|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  12 / 3 / 2015                                 د. كاظم حبيب                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

هل حقق نوري المالكي ما كان يسعى إليه؟

كاظم حبيب 

حين يسعى الباحث إلى دراسة شخصية مستبدة من أمثال صدام حسين، معمر القذافي، بشار الأسد ونوري المالكي، على سبيل المثال لا الحصر، التي عرضت شعوب بلدانها إلى مخاطر جسيمة كويلات الحروب والكوارث والمآسي والخراب والفساد ومارست سياسات صادرت بها حقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية ومرغت جبين شعوبها بالتراب بعد أن صادرت إرادتها وضربت عرض الحائط مصالحها ومستقبل أجيالها القادمة وتسببت بخسائر بشرية فادحة ووسعت السجون ومارست التعذيب فيها وكبدت اقتصادياتها خسائر فادحة، لا بد له أن يدرس هذه الشخصية أو تلك من مختلف جوانبها المختلفة ويتحرى عن البيئة التي نشأت فيها وثقافتها ومستوى وعيها وتصرفاتها اليومية وعلاقاتها الفردية والمجتمعية وإجراءاتها وردود أفعالها إزاء مختلف الأحداث، ثم يسعى إلى وضع نفسه في مكان هذا المستبد أو ذاك ويتقمص شخصيته ليرى كيف يمكن أن يتصرف إزاء مختلف الأحداث صغيرها وكبيرها لو كان في مكان المستبد بأمره بالرغم من صعوبة التقمص الكامل لمثل هذه الشخصيات التي تتسم بالنرجسية المرضية والسادية وجنون العظمة والعشق الكامل للسلطة والمال والنفوذ والعمل على تحقيق الهيمنة المطلقة على الدولة والإنسان الفرد والمجتمع. وقد وجدت فروع غير قليلة في مراكز البحث العلمي التي حاولت دراسة كيف سيتصرف بعض هؤلاء الحكام حين يقع حدث معين ليتعرفوا على ردود أفعاله المستقبلية.

وقد تسنى لي دراسة شخصية صدام حسين منذ وصوله إلى السلطة الفعلية وقرأت عنه الكثير للفترة التي سبقت وصوله إلى السلطة، ثم أثناء وجوده الطويل على رأس السلطة وأثناء سقوط نظامه. وقد كنت قد توصلت إلى تشخيص السياسات والإجراءات والمواقف التي اتخذها صدام حسين قبل سقوطه لا لتدارك سقوطه، إذ كان يدرك بأن المعركة مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي قادمة لا ريب في ذلك، وسوف لن يكون الرابح فيها، بل ليواجه الوضع الجديد بعد سقوط نظامه. وكان في مقدوره التراجع، إلا إن المستبدين بأمرهم هكذا يتصرفون في الغالب الأعم في مواجهة التحديات التي يجدون أو يضعون أنفسهم أمامها وتتضخم لديهم العزة بالإثم فلا يتراجعون عن مواقفهم بل يواصلون الاندفاع باتجاه حسم المعركة وهم يدركون خسارتهم سلفاً. وقد برهنت الحياة الفعلية صواب تلك التشخيصات وما لجأ إليه صدام حسين قبل سقوطه واختفائه، ومن ثم البدء بتنفيذ ما رسمه قبل ذاك في جميع المجالات. وقد سجلت هذا التشخيص في سلسلة مقالات تحت عنوان "نشاط قوى صدام حسين ما بعد سقوط النظام في الداخل والخارج"، والتي نشرت ابتداءً من الشهر الثالث من العام 2003 وترجمت أغلب تلك الحلقات إلى اللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة وبريطانيا. وما حصل بعد سقوط النظام أكد صواب ذلك التشخيص لا في خ\طوطه العامة حسب، بل وفي الكثير من تفاصيل الحلقات, وقد نشرت تلك الحلقات في كتاب تحت عنوان "مقالات حول بعض المسائل الملتهبة في العراق" بجزئين بمطبعة مركز هافيبون للدراسات والنشر الكردية ببرلين في العام 2005، وتتضمن مقالاتي للفترة 2003-2005.

ومنذ مجيء نوري المالكي إلى الحكم في أعقاب عملية قيصرية مع سلفه ورئيس حزبه إبراهيم الجعفري تمنيت له النجاح، رغم معرفتي بحزبيته وكونه كان نائباً لرئيس الحزب ومن الطائفيين المتشددين أيضاً، إذ كنت أتمنى أن يستفيد من تجربة سلفه الفاشلة والمؤذية في حك العراق. ولكن وبعد فترة وجيزة رحت أتباع بصورة مستمرة مجرى السياسات والإجراءات والمواقف التي اتخذها نوري المالكي منذ وصوله إلى السلطة السياسية حتى الوقت الحاضر، حيث أصبح نائباً لرئيس الجمهورية، وردود أفعاله إزاء الأحداث التي وقعت بالبلاد خلال السنوات العشر المنصرمة. أدركت في وقت مبكر إلى إن المسألة الطائفية عميقة الجذور في فكر وممارسات هذا الرجل وتهيمن على كامل كيانه وبناء عقله وأسلوب تفكيره واتسامه بخصائص لا تختلف عن خصائص أو سمات كل المستبدين في الأرض، مع واقع وجو اختلافات كثيرة في الظروف والأجواء التي تحيط بتكوينهم وبتحولهم التدريجي أو السريع صوب الاستبداد المباشر وعن مدى قدرتهم على تنفيذ كل المخططات التي يسعون إليها، ومن ثم الأساليب التي يتبعونها لتحقيق ما يريدون تحقيقه. ولم تكن مستلزمات التحول الفعلي إلى الاستبداد من النواحي المحلية والإقليمية والدولية الفعلي متوفرة لنوري المالكي كتلك التي توفرت لصدام حسين على امتداد 35 عاماً، ولكن الخصائص التي يحملها كل منهما واحدة على المستوى العام والخاص. وإذا انتهى صدام حسين إلى مزبلة التاريخ، فأن المالكي لم ينته دوره حتى الآن ويتطلع للعودة إلى السلطة رغم احتراق أوراقه السياسية والاجتماعية. وإذا ما عاد فسوف يمارس السياسة ذاتها التي مارسها صدام حسين على مختلف المستويات.

لقد تسلم نوري المالكي السلطة بولادة قيصرية من رئيس حزبه السابق إبراهيم الجعفري الذي كان يريد الاستمرار في الحكم بأي ثمن، ولكن كل القوى السياسية، بمن فيهم رفاق دربه، رفضت ذلك وأُجبر على تسليم السلطة لنائبه في الحزب نوري المالكي. تسلم نوري المالكي السلطة السياسية بموافقة إيرانية – أمريكية، وعراقية من جانب القوى والأحزاب الإسلامية السياسية والتحالف الكردستاني وعلى ذات الأسس في التوزيع المحاصصي الطائفي والأثني للحكم. ولم تمر فترة طويلة إلا واصطدم بمنافس قوي له هو مقتدى الصدر وميليشيات جيش المهدي التي برز دورها بشكل صارخ في أعوام 2006-2008 فما كان منه إلا إن يوجه لها الضربة لينفرد بالحكم من جهة، وليعطي درساً لبقية المليشيات التي عليها أن تصطف إلى جانبه أو تُضرب فعلاً. لقد قام بتأديب ميليشيات جيش المهدي ببغداد والبصرة ومناطق من جنوب العراق ولكنه لم يصفها وتركها قائمة لأنها تبقى في دائرة البيت الشيعي الذي تأسس قبل ذاك بمبادرة من أحمد الجلبي.

بعد هذه الضربة الموجعة لمليشيات جيش المهدي شعر بامتلاكه السلطة الفعلية وبدايات قدرته على ممارسة القوة وتعزيز النفوذ بعد أن حصل على تأييد من كان قد تعرض لعواقب عمليات إجرامية نفذتها ميليشيات لجيش المهدي المسلحة ببغداد والبصرة والنجف وغيرها. ومنذ لحظة انتصاره على ميليشيات جيش المهدي وتراجع نشاط ميلشيات أخرى خشية توجيه الضربات لها، بدأت المسيرة الاستبدادية الفعلية في فكر وممارسات نوري المالكي وخاصة في النصف الثاني من الدورة الأولى لحكمه. وحين بدأ يفكر بالدورة الثانية والثالثة لممارسة الحكم بالعراق، برزت أمامه المهمات والسياسات والإجراءات والمواقف التي يفترض فيه ممارستها للحصول على الدورة الثانية والثالثة. وبدلاً من أن يعمد إلى الانفتاح والديمقراطية، راح يمارس سياسات أخرى مع محاولة تعبئة الشيعة حوله بتشكيل دولة القانون وقائمتها الانتخابية للانتخابات المحلية والعامة بهدف أن يقف خطوة أبعد من كونه مسؤولاً عن حزب الدعوة، بل إنه المسؤول عن الطائفة الشيعية بأسرها!، وأنه يسعى لتطبيق القانون، وعليه أن يخوض الانتخابات بهذه القائمة ويترأسها. وبدأت معه عملية تعبئة وتوظيف قواه والمؤيدين له في مراكز المسؤولية في الجيش والشرطة والأمن الوطني وفي أجهزة الدولة الأساسية والسلطة القضائية، إضافة إلى العمل بالاتجاهات التالية :

** فسح في المجال لمزيد من الفساد المالي وتوريط جماعات جديدة في هذا الفساد وتحقيق المزيد من الموارد المالية التي يمكنها أن تخدم مخططاته اللاحقة، فالمال هو الذي في مقدوره شراء الناس، تماماً كما كان يعتقد به ويمارسه صدام حسين.

** البدء بجمع ملفات على المسؤولين في الدولة العراقية، سواء من تورط بالفساد أم الإرهاب أم غيرهما، ليهدد بها ويفرض عليهم الخضوع لسياساته ومواقفه دون أن يقدمها إلى القضاء العراقي. وكان بين فترة وأخرى يعلن عنها دون ان يذكر السماء أو يقدمها للقضاء.

** زيادة قدراته المالية للعراق من خلال زيادة استخراج وتصدير النفط الخام لضمان وجود موارد مالية كافية تحت تصرفه لتنفيذ سياساته.

** تشديد الصراع مع الأحزاب والقوى السنية والقومية العربية بهدف تعبئة واسعة للشيعة حول حزبه وقائمته على نحو خاص. وقد وجد في حسين الشهرستاني خير منفذ لسياساته وأهدافه في هذا المجال.

** أدى ذلك إلى تحالفات جديدة وإلى زيادة العمليات الإرهابية بالعراق وفي محافظات كثيرة، مما أعطا المبرر لشن حملات شديدة ضد من أطلق عليهم بالإرهابيين وعلى وفق المادة 4 إرهاب.

** تشديد الصراع مع قائمة التحالف الكردستاني والسعي لدق إسفين الخلاف بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. ووجد في موضوع النفط وعدم تنفيذ المادة 140 من الدستور خير مجال لتعبئة العرب من جهة والقوى الشيعية من جهة أخرى ضد الكرد، إضافة إلى وجود خلافات بين الكرد والقوى والأحزاب السنية.

** العمل على تعزيز العلاقات التجارية مع إيران وتأمين غطاء ساتر لكل النشاطات الإيرانية بالعراق مع تبني تدريجي لقوى منشقة عن ميليشيات جيش المهدي ومقتدى الصدر.

** الإصرار على إنهاء وجود القوات الأمريكية بالعراق لكسب الرأي العام العراقي من جهة، والسماح لدور أكبر لإيران في السياسة العراقية من جهة أخرى، مما كان يثير القوى والأحزاب الإسلامية السنية والقومية العربية وتركيا والسعودية ودول الخليج، ويدفع بالأحزاب والقوى السنية والقومية إلى مقاطعة، الحكم، وبالتالي إضعاف دورها في السياسة العراقية وفي أجهزة الدولة لصالح قواه الذاتية.

** تشكيل قوات عسكرية خاصة خارج إطار الدستور بذريعة مكافحة الإرهاب والتي راحت تأتمر بأوامره باعتباره القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء، ومنها قيادة عمليات بغداد مثلاً.

** ارتفاع غير مسبوق بعدد المتعقلين بصورة كيفية بتهمة المادة 4 إرهاب ووضعهم في المعتقلات دون تحقيق أو محاكمة وممارسة أبشع أشكال التعذيب ضدهم.

ولكن نوري المالكي لم يتخذ أية إجراءات اقتصادية لتغيير بنية الاقتصاد أو تنشيط القطاع الخاص أو الحكومي وركز على التجارة والاستيراد وتوفير موارد النفط الخام المصدر لهذا الغرض، مما جعل العراق أكثر تبعية لاقتصاد النفط الخام. وفي نهاية هذه الدورة كانت البطالة واسعة والبطالة المقنعة أكثر اتساعاً والفقر صارخاً، إضافة غل ى تفاقم الفساد والإرهاب الدموي. وقد أثر هذا الواقع على انتخابات العام 2010 والتي لم تكن لصالحه كما كانت في الدورة الأولى.

وحين انتهت الدورة الأولى لحكمه وانتهت انتخابات 2010 كان لتحالف قوى إسلامية وقومية سنية تحت قيادة أياد علاوي قوة تصويتية أفضل من دولة القانون بعدد قليل من النواب. ولكن المالكي كسلفه السابق تشبث بالحكم، تماماً كما يتشبث المجنون بضريح العباس ابن البدوية وأبو رأس الحار يرجو منه الشفاء والشفاعة، مما جعله يدير حكومة تصريف أعمال لفترة غير قصيرة إلى أن وجُد الحل في اجتماع بطهران، كتب عن بعض أولياته رئيس تحرير جريدة المدى فخري كريم، بمساومة مؤذية بين إيران-الولايات المتحدة وقوى التحالف الحاكم جوهرها بقاء نوري المالكي لدورة ثانية في مقابل إجراءات معينة لصالح الكرد وتحالف العراقية والتي ضربها جميعاً عرض الحائط، بما في ذلك اتفاق أربيل الذي كتب عنه الكثير.

بدأ نوري المالكي يعمل هذه المرأة بصراحة واضحة وجرأة لتكريس حكمه لدورة ثالثة ورابعة ولفرض هيمنته المطلقة على حكم البلاد وعطل توزيع حقائب وزارية رئيسية مثل وزارات الداخلية والدفاع والأمن الوطني وجعلها تحت تصرفه. كما برزت أكثر فأكثر عيوب سياساته التي ابتعدت عن وضع وتنفيذ سياسة اقتصادية مما رفع من حجم البطالة والبطالة المقنعة واستنزاف موارد البلاد المالية عبر الفساد وتفاقم فجوة اللامساواة في دخل الأفراد السنوي وارتفاع نسبة الفقراء في المجتمع، كما تفاقم تدهور العلاقة بين الأحزاب والقوى السنية والأحزاب والقوى الشيعية وانتقلت إلى الشارع والجماهير الواسعة وتفاقمت العمليات الإرهابية بالبلاد وارتفع عدد القتلى والجرحى والمعوقين والتخريب اليومي.

ومع بداية العام 2011 تفاقم الوضع غير الديمقراطي مما أدى موضوعياً إلى بروز حركة مدنية مجتمعية مطالبة بمجموعة من الأهداف المشروعة وبشكل خاص:
1. إنهاء وجود القوات الأمريكية المحتلة بالعراق.
2. مكافحة الفساد ونهب موارد الدولة المالية، وخاصة موارد النفط المصدر.
3. ضد الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية والرثاثة في المدن العراقية.
4. ضد تخلف شديد في الخدمات وفي الطاقة الكهربائية وغيرها.
5. مكافحة البطالة المتفاقمة ومكافحة الفقر المتنامي وتفاقم الفجوة بين الفقراء والأغنياء وارتفاع عدد المليونيرية والمليارديرية بالدولار الأمريكي المتحقق لهم من السحت الحرام.
6. المطالبة بالإصلاح الإداري والكف عن المحسوبية والمنسوبية.
7. إطلاق سراح المعتقلين السياسيين أو التحقيق معهم ومحاكمتهم بصورة قانونية.
8. إطلاق الحريات الديمقراطية وحل المشكلات العالقة مع الإقليم وتنشيط المصالحة الوطنية.
9. الاستجابة لمطالب الشعب وتحقيق المصالحة الوطنية.

وكانت الحريات الديمقراطية وإيقاف الاعتقالات الكيفية واحداً من المطالب التي رفعت في تلك التظاهرات. وقد كان لثورة الشعب التونسي دورها البارز في تحريك هذا الجو النضالي للجماهير المتظاهرة، إضافة إلى التحرك الشعبي الواسع النطاق في القاهرة وعموم مصر.

وبدلاً من أن يتخذ نوري المالكي إجراءات عقلانية في معالجة الوضع، قطع أوصال بغداد بإغلاق الشوارع والطرق عن ساحة التحرير وأرسل المدرعات وطائرات مروحية والجيش والشرطة والأمن لطرد المتظاهرين من ساحة التحرير واعتقال مجموعة من الإعلاميين وتعريضهم للتعذيب والإهانة من قبل أجهزة الأمن الخاصة التابعة مباشرة لنوري المالكي. وبذلك غطس المالكي في وحل ومستنقع الاستبداد وداس على الدستور وحق الناس بالتظاهر السلمي بضرب المتظاهرين وشتمهم وتسميتهم بأصدقاء البعث أو المسيئين لنظامه الطائفي.ز. واعتقل وعذب الكثير من المشاركين في تلك التظاهرة وأحبط الفعاليات المدنية للمثقفين والمتظاهرين عموماً. وقد أدى ذلك إلى استقطاب شديد في العلاقة بين حكومة نوري المالكي والطاقم المساند له من جهة، وبين الأحزاب الإسلامية السنية والقوى القومية ومن ثم مع سكان الأنبار والموصل وصلاح الدين بشكل خاص الذين كانت لهم مطالب كثيرة بسبب تهميشهم في الحكم والمجتمع. وبدلاً من أن يدرس مطالبهم راح يوجه العسكر لمعالجة المشكلات بالقوة مما أدى إلى عواقب وخيمة في الأنبار وصلاح الدين وديالى والتي أدت إلى ولوج القاعدة أكثر فأكثر ومن ثم قوى داعش لتهيمن على ساحة المعارضة في الأنبار والرمادي والفلوجة. كما إنه دفع بالصراع مع الكرد إلى مستوى جديد بتشكيل قوات دجلة ودفعها للتصادم مع قوات البيشمركة، والذي أمكن في اللحظة الأخيرة إيقاف وقوع الصدام العسكري.

وخلال هذه الفترة ترك نوري المالكي لقواه الخاصة وقوات الأمن والشرطة وخاصة قوات عمليات بغداد ذات التثقيف الطائفي المتشدد أن تعمل كما تشاء ببغداد على نحو خاص ولكن في مدن أخرى أيضاً والتي حركت الكثير من البشر ضده.

لقد كان نوري المالكي يدفع بالصراع الطائفي إلى مدياته الخطرة، إلى نزاع مسلح، بتصريحات غريبة تؤكد استبداده وطائفيته المقيتة وشوفينيته ورغبته في ممارسة سياسة فرق تسد. فصدرت عنه الكثير من التصريحات الخطيرة بمختلف الاتجاهات منها :

*** أخذناها بعد ما ننطيها، ليش هو كل واحد يگدر بعد يأخذها منا" في رده على شيخ عشيرة شيعي قال له دير بالكم لا يأخذوها منك. وفي هذا تجاوز فظ على الدستور الذي يتحدث عن التداول السلمي والديمقراطي للسلطة السياسية بالعراق.

*** وفي خطبة له في مؤتمر صحفي بكربلاء قال المالكي كأي طائفي مقيت راغب في تصعيد الصراع والنزاع الطائفي ما يلي :
"أن الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد وهاهم اليوم موجودين والحسين بلون آخر لا يزال موجودا وهو الذي يستهدف من قبل هؤلاء الطغاة .. إذن أنصار الحسين وأنصار يزيد مرة أخري وعلي طول الخط يصطدمون في مواجهة شرسة عنيدة وهذا يعطينا رؤية بان الجريمة التي ارتكبت في حق الحسين لم تنته وإنما لازالت فصولها التي نعيشها اليوم من الإرهابيين والطائفيين والحاقدين علي الإسلام وأهل البيت".

إن نوري المالكي يرسل رسالة صرخة مناهضة لأهل السنة بالعراق لأنه يعرف طبيعة الميثولوجيا الشيعية المرتبطة باستشهاد الحسين، وبالتالي فهو تحريض صارخ ووقح ضد أهل السنة بالعراق وإلى تشديد الصراع الطائفي الشيعي السني..

*** "أنا ولي الدم والدم بالدم"، قال هذا نوري المالكي إثارة العرب ضد الكرد وكأنه رئيس عشيرة وليس رئيس وزراء دولة عراقية لها دستورها الدائم، حين حصل نزاع وقتل صحفي عربي بمسدس ضابط كردي.

*** وحين شكل لجنة لمتابعة مظاهرات الأنبار والفلوجة وغيرها وتوصلوا إلى طرح نقاط معينة، عرقل نوري المالكي تنفيذها بأمل تشديد الصراع وكسر شوكة المتظاهرين المطالبين بمطالب مشروعة في أغلبها، إن لم نقل كلها.

*** وراح يعمق الصراع مع رئاسة وحكومة إقليم كردستان بهدف إثارة العرب ضد الكرد وقد حقق الكثير في هذا المجال لم يفلح صدام حسين طوال 35 عاماً في الوصول إليه.

*** وفي مواجهة الكرد من جهة ومواجهة القوى والأحزاب السنية في الأنبار والموصل وغيرها من جهة ثانية كدس القائد العام للقوات المسلحة أعداداً كبيرة من القوات العسكرية، جيش وشرطة وأمن وعيون، بالموصل لا لمواجهة عدو خارجي بل للاحتمال خوض الصراع مع أهل الموصل ومع الكرد. وكان الاستفزاز كبيراً للجميع.

كل هذا كان يعني أن المالكي يسعى إلى البقاء في السلطة لدورة ثالثة، رغم انخفاض رصيده في انتخابات العام 2014. وكان يدفع بالأمور إلى الانفجار باتجاهات عديدة. وكان في الوقت نفسه قد فسح في المجال وبشكل واسع جداً إلى :
1. وجود كثيف لجماعات الحرس الثوري الإيراني بالعراق ووجود مستشارين عسكريين وقوى أمن إيرانية ببغداد والبصرة وغيرها من المدن العراقية.
2. وجود جماعات من قوات المقدس بقيادة إيرانية بالعراق وبإشراف من قاسم سليماني.
3. تبني القوات المتطرفة لميليشيات عصائب أهل الحق التي كانت جزءاً من ميليشيات جيش المهدي وانشقت عليه بقيادة قيس الخزعلي، وهي جزء من القوى المرتبطة مباشرة بالحرس الثوري الإيراني كما في حالة منظمة بدر وحزب الله وغيرها من التنظيمات المسلحة الشيعية التي اتخذت من ولاية الفقيه ومن المرشد الإيراني علي خامنئي ولياً لها وتأتمر بأوامره. وقد صرح واحد من قادة منظمة بدر والعامل في الحشد الشعبي بما يلي: "أن قوات الحشد الشعبي فضلاً عن كونها قد شكلت بفتوى من المرجع الدين الشيعي الأعلى في العراق، علي السيستاني، إلا أن قادة الحشد يعتبرون أن توجيهات المرشد الروحي الإيراني، علي خامنئي، تشكل عاملاً رئيساً في قرارهم القتال دفاعاً عن العراق" .

ونقلت الوكالة، عن رئيس منظمة بدر، هادي العامري، قوله إن "غالبيتنا يعتقدون بذلك لأن خامنئي يتمتع بالمؤهلات كلها ليكون زعيماً إسلامياً"، ويعد أن "خامنئي ليس زعيماً للإيرانيين فقط، بل للأمة الإسلامية، وهذا ما اؤمن به ويتملكني الفخر بذلك أيضاً."

وأصر العامري، بحسب رويترز، على "عدم وجود ما يتعارض بين دوري كسياسي عراقي وكزعيم عسكري مع إخلاصه لخامنئي"، مؤكداً أن "خامنئي يسعى لأن يضع مصالح الشعب العراقي فوق أي شيء آخر" [
راجع: موقع الحزب الشيوعي العراقي في 25 شباط/فبراير 2015 وتحت عنوان "قادة الحشد الشعبي يعدون توجيهات خامنئي عاملاً رئيساً بقتالهم لداعش"، عن المدى برس].

4. تشديد حملة الاعتقالات ضد الرجال والنساء من أتباع المذهب السني بتهمة 4 إرهاب ووضعهم لفترات طويلة في السجون وتسليط أشد أشكال التعذيب عليهم.
5. الإيغال في ممارسة الاستبداد والقمع والهيمنة على الهيئات المستقلة وما حصل مع البنك المركزي تعبير صارخ لاستبداد الحاكم بأمره ورغبته في التصرف بأموال الدولة بعيداً عن أي رقابة عليه. زهي سياسة مناقضة ومناهضة للدستور العراقي وقانون البنك المركزي والهيئات المستقلة الأخرى التي ترتبط بمجلس النواب وليس السلطة التنفيذية.

لقد وفرت سياسات نوري المالكي وإجراءاته الأجواء والمستلزمات المناسبة وعبدت الأرض الصالحة لوحوش داعش إلى اختراق الحدود العراقية واجتياح الموصل وانسحاب القوات العسكرية العراقية بكل فصائلها ووقوع جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية والتطهير العرقي والثقافي بمحافظة نينوى ضد المسيحيين والإيزيديين وضد الشبك والتركمان وضد السكان السنة من أهل الموصل ومحافظات أخرى.

إن السياسات والإجراءات والمواقف التي اتخذها الملكي على مدى سنوات حكمه قادت إلى عدة عواقب وخيمة وأهداف قوى التطرف الطائفي الشيعي، كما إنها كان بعضها يعبر عن غباء سياسي مريع، وبعضها الآخر عن توجه صارم لربط العراق بإيران بأي ثمن، كما تدلل على مواقفه الراهنة بعد أن أصبح نائباً لرئيس الجمهورية :
1. عجز القوات العراقية عن الدفاع عن نفسها مع معرفته بعدم استعداد أوباما بإرسال قوات برية، مما سيجعل من أمر دخول القوات الإيرانية أمراً ممكناً وربما مقبولاً من أوساط معينة بالعراق. وقد حصل هذا فعلاً، إذ نحن الآن أمام فيالق من الحرس الثوري وقوات القدس بقيادات إيرانية بالعراق، إضافة إلى وجود قيادات عسكرية إيرانية في قيادة وتوجيه وتدريب قوات الحشد الشعبي الشيعية. وقد عزز الوجود العسكري الإيراني الكثيف بالعراق إلى تنامي تأثير إيران في السياسة العراقية وفي الاقتصاد ومن ثم في التسليح العراقي بالسلاح الإيراني.
2 .توجيه ضربة قاسية لأهل الأنبار والفلوجة والرمادي وصلاح الدين وتكريت والموصل وغيرها مما جعلها تتراجع وتوافق في الكفاح ضد داعش، وهو الذي دفع بعضها لتقع في أحضان القاعدة وداعش وهو ما يقترن بذهن نوري المالكي ولسان حاله يقول، نكسر خشوم السنة أنصار يزيد أعداء أهل البيت!!!
3. التخلص من أتباع الديانات الأخرى الموجودين بالعراق وخاصة المسيحيين والإيزيديين، بعد أن لعبت المليشيات الشيعية المسلحة دورها في التخلص من عشرات الآلاف من الصابئة المندائيين والمسيحيين بالوسط والجنوب وبغداد.
4. تشكيل جيش جرار من الحشد الشعبي الشيعي الذي يصل تعداده إلى أكثر من 120 ألف مسلح، في وقت تم إضعاف الجيش العراقي إلى أبعد الحدود وأضعف سمعته بهروب أو انسحاب تلك القوات من الموصل أمام عصابات داعش وبقرارات من هيئات عليا ببغداد.
5. أضعاف الدور الأمريكي بالعراق لصالح الدور الإيراني.
6. إضعاف الأحزاب والقوى السنية في مواجهة الأحزاب والقوى الشيعية وتهميش دورهم أكثر فأكثر.

لم يتوقع المالكي أن توافق إيران على إزاحته، خاصة وإنه الذي قدم لها كل تلك الخدمات، إلا إن وجود المالكي في السلطة لدورة ثالثة سيفقد الشيعة الكثير من أصواتهم وسيؤثر سلباً على مكاسب إيران بالعراق ومن ثم يؤثر على المرجعيات الشيعية. فكانت التضحية به مطلوبة، لأن أوراقه محروقة على الصعد الإقليمية والدولية وكذلك المحلية إلى حدود متسعة، إذ إنه ما يزال نائباً لرئيس الجمهورية واللاعب السياسي الفاعل والمرتبط بأكثر من ملف في يديه بما في ذلك ملف الحشد الشعبي. كما إن رئاسة الوزراء بقيت في إطار حزب الدعوة الذي ما يزال يترأسه ويلعب دوره في إعاقة الكثير من السياسات والإجراءات التي يفترض أن تتخذ للتخلص من عواقب سياسات المالكي.

لقد حقق المالكي للإيرانيين ما عجزوا عن تحقيقه خلال السنوات المنصرمة، لقد حقق كل ذلك في الدورة الثانية من رئاسته لمجلس الوزراء بشكل خاص. فماذا سيحصل بعد الانتهاء من طرد عصابات داعش المجرمة من العراق، وكيف سيكون النفوذ الإيراني بالبلاد، وكيف ستكون العلاقة مع أطراف العملية السياسية ونظام المحاصصة الطائفي السياسي. إنها المعضلة الكبيرة التي تواجه المجتمع العراقي في الفترة الراهنة والقادمة.

وهذه الشخصية العراقية المستبدة يستوجب تقديمها للمحاكمة لما تسببت به سياساته ومواقفه من كوارث وجرائم مرعبة بمحافظة نينوى وكركوك والأنبار وصلاح الدين وديالى وغيرها.


11/3/2015
 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter