| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

قرطبة عدنان الظاهر

 

 

 

                                                                                     الثلاثاء 8/11/ 2011



الفلسفة الفكرية في السياسة والدولة
نيكولو ماكيافيلي (1469ـ1527)
(
Niccolo Machiavelli)
(الجزء الثاني)
2

قرطبة الظاهر 

2.4          كتاب الامير: Il Principe 1513 المضمون العام:

يتوصل مايكافيلي إلى حقيقة تجعله يكتسب الادراك والقناعة التامة وهي أن المهارة virtu والحظ fortuna هما العنصران الرئيسان للوصول إلى السلطة وتطبيعها. فقد اثبت بذلك أن ما تلعبه هاتان الصفتان في عصره وتأريخه هو خير دليل على تعزيز فكرته: استيلاء عائلة الميديشي عام 1512 على السلطة من جديد بأسلحة أجنبية وبمساعدة الفرنسيين، إستحواذ القس سيزارَ بورغيا Cesare Borgia على الحكم بواسطة والده، اي بواسطة الحظ، والذي كان يشغل منصب البابا انذاك وايضا المرتزق الكوندوتيرَ condottiere فرانتشسكو سفورتسا الذي استطاع ان ينتصر بقوة المهارة على الاعداء كي يستولي على عرش ميلانو ويكون حاكما اي دوقا عليها. يقول ماكيافيلي في الجزئين الثامن والتاسع من الكتاب: "بعضهم يكتسب السلطة عبر الحظ وبعضهم عبر الجرائم مثل اغاثوكليس طاغية سرقوسة Syracus والبعض الاخرعبر حظوة المواطنين لهم وهذا الامر يتطلب ايضا قوة المهارة والحظ." يضيف في الجزء العاشر: "لا يستطيع أحدٌ أنْ يتحدى الجميع بجهده الذاتي إلا إذا ملك المال والاتباع والجنود وحظوة المواطنين في آن واحد". "حتى القسسة أي المؤسسة الدينية، لا تستطيع الاستحواذ على اراضٍ أجنبية إلا إذا ملكت المال والجنود" (ج11). "يكون الدستور الجيد والجيش الجيد القاعدة الاساس لكل الدول، بغض النظر عن تكوينها" (ج12). "الجيش الجيد هو فقط المليشيا. لا تجوز الثقة بالمرتزقة. إن كان هؤلاء مجتهدين فإنهم غير جديرين. وإن كانوا غير مجتهدين فإنهم سيدمرون كما هو معتمد كل حكم. حتى لو إستعنت بقوى اجنبية فهم يشكلون الكارثة بالنسبة لمن إستدعاهم. هزيمتهم هي هزيمتك وانتصارهم هو عداء لك." (ج13). هم كل أمير/دوق هو تعلم فنون الحرب واتقانها: "لانها الفنون الوحيدة التي ينتظرها من يملك سلطة الامر." (ج14).

يتبين في النصف الاول من الكتاب طريقة تفكير ماكيافيلي في مقومتين للسلطة: في الجنود وفي معدات الحرب، بينما يغض النظر على الامور المالية والادارية والتي تعد من اهم اسس الحكم والسلطة. يوضح لنا هذا الاسلوب بأن ماكيافيلي يستهدف في بداية الامر كيفية إستحواذ الدوق أو الامير للسلطة بالدرجة الاولى أما السياسة فتأتي بعد الاستحواذ على السلطة.

يُدرج ماكيافيلي في الجزء الخامس عشر من كتابه فضائل الدوق ويركز على أن يكون الاخير واقعيا في إستيعاب حيثيات الامور كما تشخص هي له "verità effettuale della cosa". هذا يعني ليس شرطاً أن يتحلى الحاكم بالصفات المطلوبة وليس شرطا أن يكون ذكيا كي :" يتفادى عبء السمعة السيئة" أو يتحلى "بعقلانية ذاتية" مع كل الامور. (ج15).

على الدوق أيضا أن يبتعد عن السخاء، فإن كان سخيا عليه أن يبذل جهودا كبيرا جدا من اجل جلب المال لخزينة الدولة. عليه تحمل سمعته كبخيل من أجل كسب المال وخوض الحروب. هناك ايضا حالات استثنائية في بدايات توليه للسلطة كما فعل يوليوس قيصر عندما موّل حملته الانتخابية بسخاء أو توزيع غنائم الحروب كما فعل كل من الاسكندر المقدوني و يوليوس قيصر وكسرى. يتوجب على الدوق الاعتدال في تصرفاته لكنه في نفس الوقت عليه أن يضرب بيد من حديد في أي وقت وبلا تردد. (ج17).

هل يحق له أن يخاف أو أن يكون محبا؟ يقول الشاعر الروماني آكيوس (القرن الاول قبل الميلاد) في احد أبيات قصائده: "oderint dum metuant = يكرهون فقط عندما يخافون". يقال إن بيت الشعر هذا كان البيت المُحبب للقائد الروماني الدموي كاليغولا. مثلَ  كاليغولا، يختار ماكيافيلي الخوف لانه الطريق الاسلم لقيادة البشر كونهم اناساً: "جاحدين، متقلبين، كذابين، منافقين، جبناء و جشعين." (ج17). ولأنهم لا يلتزمون بكلامهم فعلى الدوق أن لا يلتزم بكلامه ايضا. (ج18). كما ينبغي على الدوق أن يستمر في هذا النهج ويتجاوز الرحمة والانسانية وحتى الدين من اجل فرض السلطة. لكن عليه ان يتحذر من شيئين هما: الكراهية والإحتقار (ج19) وإلا لن يفلت من المؤامرات. كان على القياصرة الرومان الاختيار ما بين رفاهية الشعب او رفاهية الجنود والاهتمام بهم، وقد اختاروا رفاهية الجنود بينما تحرص اكثرية الانظمة الاوروبية اليوم على رفاهية الشعوب.

هل على الحاكم أن يختار الحصن (ج20) أم يختار المكانة (ج21)؟ يختار الدوق الحصن عندما يخاف من الشعب اكثر من القوى الخارجية. افضل حصن هو " ألاّ تكون مكروها من قبل الشعب." (ج21). يحظى الحاكم بالمكانة عندما يقوم بعمليات مهمة. يتخذ ماكيافيلي سيرة الامير الاسباني فيرناندو الاراغوني قدوة عندما خاض الحروب ضد العرب المور تحت ذريعة الدين. في نفس الوقت يحذر ماكيافيلي الدوق من الحيادية كما يحذره ايضا من التحالفات مع الاقوياء والمتنفذين. هنا يتوجب على الامير الاستعانة بالمستشارين الكفوئين والابتعاد عن المتملقين. (ج23). لكن كيف يميز الدوق المستشار المناسب؟ المستشار المناسب هو الذي لا يملك أي مصلحة ذاتية ولا ينتظر أي مصلحة نفعية من استشاراته. لذا على الدوق أن يكشف هذا الامر من خلال تحفيزه لمستشاره وترقيته وجعله ثريا وإشراكه في كافة المحافل ذات الشأن الرفيع والنشاطات الالزامية.

تتفرد الاجزاء الثلاثة الاخيرة (ج24 ـ ج26) بوضع إيطاليا. لقد اضاع دوقات إيطاليا الحكم وكانوا هم المتسببين في ضياع السلطة لانهم لم يكونوا مجهزين بالسلاح ومكروهين من قبل الشعب أو أنهم لم يستطيعوا التغلب على القوى الكبرى. (ج24). لكن لا داعي لليأس فأن هناك قوة الحظ Fortuna وهي تتحكم نصفيا بكل تصرفاتنا. (ج25). وبسبب أزمة الوطن لا وقت للحكمة بل للتهور إذ أن ماكيافيلي يدعو عائلة الميديشي لأنقاذ إيطاليا من البرابرة. (ج26)، منتشياً بكلمات الشاعر فرانتشيسكو بيتراركا في قصيدته الشهيرة "إيطاليتي"

 mia Italia, canzone, 16:

„[…]vertú will take arms against fury and the battle will be brief, for the ancient valor is not yet dead in Italian hearts. […]”

البسالة تشهر الاسلحة في وجه الغضب..
لتكونَ المعركةُ قصيرةً
فإنَّ الشجاعة القديمة لم تمتْ بعدُ في قلوب الإيطاليين .

2.5          الحظ Fortuna والمهارة Virtu :

ليس الحظُ والمهارةُ مجرَّدَ صفتين بل تُعَدّان قوتين او سلطتين في الوجود. إنهما يحددان مصير الانسان في النصر أو الهزيمة. تنحدر كلمة virtu من اللغة الرومانية القديمة virtus وهنا نجد كلمة vir وتعني الرجل مربوطة بهذه الكلمة. نستنتج من Virtus أنَّ كلَّ ما يتمتع به الرجل هي فنون القتال. وبذلك يتوجب على الدوق ايضا كرجل أن يتقن فن القتال واستخدام معدات الحرب بمهارة.

هناك تخريج آخر لمعنى الحظ والمهارة: إنه الشهرة. الدوق الذي يشتهر بالبسالة والقوة والعظمة تعتمد كل هذه المواصفات على نجاحاته في تحقيقها وتثبيت ذاته. بالرغم من انه دائما يخاف على سمعته بتلطخها بجبروته وطغيانه إلا ان ماكيافيلي يذكر الدوق بالجريمة كطريق للوصول إلى السلطة ويتحدث عن قسوة الطاغية آغاثوكليس في الجزء الثامن: "لا يستطيع المرء أن يعتبرها كفاءة عندما يقوم أحدٌ بقتل رعيته وخيانة اصدقائه حتى لو كان المرء مجردا من الدين او من الرحمة او من الاخلاص. بهذا الحال قد يحصل المرء على السلطة لكنه يخسر بذلك الشهرة."

يعتبر ماكيافيلي virtu قوة سياسية تؤسس دولا وتربط الشعوب فيما بينها. ويعتقد ماكيافيلي أن طاقة هذه القوة انطلقت من دولة آشور عبر بلاد فارس ومن هناك إلى روما ثم الدولة الفرانكونية ثم إلى الترك ثم إلى الالمان (كتاب الخطابات Discorsi، الجزء الثاني، المقدمة). Virtu هي قوة تاريخية مؤثرة ترسخت عبر العصور لدى العديد من الشعوب والامم. تعني هذه الكلمة أيضا قوة التصميم على فعل شيء. يستذكر ماكيافيلي في هذا السياق قصة هانيبعل في حربه مع خصمه Quintus Fabuis Maximus Cunctator الذي استطاع انقاذ روما بعد تردده في خوض حرب ضد هانيبعل. لكن ما يهم ماكيافيلي هو انقاذ ايطاليا بأي شكل من الاشكال سواء بقوة التصميم أو بالتهور او بالهمة والفعالية كل هذه الصفات تعني virtu.

Virtu و Fortuna الرجل والمراة، الذكر والانثى، القوة والنعومة عاملان مكملان لبعضهما البعض. Fortuna الانثى، الهة الحظ لدى الاغريق القدماء. القوة التي تحرك مجرى التأريخ وتؤثر عليه. من يكسب الحكم من خلال الحظ عليه ان يتحرر منه ويتوجه بمهاراته إلى فنون القيادة والحرب. من يستسلم للحظ فأنه "سينجرف مع قوة التيار" (ج25) ولن يكون له اي مجال اخر في مواجهة المصير. على الانسان وبذكائه وهمته بناء القنوات والسدود قبل الطوفان. بذلك يستطيع ان يكون سيدا على Fortuna قبل ان تدركه. تتناسب Fortuna مع Virtu بالتناصف.  إذ "أنها نصفيا السيدة على كل افعالنا" (ج25). هنا ندرك أن ماكيافيلي يبتعد بفكرة المناصفة بين Virtu و Fortuna عن نظرية ارسطو التي تمنح المهارة حيزا اكبر من الحظ.

لا يوجد لدى ماكيافيلي في التاريخ بداية للحظ او نهاية له كما لا يوجد تطور نهائي إلى الافضل او الاحسن. الحظ يصيب كل انسان وينتقل من مكان إلى اخر بينما عجلة التأريخ تدور بلا تأثير عليه: "عندما انظر إلى مجرى الامور، اجد أن العالم لم يتحرك ابدا. لقد كان هناك دائما الخير كما الشر على حد سواء. الخير والشر يتغيران من دولة إلى اخرى." (كتاب الخطابات Discorsi ، الجزء الثاني، المقدمة).

هنا يتضح لنا أن عكس الحظ هو خيبة الامل او ما يقصده ماكيافيلي هو الفرصة الضائعة وهي تمثل له قصاص الفشل لمن لا ينتهز فرصة الحظ. Fortuna تصبح بذلك قوة مفروضة على الانسان، أما عليه أن ينتهزها او تنتهي حياته. بذلك تكشف لنا Fortuna أن لكل انسان طريقين: النجاح او الفشل. 

 

 

الفلسفة الفكرية في السياسة والدولة - نيكولو ماكيافيلي (1469ـ1527) (الجزء الثاني) -1
الفلسفة الفكرية في السياسة والدولة - نيكولو ماكيافيلي (1469ـ1527) (الجزء الأول)

 

 

free web counter