|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد 20/1/ 2013                                   د. كاظم حبيب                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

مخاطر ظاهرة إعادة إنتاج الاستبداد في دول المحيط الرأسمالي
ومنها العراق

كاظم حبيب

حين كنت أهيئ لكتاب " الفاشية التابعة بالعراق " تسنى لي قراءة عشرات الكتب حول مجموعة من النظم السياسية الاستبدادية التي برزت وتكرست لسنوات طويلة أو ما تزال قائمة في قارات أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا, وكذلك في أوروبا في العشرينات والثلاثينيات والأربعينات .. من القرن العشرين. بعضها تحول نحو الفاشية السياسية والاجتماعية وعلى قاعدة نظام اقتصادي رأسمالي متقدم, كما حصل في كل من ألمانيا وإيطاليا واليابان العسكرية, وبعضها الآخر لم يتحول إلى نظام فاشي سافر قائم على إيديولوجية عنصرية, ولكنه مارس الاستبداد والقهر السياسي واستخدم اساليب الفاشية في القمع السياسي والاجتماعي ومصادرة حرية الفرد والمجتمع, وبعضها الآخر كرس الاستبداد الشرقي المتخلف بأجلى معانيه, وخاصة بدول آسيا وأفريقيا. والدول العربية تقدم نماذج صارخة في تنوع الأردية التي ارتداها الاستبداد في كل منها. ورغم وجود بعض التباين في التفاصيل الجزئية لنماذج الاستبداد بالدول الآسيوية والأفريقية وبعض دول أمريكا اللاتينية, إلا إنها كانت تتماثل في السمات الأساسية لهذه الظاهرة, إذ كانت حاضرة في أذهان من عاش تحت وطأتها وميز خصائصها حتى بعد سقوطها ولسنوات طويلة أو ما يزال يعاني منها.

والجدير بالإشارة إن الاستبداد لا يبرز فجأة في هذا المجتمع أو ذاك, بل هو ناشئ بفعل وجود علاقات إنتاجية معينة ومستوى معين من التطور الاقتصادي والاجتماعي ومن طبيعة البنية الطبقية أو الاجتماعية وعن مستوى تطور الوعي الفردي والجمعي للمجتمع, إضافة إلى التراث والتاريخ والأحداث التي مرَ بها هذا المجتمع أو ذاك. حين يصل حاكم جديد يشجب استبداد من سبقه ويعد بالعدل والديمقراطية ثم ينقلب عليها تدريجاً ويكرر ممارسات من سبقه!

فحين يعاد إنتاج تلك العلاقات والظواهر الاجتماعية في بلد ما, فإنها تعيد إنتاج الاستبداد الذي نشأ عنها سابقا, ويكون المستبد هنا هو الوليد الشرعي لهذه العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وجزء مهم وسلبي من التراث التاريخي والعلاقات السياسية الراهنة والناجمة عن تشابك وفعل كل تلك العوامل. ولهذا من حقنا أن نقول بأن وفاة مستبد بأي شكل كان أو حتى سقوط نظامه السياسي لا يعني نهاية الاستبداد, بل يبرز مستبداً آخر مكانه ويقيم النظام السياسي الذي ينتج مقومات استمرار استبداده وتحقيق مصالحه ومصالحة الفئات التي تدعمه والتي يمثلها.

وتاريخ العراق نموذج صارخ لهذه الظاهرة السلبية, فهو مليء بحالات الاستبداد وبالمستبدين منذ أو حتى قبل أن يعبر عنها الشاعر العبقري الذي كتب ملحمة "گلکامش" والتي جسدت بإدراك عميق وحس سليم ورؤية نافذة لطبيعة وسلوكيات الحاكم المستبد. وما كتب عن صدام حسين, باعتباره آخر مستبد عرفه العراق, يؤكد أن سلسلة المستبدين في بلاد ما بين النهرين لم تنقطع وكأن خيطاً متيناً يشدها ولأن مقومات بروز الاستبداد والمستبد ما تزال متوفرة في البلاد.

سقط آخر مستبد مطلق اليدين في البلاد, وهو مهم, ولكن السؤألة الملح هو : هل سقطت وانتهت مقومات نشوء نظام استبدادي جديد وبروز مستبد جديد في العراق؟ أشعر, كمواطن عراقي, أن المجتمع العراقي يعيش اليوم محنة جيدة معقدة وعويصة بعد سقوط النظام الفاشي السياسي البعثي والتي تكمن في كون النظام السابق سقط على ايدي دول أجنبية وقوات عسكرية فرضت الاحتلال لفترة معينة أنجزت فيها رسم معالم العراق المطلوب وأنجزت خلالها إقامة نظام للمحاصصة الطائفية السياسية والأثنية بامتياز ولم تسقط ولم تنته مقومات نشوء الاستبداد وبروز مستبد جديد في البلاد.

فحديث البعض عن دستور ديمقراطي ووجود برلمان منتخب وسلطة قضائية لا أن تسود الديمقراطية, فحين لا بد من تأكيد إن هذه المانشيتات لا تنتج ديمقراطية فعلية ولا ترسي حريات عامة ولا حياة حرة, إذ إن الواقع العراقي الجاري يؤكد, بما لا يقبل الشك, إن وجود ذلك لا يكفي لبناء الحياة الحرة والديمقراطية, بل يمكن أن يكون غطاءً يراد به ستر السير صوب إقامة نظام فردي تسلطي مستبد. فما سبب هذا الادعاء من جانبي؟ أدعي ذلك لأن الأرضية التي نشأ عليها صدام حسين ما تزال هي ذاتها التي يمكن أن ينشأ عليها من يماثل صدام حسين ولو بعباءة أخرى غير عباءة صدام حسين. فإذا كانت عباءة صدام حسين قومية يمينية شوفينية متطرفة, فإن عباءة الجديد يمكن أن تكون طائفية سياسية يمينية متطرفة بامتياز, وهو ما يعبر عنه بالعربي "تعددت الأسباب والموت واحد".

لا يكفي أن نقول بأن ذاكرة المجتمع قصيرة, ولا يكفي أن ننزل اللعنات بحظوظ العراقيات والعراقيين الذين ابتلوا بالاستبداد والمستبدين ونبتهل, كل على طريقته, للخلاص من هذا الواقع. إذ سيبقى هذا الواقع قائماً, رغم دعوات الناس وابتهالهم, وفي كل العراق والحكام الحاليين والقادمين كافة ما لم نسع إلى تغيير الأرضية والقاعدة المادية التي نشأ وينشأ عليها الاستبداد وتعيد إنتاج المستبدين, سواء أكان اسمه "س" أو "ص".

إن تغيير البنية الاقتصادية يخلق معه بنية اجتماعية جديدة ووعياً جديداً. ولا يتم ذلك بفعل سحر ساحر أو من ذاته, بل بفعل نشاط المجتمع وطلائعه من مثقفي ومثقفات, سواء أكانوا منتمين لأحزاب سياسية أم منظمات مجتمع مدني أم مستقلين, ولكنهم جميعاً يمتلكون الوعي الكافي للنضال من أجل تغيير قاعدة وعلاقات المجتمع الراهنة لتقيم للمجتمع تدريجاً الأرضية التي لا ينبت عليها الاستبداد ولا تنتج مستبدين. هذا لا يعني بأي حال أن لا نناضل ضد الفردية السائرة نحو الاستبداد إلى أن تتغير الأرضية الراهنة, بل يفترض خوض النضال من أجل الديمقراطية الذي يعتبر الطريق السالك للتغيير المنشود ذاته, إنها عملية متشابكة ومعقدة وصعبة ولكنها مطلوبة في كل الأحوال, وإنه الطريق الوحيد لتغيير البنية والمناهج التربوية والتعليمية الراهنة للفرد والمجتمع.

على عاتق القوى والأحزاب والشخصيات الديمقراطية المثقفة والواعية لدورها ومسؤوليتها تقع مسؤولية النهوض بهذه المهمة لأن الأحزاب الإسلامية السياسية بطبيعتها طائفية سياسية ولا تقبل بالمواطنة الحرة والمتساوية, فهويتها السياسية ليست المواطنة العراقية بل الطائفة, وهي التي تفرق بين أتباع الديانات والمذاهب الدينية وغير الدينية بالعراق. إن هناك شخصيات وقوى مسلمة تنورت بالعلم والمعرفة وتدرك بأن الدولة والمجتمع لا يمكن أن يبنيان على أساس ديني أو طائفي, وبالتالي فهم يناضلون مع القوى الديمقراطية من أجل دولة مدنية ديمقراطية علمانية لا تفصل بين السلطات الثلاث وتحترم استقلال القضاء فحسب, بل وتفصل بين الدين والدولة والسياسة أيضاً. وبالتالي فهناك إمكانيات فعلية للتعاون وخوض النضاا السلمي والديمقراطي المشترك لصالح بناء مجتمع ودولة الحرية والديمقراطية والكرامة والسلام , دولة الحب والدفء الإنساني والتآخي والتقدم.

 

20/1/2013            
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter