع الإجابة عنه، لأن الشعوب ما تزال عاجزة عن تلقين حكامها الدروس المطلوبة حين تبتعد عن أهداف التنمية الفعلية للاقتصاد والمجتمع. وإذا كان الإقليم قد وجه موارد معينة لصالح تجديد المدن وتخليصها من الرثاثة السابقة، فأن حكام بغداد لم يصلوا حتى إلى هذه النتيجة حتى الآن، إذ ما تزال العاصمة بغداد غارقة في الرثاثة المريرة وكذلك البصرة والعمارة والحلة والأنبار وصلاح الدين وغيرها من مدن وسط وجنوب وغرب العراق، دع عنك وجود بعضها تحت قبضة القطعان الأوباش من عصابات داعش المجرمة ومن الميلشيات الطائفية المسلحة التي ما تزال تمارس الهيمنة على المدن وتفرض إرهابها على الناس، تحت اسم الحشد الشعبي، رغم إن أقسام من الحشد الشعبي تمارس دورها الوطني في مناهضة القوى التي اجتاحت العراق من بوابة الموصل والأنبار وغيرهما.

نحن أذن أمام مجموعة من العوامل الفاعلة بصورة سلبية على الوضع الاقتصادي والمعيشي لشعب كردستان وعموم العراق والتي تستوجب التغيير بأسرع وقت ممكن لأن استمرارها سيكون طامة كبرى على العراق كله.

انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية، وهي بعنوان: الإقليم والنازحون قسراً.


19/1/2015





 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter