| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

قرطبة عدنان الظاهر

 

 

 

الأثنين 5/7/ 2010



الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة
(5)

أفلاطون
(
الحلقة الثالثة)

قرطبة الظاهر 

بوليتايا / الكتاب الثاني: نظرية العدالة ونظرية تكوين الدولة
يُعرِّفُ أفلاطون العدالة على أنها معيار جوهري (intrinsic value)، قيمة ذاتية أو غاية ذاتية يتمتع بها الانسان الفرد أو المجتمع كلما أصبحت في حوزته. إنها تعتمد على طموح الانسان وحكمته في إتخاذ القرار اللازم في حياته دون المساس بحق الآخر أو إيذاء الاخرين. يمضي أفلاطون في حوارات سقراط مع السفسطائيين في معرفة معنى العدالة ويبدأ بمساءلة كلاوكون (Glaukon) وهو شقيق أفلاطون:"قل لي كلاوكون، ما هي العدالة؟" يجيب كلاوكون:"أنا أعتقدُ بأنَّ العدالةَ بُنيتْ على حلٍّ وسطٍ متعثرٍ. لأن الكل في الحقيقة يريدون المنفعة. ولكي يتجاوز كل الناس هذا النوع من الطمع الذاتي، توصلوا للعدالة فأسسوا لانفسهم قواعدَ وقوانين لينظموا بذلك حياتهم وتعاملهم اليومي مع بعضهم البعض. إذاً العدالة نفسها ليست غاية ذاتية، بل انها تولد من رحم الظلم والعجز". هنا نطرح السؤال الآتي: ماذا لو فعل أحدٌ فعلته وقام بإيذاء الاخر ظلما دون أن يكتشفه أحدٌ؟ ماذا نقول عن الاعداد الهائلة من الجثث مجهولة الهوية التي تم رميها في دجلة وعلى قارعة الطرق أثناء الفلتان الامني في العراق ولِمَ أصبحت النفوسُ المغدورة مجهولة الهُويَّة؟ كلاوكون يبرر مقاله بنظرة الاخرين فيقولُ: "كل فرد يستطيع ارتكاب الظلم طالما لا توجد أنظار تراقبه او تلاحظ فعلته". يطرح كلاوكون كمثال على ذلك قصة خاتم غايغيس، أحد اول الطغاة ويروي:"كان لغايغيس خاتمٌ يجعله يختفي عن أنظار الاخرين. إستطاع هذا الطاغية بقدرة خاتمه السحري أن يقتل الملك ويجبر الملكة على خيانة زوجها المغدور. من يملك خاتم غايغيس يستطيعُ العيش بين البشر كالاله." يجيبه سقراط: "لكن الناس لا تملكه". يستمر كلاوكون ويقول:"هذا صحيح، لكنها تملك سلاحاً آخرَ وهو الايحاء أو التظاهر. لو قارّنا بين العادل والظالم لوجدنا أنَّ الظالمَ يعيشُ أفضل من العادل لان الظالم يوحي بعدله. أما العادل فهو يطبق العدالة بواقعية دون تظاهر أو تنكّر. إذاً لِمَ لا نتظاهر بالعدالة كي تكون أداة للسيطرة على المجتمع، طالما هناك عين رقيبة؟" يستقطب نيكولو ميكيافيلي هذا الحديث ويضع النقاط على الحروف في كتابه الامير حين يقول:"أنا انصح الامراء بأن لا يكونوا عادلين واقعاً بل يتظاهرون بعدالتهم." يريد أفلاطون بكتابه أن يؤكد على أنْ لا يوجد طاغية عادل بل كل طاغية يوحي بحكمه العادل. الفرق بين أفلاطون وميكيافيلي في هذا الطرح يكمن في أن أفلاطون يفند هذه النظرية ويلغيها تماما بينما يؤكد عليها ميكيافيلي ويشترطها كحالة طوارئ في نظام حكم الامير. يمضي سقراط في بحثه عن معنى العدالة ويسأل الاخ الاخر لافلاطون أدايمانتوس (Adeimantos): "قل لي، هل أنتَ توافق أخاكَ في الطرح والرأي؟" يجيب ادايمانتوس:"أنا أعتقدُ بأنَّ كلَّ انسانٍ يخشى إنتباه او أنظار الاخرين، وانا لا اعني هنا أنظار الالهة بل انظار الناس، من ارتكاب جنحة او مَظلَمة بحق الاخرين وبذلك قد يضيع المُخطئ نظرة المجتمع إليه، لماذا؟ لأن لا توجد آلهة تراقب تصرفاتنا وإن وجدت فأنها لا تهتم بالانسان، وأن وجدت واهتمت بالانسان فأنها خاضعة للتواطؤ مع كل من يقدم لها القرابين ويعبدها ليلا ونهارا ويجاهر بها." يتحدث أفلاطون بكل حرية عن عدم وجود الالهة في بوليتايا لكنه سيضع كل من لا يخالف الالهة تحت رحمة القضاء الصارم في كتاب الاحكام (nomoi). في هذا الكتاب يذكر أيضا بان عمه كريتياس سبق وأن تطرق لذكر الالهة على أن البشر تصدق بأنظار الالهة الرقيبة لتصرفات الانسان وهذا يعده هراء. ربما كتب أفلاطون هذا الحوار بين سقراط وأخويه على إثر شجار عائلي وكان أفلاطون على دراية تامة بوجهة نظر أخويه فأراد أنْ يثبت ما ذكراه له.
تعارض نظرية أفلاطون للعدالة التوجّه إلى احتساب الآراء المتعددة. العدالة لا تولد من مجرد رأي أو حتى نظرة الاخرين. ما يهم أفلاطون هو النظرة الثاقبة إلى الامور ذاتها. أفلاطون يتعامل مع ثلاثة صنوف من الاشياء: الاول هو اللهو او المتعة البريئة وهو شيء يريدهُ ويطمحُ له الانسان ، والثاني التفكير او النظر او الصحة وهذه امور يحتاجها ويطمح لها الانسان ولكن ما يهمه ايضا هو نتائجها. والاخير هي أمورٌ يُجبرُ الانسان على الطموح إليها من اجل الإفادة من نتائجها الجيدة ، على سبيل المثال تناول دواء مر. العدالة حسب إعتقاد أفلاطون هي الامر الثاني: إنها أمرٌ يطمح اليه الانسان كغاية ذاتية، أو معيار جوهري من أجل الوصول إلى النتيجة. نحن ننظر إلى الامور التي تدور في فلكنا من أجل أنْ ندركَ واقعنا ونثبت أنَّ أداركنا هو حقيقة وليس خيال. أفلاطون يؤمن بأن العدالة هي أمر قيّم جداً لكن عواقبه أو نتائجه قد تكون وخيمة أو غير عادلة. ويذكرُ هنا عملية إعدام سقراط، الرجل العادل والمواطن الذي انقضَّ عليه حكمٌ جائرٌ وغير منصف وصادر حياته وحريته وفكره. العدالة تبدأ بالروح البشرية وتناغمها مع الفكر والنظرة والمدينة. الانسان المعتدل الذي يتمتع بأعتدال الروح والفكر هو إنسان سعيد ،حسب نظرية أفلاطون. ويعكس هذا الاعتدال والتناغم الروحي على حال ووضع مدينته. فإن كان معتدلا في روحه فأنه عادلٌ في مدينته، وطالما هو عادل في تصرفه وحكمه فإنه بلا شك انسان سعيد. يقول أفلاطون: "المدينة هي الروح البشرية في أبجدياتها. فنستطيع أنْ نقرأ فيها حروف العدالة." ويعني هنا إن كانت الروح منظمة كالحروف الابجدية فإنَّ تنظيم المدينة هو صورة من الروح البشرية المنظمة.

يذكر أفلاطون ثلاث مراحل في نظرية تكوين الدولة:
1. المدينة أو الدولة الصحيّة أو "مدينة الخنازير":
يعتقد أفلاطون أن المجتمع السياسي يتكون بسبب الارادة أو الطموح البشري للبقاء على قيد الحياة. وهذا البقاء يعود أولا إلى أسباب إقتصادية نفعية. فإنَّ البشرَ يتعاضدون من أجل مصلحة كل واحد منهم النفعية. إنهم يتشاركون ويتعاونون ويقسمون العمل. المدينة تتأسس على غرار تقسيم العمل. كلٌّ يصنعُ فيها ما يُتقنه من حرفة يتميز بها عن الاخرين. يؤكد أفلاطون ، على عكس نظرية السفسطائيين ، بأن أنثروبولوجيته البشرية تثبت على أنَّ المخلوقات البشرية هي في كينونتها غير عدائية، مسالمة واجتماعية. بل اكثر من ذلك، البشر معتمدون على بعضهم البعض من أجل البقاء على قيد الحياة. إنها الغاية الاجتماعية في الإفادة من الانتاج الاقتصادي والتعاون المشترك. المدينة المتكونة حديثا تعتمد على تقديم المنتوجات الاكثر أهميةً للحياة مثل الطعام والكساء والسكن. في هذه المدينة يسكنُ أربعةُ إلى خمسة أشخاص وربما أكثر. وفيها ايضا تتعدد الحرف إذ يزاول الفلاح والمعماري وراعي الاغنام والتاجر وحائك الاصواف والصائغ وآخرون أعمالهم جنبا إلى جنب. يتوسط المدينة سوق ويتداول الناس البضاعة بالنقود. تستورد المدينة أيضا بضاعة متنوعة كما تقوم بتصدير منتوجاتها إلى المدن المجاورة. هذه هي المدينة الصحية التي توفر كل ما يحتاجه الانسان للحياة. بهذا يضع افلاطون ثلاث مقومات وحقائق هامة في فلسفته . أولا: إنه يُثبتُ أن الانسان مُذْ ولادته هو إنسان مسالم ويطمح إلى التعاون والعيش في بيئة صحية على عكس نظرية السفسطائيين الذين يؤمنون بحكم القوي على الضعيف كقانون للطبيعة. ثانيا: غاية تكوين المدينة أولا العيشُ بعدالة من خلال التعاون والتعاضد بين أهلها. تتكون المدينة بعد ذلك على غرار طموح عفويٍّ بشريٍّ أو غاية ذاتية من أجل البقاء على قيد الحياة. وثالثا: تتكون المدينة على أسس تقاسم العمل والتعاون الاقتصادي لأنَّ أفرادَها يبحثون عن ويطمحون إلى العدالة. والعدالة هي حيثُ الإفادة المادية من الناتج الفردي والعام أو ما يقالُ عنه اليوم الناتج القومي من الحِرف المُزاولة والذي يصب في مصلحة كل فرد من أفراد المدينة إذ لا يوجد في المدينة إنسانٌ بلا عمل. الكل يزاول حرفته حسب قدرته ومهارته وإختصاصه. تقسيم العمل يؤدي إلى الاختصاص. كلٌّ يعمل حسب إختصاصه حيثُ الانسان المناسب في المكان المناسب. هذا أهمُّ عناصر مقوّمات ديمومة المدينة أو الدولة الصحية حسب معتقد أفلاطون. يقاطعه أخاه ُكلاوكون فيقولُ: "المدينة التي تعتمد فقط على توفير اهم مستلزمات مواطنيها تسمى مدينة الخنازير. ولان أهاليها لا يهتمون إلا فيما ينتجون من أجل البقاء على قيد الحياة يصبحون غير صحيين ومنتفخين كالخنازير. لا فرق بينهم وبين الحيوان الذي يتبع غريزته من أجل البقاء على وجه الارض. مدينتك هذه لا يوجد فيها حياة ثقافية. إذ أنَّ أُناسها لا يعرفون بعدُ معنى التبادل الثقافي، إنهم لا يعيشون ولا يعرفون قيمة حياتهم."

2. المدينة أو الدولة المريضة الممتلئة:
يمضي كلاوكون في حديثه فيقول:" المدينة الصحية ستكثر فيها متطلبات واحتياجات الناس وهذه سوف تتعدد وتتطور وتكثر. ثم يزدادُ تعدادُ أهلها شيئا فشيئا كما تزداد مستلزماتهم وتتنوع وتتطور وتكثر ثم تخرج عن نطاقها المحدد وتضيع كل المقاييس والموازين في تكوينها وإتساعها. في هذه المدينة تظهر مستلزمات معينة باهضة الثمن تطمح مجموعة من الناس لاقتنائها لا غير. تزداد الحرف والاختصاصات مثل الاطباء والقضاة والممثلين والشعراء والعبيد والخبازين والنحاتين والنجارين وغيرهم. المدينة تكبر لكن المساحة تصغر. لذا يستوجب اجتياح دولة او مدينة مجاورة والاستحواذ على أرضها. واجتياح كهذا يستوجب تفعيل وتجهيز قوة عسكرية. إذاً سنحتاجُ إلى جنود. الدولة الممتلئة هي دولة توسعية وغير مستقرة لان مستلزمات اهاليها متعددة بلا حدود." في هذا السياق نلاحظ أن النظام السلمي في الدولة الصحية يتحول إلى نظام حربي. هنا يوضح لنا أفلاطون أنْ ليس الانسان هو من يطمح للحرب وانما الدولة التي تخرج عن نطاقها الطبيعي هي التي تخلق العداء وهي بالتالي تدفعُ الانسان إلى خوض الحرب. الارادة والطموح إلى الاكثر والحقد والعداء ليسوا من طبائع الانسان وانما المجتمع هو من يخلقها. والمجتمع المعطوب هو الذي يخلق الحروب والنزاعات التي تورد من الطمع والجشع لمستلزمات الحياة حسب نظرية أفلاطون. أما فيما يخص تقسيم العمل في المدينة الصحية يعتبره كلاوكون تبجح للعدالة. فالظلم يظهرعندما تطمح جماعة متمكنة من المجتمع لاقتناء بضائع نادرة وباهضة الثمن. المدينة العادلة التي يكسب فيها كل انسان قوته اليومي حسب امتيازاته وقدراته واختصاصاته وبعدالة تتحول إلى مدينة توسعية غير عادلة كثيرة القدرات ومتعددة الصنائع والتنافس. هكذا دولة تُسببُ نزاعات وحروباً وتهدّدُ حياة الناس، لذا يتوجّبُ تطهيرها.

3. المدينة او الدولة الطاهرة:
الدولة المريضة لا تنفع في الاستمرار والبقاء على شاكلتها ولو استمرت فإنها سوف تنهار آجلا أم عاجلا في ظل النزاعات والحروب والمشاكل الداخلية والكوارث الطبيعية التي تحل على البيئة الزراعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجغرافية والمناخية. أفلاطون يطالب بتطهير تعددية مستلزمات اهالي المدينة. يتم إصلاح المدينة المريضة من خلال تضييق صلاحياتها وحصرها فقط على التغذية و الدفاع والحكومة. هذه هي أهمُّ واجبات الدولة الثلاثة حسب نظرية أفلاطون....

 

 
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (5) -2
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (5) -1
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (4)
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (3)
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (2)
الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة (1)



 

free web counter