|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  17 / 7 / 2014                                 د. كاظم حبيب                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 


 

وستنقضي الأيام والخير ضاحك يعم الورى والشر يبكي ويلطم

كاظم حبيب

عرف شعب العراق الكوارث والحروب والمحن والأزمات، عرف الكثير من المستبدين بالأرض وشعوب الأرض، عرف الحصار والحرمان والجوع والموت، عرف الخراب والدمار، عرف الوحوش الكاسرة المتلبسة بأردية وأقنعة البشر، عرف النهب والسلب واستباحة النساء، عرف قطعان الفاشية التي قدمت واستباحت كل شيء باسم القومية العربية وباسم الدين الإسلامي، عرف جحافل الغزاة الذين قدموا من الشرق ومن الغرب، من الشمال ومن الجنوب الذين أجهزوا على أبناء وبنات الشعب العراقي ودنسوا الأرض وأحرقوا الكتب وصبغوا مياه دجلة باللونين الأحمر والأزرق، لون الدم ولون حبر الكتب، تركوا الدماء سيولاً تخضب أرض العراق، هدموا الكنائس والمساجد وبيوت الله الأخرى، عرف كل ذلك وغيره خلال القرون والعقود الكثيرة المنصرمة. ورغم كل ذلك بقي هذا الشعب صامداً بوجه الغزاة وجحافل الفاشست وأسراب الجراد الأصفر المسموم التي تلتهم الأخضر واليابس وتترك الأرض يباباً، وانتهى الكثير من المستبدين إلى بئس المصير، وهكذا كان مصير صدام حسين وسيكون مصير من جاء من بعده أو من يأتي بعد ذاك ليحكم العراق بذات الرؤية السادية والنرجسية المريضة.

والشعب العراقي يواجه منذ أعوام طائفية سياسية مقيتة وجائرة، بعد أن عانى الأمرين ولعقود عديدة تحت وطأة فكر وحكم قومي شوفيني وطائفي مريض. وإذا كان النظام القومي الدكتاتوري البشع قد أذاق الشعب العراقي مر العذاب باستبداده وحروبه وعنصريته وتمييزه بين قوميات الشعب، فأن هذا الشعب يعاني بعد سقوط ذاك النظام العاتي/ من النظام الثيوقراطي الطائفي المتخلف والمستبد والجائر الذي زرعه المحتلون الأوباش في أرض العراق، وليست له جذور عميقة، ليمزق وحدة الشعب بين مسلم سني ومسلم شيعي، وبين صابئة ومسيحي وأيزيدي، ويبعثر الجهود الضرورية والملحة لترميم ما دمر قبل ذاك، ووضع الشعب في الواقع المرير الذي هو فيه الآن. لقد ادعى وجود عملية سياسية، وهي عملية مشوهة ومزيفة قامت على تقاسم الحصص وتقاسم النهب والسلب لموارد البلاد المالية وما تزال على حالها، بل ازدادت بؤساً وفاقة فكرية وسياسية. إن هذه الفئة الحاكمة هي القشرة أو القمة للفئات الرثة بكل مراتبها التي تحكم العراق والتي نشرت الرثاثة في عراق اليوم وأكثر من أي وقت مضى. وما كان ليحص ما حصل بالعراق لولا وجود هذه الفئات الرثة على رأس الحكم بالبلاد والمسيطرة على قراراته السياسية والاقتصادية والثقافية الصفراء.

ها هو الشعب العراقي بكل مكوناته يعيش منذ أعوام تحت وطأة واحدة من تلك المحن العاتية التي تريد قلع هذا الشعب بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية والفكرية من جذوره الضاربة في عمق الأرض العراقية، ها نحن أمام محنة لا يمكن أن تمت للقرن الحادي والعشرين بصلة، فالمجرمون قادمون من قرون خلت بعقولهم الدنسة المحشوة بأسوأ الترهات والخرافات، ونفوسهم الدنيئة المريضة. إنهم أوباش وأسوأ من الحيوانات المفترسة التي لا تقتل ولا تأكل إلا حين تجوع، إنها الضباع الخبيثة، كما عبر عنهم أحد الكتاب، لأنها لا تريد سوى إلحاق الضرر والأذى. ها نحن أمام نوع آخر من الإسلام السياسي. وإذا كان الأول قد نشر وينشر الرثاثة والقتل على الهوية بالبلاد، فأن الثاني يشاركه في ذلك ويضيف عليه القتل لكل من لا يتفق معهم في الرأي والعقيدة البالية التي يحملونها ويبشرون بها بقوة السلاح والقتل.

جميع هذه النظم السياسية وقوى الإرهاب قد ارتكبت أبشع الجرائم بحق الإنسان العراقي وحقوقه المشروعة، وخاصة حقه في الحياة، وادعت الدفاع عن القومية، وهي منها براء، وادعت الدفاع عن الإسلام وهي ترتكب الموبقات والقتل العمد باسم الإسلام. إنها النظم والقوى الجائرة التي لا يمكن أن يكون لها في هذا القرن الجديد قرن العلم والحياة لصالح الإنسان.

هذه الموجات العاتية من القومية الشوفينية ومروراً بالطائفية السياسية الحاكمة وانتهاءً بالفاشيين الإسلاميين التكفيريين الذين استباحوا بعض مناطق العراق ويسعون لاجتياح غيرها سوف تنتهي دون أدنى ريب وتنقشع الغيوم السوداء الداكنة عن سماء العراق وستشرق الشمس ثانية وتكشف عن الوجوه الكالحة، تفضح كل الذين مرغوا جباه العراقيات والعراقيين بالتراب، كل الذين تسببوا بموت عشرات بل ومئات آلاف البشر ممن لا حول لهم ولا قوة، كل الذين نهبوا ثروات العراق وخيراته، كل الذين باعوا أنفسهم للأجنبي الاستعماري اللعين، أياً كان هذا الأجنبي، سواء أكان من الناطقين بالانجليزية أم الفارسية أم التركية أم أي لغة أو لهجة أخرى يرطن بها لأنها من غير لغات ولهجات أهل البلاد.

إن الجرائم التي ترتكب بالعراق ليست بمعزل عن فكر ودور ونشاط النظم السياسية المجاورة للعراق. فمن جهة لعبت وما تزال تلعب الدول العربية، وبشكل خاص السعودية وقطر, إضافة إلى تركيا، وقوى الإسلام السياسي التابعة لها أو المرتبطة بها دوراً أساسياً ومباشراً في كل ما حصل بالفلوجة والأنبار والموصل من حيث تنظيم العمليات الاجتياحية الأخيرة، إضافة إلى محاولة تبني شعارات المواطنين والمواطنات الصحيحة واستخدامها في نهجها الإرهابي الدموي، أي كلمة حق يراد بها باطل. إنها قدمت كل الدعم الفكري الديني والسياسي والمالي والسلاح وكل ما احتاجته هذه القوى لتحقيق ما حصل في شمال العراق والفلوجة وصلاح الدين، إنها الجريمة التي يمكن أن تنقلب على منظم وموجه هذه العمليات الحقيرة. ومن الجانب الآخر يواجه المجتمع تلك الجهود الشريرة الرسمية للدولة "الإسلامية" الإيرانية في تأمين المزيد من الدعم المالي والعسكري والتوجيهي الدعائي للمليشيات الطائفية الشيعية المسلحة التي تمارس عمليات عسكرية وعدوانية وخارج إطار الشرعية الدستورية. إنها تمارس بذلك إشاعة الفوضى والخراب والدمار بالعراق. إن هذه الدول مسؤولة بشكل مباشر وفعلي عن الفوضى والخراب والدمار والدماء التي تسيل في الكثير من المدن العراقية، وخاصة في تلك المدن التي اجتاحها الإرهابيون أو المدن المحاددة لها.

لنتذكر الحديث الذي جرى في العام 1921 وفي أعقاب انتهاء ثورة العشرين وتشكيل الحكومة العراقية بين القائد البريطاني السير وليم وليلكوكس والشيخ شعلان أبو الجون، إذ قال السير وليم يلكوكس (1852-1932م) لشعلان ابو الجون (توفى 1930م): ماذا تريد يا محفوظ أكثر, صار عندكم حكومة وطنية. فرد عليه الشيخ أبو الجون, وهو أحد قادة ثورة العشرين: أي يا محفوظ حكومة وطنية لكنها ترطن!". وها هو الشعب العراقي اليوم أمام حكومة ترطن مع الأسف الشديد! ورئيس الحكومة أكثرهم رطانة، ولكن لن تدوم هذه الرطانة في حكم البلاد بأي حال. فهذه الموجة العاتية، في هذا الزمن الرديء، ستمر دون أن يحني الشعب رأسه لها، ستمر دون أدنى ريب وسيعود الشعب العراقي إلى صفائه المنشود ويردد مع الشاعر :

وستنقضي الأيام والخير ضاحك     يعم الورى والشر يبكي ويلطم

إن عمر هذه النظم قصير وقصير جداً، ومع ذلك فأن النضال لتغيير واقع العراق الراهن سيستغرق وقتاً غير قصير، ولكن التغيير المدني والديمقراطي آت لا ريب فيه. ومن أجل أن نقلص الزمن في وجود هذه القوى على رأس السلطة الثيوقراطية، يستوجب تعبئة القوى المدنية العلمانية والديمقراطية والوطنية المستعدة للنضال ضد ما يجري اليوم بالعراق والعمل مع الجماهير الشعبية لتوعيتها وإزالة الغشاوة الفكرية والتشويه التزييف الجاري وتبصير العراقيات والعراقيين بما جرته وما يمكن أن تتسبب بها الآن وفي المستقبل من كوارث وآلام للشعب العراقي كله.


16/7/2014
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter