| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

قرطبة عدنان الظاهر

 

 

 

الخميس 26/8/ 2010



الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة
(5)

أفلاطون
(
الحلقة السادسة)

قرطبة الظاهر 

بوليتايا/ الكتاب السابع والثامن: أنظمة الحكم وإنهيار المدينة الافضل
لا يُفصِحُ أفلاطون في بوليتيا عن كيفية تناول السلطة وتقنين القوانين ووضع التشريعات اللازمة لمدينته لكنه يستمر في كتبه إلى إعلان إنهيار مدينته الافضل ويصفُ لنا كيف تُبنى الدول وتزدهرُ وتصلُ إلى قمة النهضة ثم تنهار. يذكرنا دوما بمثال المغارة والصعود التدريجي إلى الفكرة وإلى الادراك ثم العودة إلى الظلم والظلام ثم الانهيار. مثل المغارة هو مثل تكوين الدولة من حيث نظامها السياسي. لا يمثل التكوين والنهوض ثم الانهيار دورة مستمرة في تكوين الدول كما أشار إليها الكاتب بوليبيوس الذي أكد على أن الانظمة السياسية تنشأ مثل دورة الحياة. يشاركه في الفكر أيضا أرسطو وثبت ذلك فيما بعد نيكولو ميكيافيلي. أفلاطون ينهي دولته بنظام الطاغية (Tyrannis) بعد ما ابتدأها بالنظام الملكي للفلاسفة الملوك او ما اسماه ايضا بنظام الارستقراطيين. ويؤكد افلاطون بأنْ لا محال من إصلاح نظام دموي، إستبدادي، متعصب مثل نظام الطاغية إلا بعصا سحرية. بل إن نظاماً كهذا هو الانهيار ذاته للدولة. لكن من هو المسؤول عن إنهيار الدولة بالدرجة الاولى؟ أفلاطون يحمل الشعراء مسؤولية إنهيار الدولة ويقول: "إنهم مسؤولون عن كل الانهيار لانهم هم من قام بتكذيب الحقائق في كتبهم ومسرحياتهم التراجيدية والكوميدية عن ملاحم وبطولات الالهة وغيرهم ممن يمجّدِون ويعظّمون. ولانهم من اصحاب المدح للديمقراطية تارة ولنظام الطاغية والطغاة تارة اخرى فلا مكان لهم في المدينة الافضل." أفلاطون يمزج نظرية تكوين الدولة بالتراجيديا والكوميديا على شاكلة الشعراء ، كون الفلاسفة يجيدون ايضا ما يجيده الشعراء. يتنعّمُ المواطنون في بداية تكوين الدولة بالعسل والزاد وكل ملذات الحياة، بعد ذلك يواجهون لسعات حادة من بعض "الدبابير" التي يصاب بها الناس كالعدوى وتتناقل بشكل سريع حسب وصف أفلاطون. أما تراجيدية المدينة المتمثلة في إنهيارها تكمن في خطأ في حسابات الفلاسفة (ربما أخطأوا في رياضيات الكون حسب ما يعتقده كل من Geiser, 1963,1967/ Hellwig 1980/ Bloessner 1999). هل كانت المدينة الافضل مبنية على ارقام وحسابات رياضية مرتبطة بالكون كما اعتمدها المصريون القدماء في بناء اهراماتهم؟ أو أن ما يقولونه هو مجرد نقد ساخر للشعراء؟ كل ما نعلمه هو أن ما يقدمه أفلاطون في نظرية الانظمة الجيدة والسيئة هو مقترح او مثال مطروح للبشرية في إيجاد نظام مناسب لحياة الناس والاحتكام للعدالة والحكمة كما تمليها عليهم أرواحهم أو ضمائرهم. هذه الانظمة هي عبارة عن مجسم للايضاح ولا تمثل الواقع كما أكد على ذلك ماكس فيبر Max Weber.
مرة أخرى يضع أفلاطون اصناف الارواح مع طبقات المدينة الافضل في تساوٍ ويؤكد على أن الروح البشرية هي التي تؤثر في صفتها على وضع الدولة ونظامها السياسي (
كما هو مبين في الجدول الآتي):

بعد أن حاولت بعض النفوس جاهدة وأفلحتْ في تغيير النظام السياسي لمصلحتها الفئوية ، تتحول الارستقراطية كأفضل الانظمة بفضل شجاعة وجرأة الحراس والجنود والعسكر ... تتحولُ إلى نظام تيموقراطي (نظام العسكر) Timocracy. هنا تتحرر الشجاعة من العقلانية وتتحول إلى صفة تسود الروح البشرية. يطابق أفلاطون هذا النظام بنظام سبارتا العسكري. ربما كان أفلاطون معجبا بهذا النظام المتميز بالصرامة والالتزام والانضباط النفسي. لكنه في نفس الوقت لا يعدّهُ النظامَ الافضلَ بسبب نقص هذا النظام للتعليم الموسيقي وايضا بسبب طمع وفساد الطبقة العليا المالي. تتميّزُ الروحُ في ثاني أحسن النظم بإنعدام التربية الموسيقية والتي تُعتبر غذاء للروح ونقاء للذات. ينما تتطلع طبقة الاغنياء الاوليكارخية Oligarchy إلى النفوذ والسلطة بسبب الجشع والطمع والطموح إلى المزيد من المال المتطبّع في صفاتهم الروحية. بذلك تتراجع العقلانية إلى المرتبة الثالثة تليها الشجاعة في المرتبة الثانية وتترأس الملذات والطمع الدرجة الاولى في صفات البشر في هكذا نظام سياسي كما نستذكره من كتب التاريخ في اوروبا القرن الثامن عشر. حيث إزدادت طبقة الاغنياء والمتنفذين في الدولة وإستشرت الرشاوى وأعمال الفساد في فرنسا لويس السادس عشر الامر الذي أدّى إلى إندلاع الثورة الفرنسية عام 1789 والحكم على الملك بالاعدام عام 1793. نستذكر أيضا النظام الملكي العراقي الذي جسّدَ ودعّمَ الاقطاع الامر الذي زاد من حدة الطبقية الاجتماعية والذي حدا بمجموعة من الضباط للإنقضاض على هذا النظام وتأسيس نظام التيموقراطية عام 1958. يمثل النظام الاولكارخي سلطة الاغنياء كما هو الحال في عراق ما بعد 2003، غنيمة او كسب مادي لمن إستطاع أنْ يتقلّدَ مناصبَ الحكم بينما يعتبر أفلاطون النظام الديمقراطي ، وهو سلطة الفقراء ، ورقة سحب في "اليانصيب" السياسي لا غير. يسخر أفلاطون من ديمقراطية أثينا ويعتبرها نظاماً عبثياً خارج عن الانضباط الروحي والفكري وعن فلسفة القيم. ويؤكد على أن حرية الفرد وحرية التعبير يمثلان حرية الانسان في كل شيء ، أي رخصة شرعية للانفلات والعبثية. تمثل الديمقراطية في كل معانيها بالنسبة لأفلاطون الملبس الملون بشتى الالوان ويصف الديمقراطي بالإنسان ذي الشهوات المتعددة. إذ أنه يميل تارة إلى الموسيقى واللهو وتارة إلى الحرب، ثم إلى السلم وحب المال، ثم إلى العلم والعلوم. أما دساتير الانظمة الديمقراطية فتجسد بقايا دساتير الانظمة الاخرى حسب وصف أفلاطون. ربّما أثّرَ هذا الاعتقاد على الفيلسوف نتشيه Nietzsche الذي يصف المدينة الكبيرة في أعظم اعماله "هكذا تحدث زوروأشتر/ زُرادشتْ " ناعتاً إياها بال"بقرة الملونة". يمثل نظام الديمقراطية لدى أفلاطون إنهيار السلطة والقوة بشتى اشكالها. ففي البيت يفقد أولياءُ الامور سلطتهم على أبنائهم وفي المدرسة يفقد المعلم السيطرة على الطلاب وأيضا يفقد السيد سلطته على العبيد. يتصرّفُ الكِبارُ في هذا النظام كالمراهقين ويتعاملون مع الشباب بكل إنفتاح حسب رأي أفلاطون. ويمضي في نقده لهذا النظام فيقول: "حتى الحيوانات لها الحق والحرية في كل شيء. فالحصانُ والحمارُ يمضيان إلى الامام مرفوعي الرأس في الشارع وبكل حرية". تنعدم الاختصاصات في هذا النظام وكلٌّ يفعلُ ما يشاءُ وليس ما يُتقنه. لذا يمثل هذا النظامُ الفُوضى وتعددية الاعمال والمهن وتبادل المصالح النفعية فقط وإهمال الصلاحيات. أما اللغة فتنقلب رأسا على عقب في هذا النظام إذ تتحول كلمة "حياء" إلى "غباء" وكلمة "الاعتدال" إلى "البساطة" وكلمة "التوازن" إلى " حسن التهذيب" و"الوقاحة" إلى "الرجولية أو المرجلة "..إلخ.. وإذا ما قارنا هذا الوصف بوضع العراق الحالي تتقارب وجهات نظرنا من مواصفات وتوصيفات أفلاطون: فنظام العراق الحالي ما هو إلا نظام تموقرطي-أوليكارخي بثوب ديمقراطي تسوده العبثية والانهيار التام في كل مفاصل الحياة من ثقافة ورُقيٍّ وتحضّر وبناء مؤسساتي صحي وحكمة وعدالة ومساواة فعلية. كما يفتقد هذا النظام إلى الاختصاصات (الخبراء) لبناء الدولة بالشكل الصحيح والمطلوب. وأيضا تحول العديد من المفردات المفهومة إلى مفردات مفروضة من قبل الطبقة الحاكمة. فكلمة "عدالة" تحولت إلى كلمة "محسوبية" وكلمة مساواة تحولت إلى "تحاصص" أو "تزكية" والحكمة إلى "التطرف الديني" والعقلانية إلى "الانتقام" والحرية إلى "حب الفوضى" و "القانون" إلى "حكم الغاب" ...إلخ..
يُنهي أفلاطون نظريته للانظمة السياسية بوصفه لأسوأ نظامِ حكمٍ وهو حكم الطاغية. الانسان الطاغي لايملك العقل ولا الانضباط النفسي، إنه نرجسيٌّ قاسٍ ويفتقد للقدرة العملية في إدارة الحكم حسب وصف أفلاطون. يُمثلُ نظامُ الطاغية العكس من نظام العقلاء ، وهو نتاج العبثية الديمقراطية. يُجسّدُ هذا النظامُ بكل معانيه نهاية كل الانظمة بلا عودة وبلا تصحيح. إذ أن الطاغية سيحكم بالحديد والنار حتى تنهار دولته ومعها شعبها وتكون عرضة وغنيمة سهلة المنال للدول المتربصة بها. يتمتع الطاغية بالعديد من الحُرّاس وقوّات الامن الخاص به. ويعيشُ حياتهَ في خوفٍ ورعبٍ من بطش وإنتقام الاكثرية منه وهو الشعب. ليس للطاغية أصدقاءٌ أبداً بل إنه مُحاطٌ فقط بالمنتفعين. وهم الذين يحمونه ويفيدون من طغيانه وجبروته وإستحواذه على المال العام وإفقار الشعب والتمتع بالسلطة المطلقة. وهم مَنْ يُشاركه الرأي والرؤى والاهداف والفكر والجريمة. يقوم الطاغية بتنظيف مديتنه من الطبقات العلمية خلال تصفيته لهم جسديا إذ انهم يشكلون له عدوا ناقدا ومعارضا لسياساته. ثم يسحب السلاح من الشعب كي يسيطر وحده مع جلاوزته على ارواح الناس وأيضا يسحب الصلاحيات من كل المؤسسات الحية وحتى الدينية. أما روح الطاغية فهي مركّبٌ من مخلوق بشري يحمل ميزات بشرية لكنه في نفس الوقت شخصٌ شرير، جشعٌ طمّاع، بربريٌّ ووحشيٌّ يهوى ارتكاب الجرائم وممارسة الارهاب بكل اشكاله. الجنون، العظمة، الفوقية، النرجسية، الوحشية إلخ ... هذه مواصفات الطاغية لدى أفلاطون.



 

الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (5) -5
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (5) -4
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (5) -3

الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (5) -2
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (5) -1
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (4)
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (3)
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (2)
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (1)



 

free web counter