|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  20  / 5 / 2016                           د. حسن البياتي                        كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



نهر الفدائيين
(حكاية اسطورية من شبه جزيرة القرم)

نقلها من اللغة الروسية : أ.د. حسن البياتي

الشمس... إنها مبعث حنان للجميع. هي للفقير أغلى من كل شيء. مَن ذا الذي يلاطفه؟ مَن ذا الذي يعطف عليه؟ ليس الا الشميسة. أما الجبال فهي مكارة. ولا تشعر بالخجل بعد أن جعلت من نفسها جداراً عالياً يدرأ الرياح الباردة عن قصور الأغنياء الموسرين، التي تزايدت أعدادها عند ساحل البحر.

الغني ليس به حاجة الى الشمس. إنه يخافها، يحتجب عنها، ماشياً فوق الأرض تحت سقف محمول على عصا. ما الذي يدعوه الى الخوف منها، هي الوديعة اللطيفة التي تهب الحياة لكل شيء؟ الجبال لم تساعد الفقير الا قليلاً. الجبال تؤذي الفقير؛ فما أصعب الحياة فوق سطوحها الشاهقة حين تهب العواصف الثلجية ويشتد البرد القارص !.. إن رعاة الأغنام لم يروا يوماً من الجبال عطفاً أو حناناً.

فكم من مرة يدق فيها قلبك حتى تتمكن من الصعود الى الجبل! وكم تعاني ساقاك من صعوبة وأذى وأنت تنفق الساعات بحثاً عن حملان الآخرين!.. أما هم، الأثرياء، فيعيشون هناك، في الأسفل، ولا يشعرون بخوف أو أذى. يمتعون أنظارهم بمشاهدة الجبال ويهزون رؤوسهم من دهشة وعجب: لكم هي شاهقة!.. ما أجملها من جبال!.. في حين لا يشعر راعي الغنم إلا بالكآبة والملل فوق تلك الجبال.

عالياً، فوق منتجع جبل بابوگان ثمة مربض: زريبة أغنام. هناك كان يسكن راعٍ لم يبق له من أفراد أسرته سوى ابن واحد هو أمله وفرحته في الحياة الدنيا. كان الولد لطيف المظهر، خفيف الحركة كالضب، وجريئاً جداً لم يخشَ حتى الجبال نفسها. وكان والده العجوز يحذره دائماً، قائلاً :
- إسمع، يابني !.. إياك أن تستهين بالجبال، إنها غدارة. حيثما وقفت يمكن أن تنهار صخرة فتودي بك دون أن تسألك من تكون. عليك، ياولدي، أن تخاف الجبال. منها تنطلق ريح طالحة، وخازة... والضباب، هو الآخر، يولد في الجبال. عليك، ياولدي، أن تخشى الجبال!.

أما الولد فلم يكن يبالي بشيء. يثب من صخرة لأخرى، يساعد والده في الحفاظ على قطعان الآخرين.
نما الصبي واشتد ساعده.في حين راح الراعي العجوز يواصل سعيه في الأرض وقلبه يدق دقات خافتة. كان يرعى – العمر كله – قطيع الغير، يحرس – حياته كلها – ثروة الآخرين، يجدّ ساعياً في البحث عن حمل ما أفلت من بين حملان القطيع ويرتقي الجبال بصعوبة وعناء، متلفاً بذلك صحته.

وفجاة تصل – حتى الى هناك، الى أعالي الجبال – تلك الأنباء السريعة عن انتهاء سلطة الأثرياء الموسرين. لقد خلا القصر، في أسفل الجبل، من ساكنيه وساد الصمت والهدوء فيه... ان أرض القرم الفتية بانتظار سيد، مالك جديد، ولماذا تنتظره؟ إنه هاهنا، بين ظهرانينا: هو إما ذلك الذي يعمل هنالك عند السفح مزارعاً في حقول الكرم، أو هذا الذي يكد هاهنا فوق الجبال، وليكن حتى راعي الغنم العجوز نفسه، بيد انه هو السيد والمالك الحقيقي.

أنّى له، هو الرجل الطاعن في السن، أن يفهم ذلك؟ وراح يفكر: (( يستحيل أن أصبح أنا نفسي المالكَ لمثل هذا القطيع الكبير!.. وما حاجتي اليه؟ ماذا أصنع به؟! ))

من أين للراعي العجوز أن يدرك أنه قادر الآن على الهبوط من أعالي الجبال الى أسفل؟ لقد وهب كل شيء للجبال.
إختفى الابن، ذهب الى الناس في أسفل الجبل كي يستطلع الحقيقة. وعاد حاملاً معه حقيقة صارمة جداً: لكي تصبح سيد الأرض كلها، عليك أن تقاتل ثانية. وبقدرما استطاع، على قدر ما عرف، حدّث الولد أباه العجوز، قائلاً:
- أنا راحل، سوف أقاتل ليصبح الرعاة الآخرون أيضاً أسياداً على الأرض كلها. وشيء آخر أود أن أخبرك به، يا أبي، هو أنني ماضٍ الآن الى اولئك الناس الأشداء الأقوياء البسلاء، الذين يطلقون على أنفسهم كلمة مدهشة رائعة هي الأنصار، الفدائيون. لا تغضب عليّ، يا أبي، سوف أساعدك. لسوف ترى، لن اتخلى عنك أبداً. ما عليك إلا أن تحافظ على قطيع الشياه بكامله. لقد كنت تبحث، فيما مضى، عن الحمل الذي انفصل عن القطيع، خوفاً من السيد المالك، أما الآن فابحث عنه لنفسك، لنا جميعاً. لا استطيع أن أخبرك بكل شيء، يا أبي، سوى أنني ماضٍ اليهم، سوف أقاتل في صفوفهم من أجل سعادتنا.

مرت الأيام... ومن خلل الضباب، في الزوبعة الثلجية، سمع الراعي العجوز باذنه المعتادة وقع خطى حذرة... إنها ليست خطى ولده، ثمة أقدام عديدة. من القادم؟ الخطى تقترب أكثر فاكثر. وفجأة يسمع صوتاً هادئاً أليفاً:
- سلاماً، والدي ! ها قد وصلت. جاء معي أصدقاء طيبون. آه لو تعلم، يا أبي، لقد صنعنا – نحن انفسنا – في الأرض زوبعة. ها أنني قد فهمتُ الآن ماذا تعني كلمة فدائيين. وغصّ الكوخ الضيق الصغير بعدد من الرجال. إنهم الفدائيون.

وردّ الراعي العجوز بصوت هادئ مألوف:
- الآن ستتناولون الطعام.

وراح يطعم أناساً غرباء عليه. ولماذا غرباء؟ مادام ولده جاء بهم، يعني انهم ناسه. وأخذوا يستوضحون العجوز عن المسارب والمسالك، عن الحواجز والتراكمات الصخرية، عن الحفر والتجاويف التي يمكن الاختباء فيها من الزمهرير والقيظ، عن أي أصوات طيور يمكن سماعها هنا وماذا تعني؟ أثمة من طيور تستطيع أن تحذر قبل وقوع الخطر؟... فأجابهم العجوز عن أسئلتهم كلها. وأطلعهم على أي ممرات يمكن السير فيها وأي لا يجوز. وكيف يجب وضع الصخور وترتيبها بحيث ينقض غضبها على رؤوس الأعداء.

لقد أعجبت كلمات العجوز أولئك القادمين من أسفل الجبل، حيث عبر لهم عن غضب الصخور تعبيراً جميلاً. بيد أن غضب الصخر لا وجود له بمعزل عن الانسان.
- فلتجعل قلبك مثل جلمود صخر- قال الراعي العجوز – ليكن أصم تجاه الشفقة، لا وقت للشفقة الآن. لم يشفقوا علينا!
وأراهم كفيه المعروقتين، أصابعه المعوجة التي لا تشبه أصابع البشر، بل هي أقرب شبهاً ببعض الجذور النباتية.
- كنت أشعر بالخوف أن أمسك بكفيّ هاتين رأس ولدي، يوم كان صغيراً.

وانصرف الفدائيون. دلهم على النهر، والماء فيه أنقى ما يكون، أنفع ما يكون، فأثنى الفدائيون على النهر، وقفوا بعض حين عند ناصيته. وأفاض لهم العجوز في الحديث عنه: كيف ان ماءه بارد صيفاً، دافئ شتاء، صافٍ وجريء :
- انظروا أية صخور قد جلاها النهر، شاقاً لنفسه من خلالها مسيلاً. كان بإمكانه أن يظل ماكثاً في الأعالي قرناً بكامله، لكنه آثر أن ينطلق مسرعاً نحو الناس. فالناس لا يستطيعون أن يحيوا بلا ماء. لقد قاوم الصخور وصارع الجليد، بلا خوف. مثل هذا النهر لن يكبل بالصقيع ، لن يوصد بالأقفال: مثل هذا الماء ضروري للبشر.

جعل النهر يحث مياهه، مهمهماً، مغمغماً... ثم مضى يعدو مسرعاً نحو الناس. لقد طار من فرح حين سمع حديث الراعي. صار أكثر سعة وأوفر غمراً في تدفقه. شكراً لك، ايها العجوز، على كلماتك الطيبة التي قلتها في الثناء عليّ . والآن هم بحاجة اليّ هناك، في الأسفل.

وكانت المساعدة التي قدمها النهر للفدائيين، مقابل حبهم له وثنائهم عليه، عظيمة جداً وثمينة جداً. إن النسوة كلهن تحت، في حين كان الرجال فوق الجبل. وهاهم الأعداء قد مالوا من كل صوب، يريدون أن يستلبوا السعادة من الناس. السبل الى الجبال معزولة كلها.

والفدائيون ظلوا بلا خبز. إنهم جالسون عند ضفة النهر يبث بعضهم شكواه لبعض. وفجأة بدأ النهر يتمتم بشيء ما. كيف السبيل الى فهمه؟ لكن ابن الراعي العجوز، الذي مضى يطلب بعض الخبز للفدائيين، قد فهم – هو وحده – كل شيء. وراح يشير على النسوة، قائلاً:
- ما عليكن سوى أن تضعن الخبز على أوراق الكرنب ثم تتركن الأوراق فوق سطح الماء. ولسوف يقوم النهر، بعدئذ، بواجبه.
فأجبنه أنْ كفاك تحكي حكايات. لكنه عاد يقول لهن:
- إتركن علبة من الملح على ورقة كرنب ثم أودعنها النهر.

وذلك ما فعلته النسوة: لقد وضعن فوق أوراق الكرنب خبزاً وملحاً. وها قد مرت على البشرية آلاف عديدة من السنين لم يشاهد فيها الناس أنّ نهراً يجري من أسفل الى أعلى وهو يحمل، بعناية وحذر، خبزاً وملحاً. لكنّ هذا النهر مضى حاملاً الخبز والملابس والأسلحة أيضاً. أجل، لقد حملها جميعاً.

نزل الراعي العجوز من الجبال الى أسفل. حدثوه بما شاهدوا من معجزات النهر، فلم تأخذه الدهشة. قال لهم: كنت أثق به دائماً. إنه نهر ذو ماء عذب نقي. ولن يقف ما صنعه عند هذا الحد. إنه لقادر على صنع كل شيء.

وذلكم ما حصل فعلاً:
كان العجوز يأتي كل يوم الى معسكر الفدائيين. يهتدي اليهم أينما وجدوا وتحت أيتما صخرة إختبأوا. ذهب في أحد الأيام اليهم، غير أنه لم يجد ولده هناك. كما ان الكثيرين منهم لم يكونوا هناك.

وسأل العجوز بصوت هادئ :
- أين هم؟
أراد البعض، وهم يشيحون عنه حائرين مرتبكين، أن يخبروه بخلاف الحقيقة، أن يقولوا له انهم في أسفل الجبل، وقد تأخروا لأمرما عن المجيء.. لكن النهر وحده همس له بالحقيقة: (( لا تصدق، ياجدي، لقد قتلوا، لم يعد لهم من وجود! )).

هل تعتقدون أن العجوز قد استسلم للبكاء؟ كلا! لقد كان يعرف الدافع النبيل الذي سعى ولده اليه. فمثل هذا الفؤاد القوي، مثل هذا القلب البار ما كان في وسعه أن يحيا حياة مغايرة. كلا، لم يذرف الوالد أية دمعة، لكنه حين وصل الى ناصية النهر خاطبه ملتمساً بلهجة شيخ طاعن في السن:
- عسير عليك، أيها النهر!.. لقد حملت الكثير – الكثير الى أعلى الجبل. أرجوك أن تسمع ما أطلبه منك. لا تسمح لهم بأن ينتهكوا حرمة جسد ولدي العزيز... إسرقه وأتني به، لكي أودعه الثرى. سوف أغرس على ضريحه شجيرة ورد. اشفق عليّ، أنا العجوز، لأقدم لك المزيد من عبارات الشكر والإمتنان. فأنت ايضاً بك حاجة الى كلمات اللطف والحنان...

فتعالت همهمات النهر وغمغماته وراح يبحث عما سأله الراعي العجوز. وأخذ الناس يقولون ان النهر بدأ يسوده القلق والإضطراب. وما علموا انه كان في ذلك الحين يسعى باحثاً عن الولد. لقد وجده فاحتواه بعناية في أحضان مياهه. ثم حمله، بعدئذ، خلسة ورويداً الى أعلى، الى أعلى... وأودعه عند قدمي الراعي.

لم يبكِ الوالد العجوز. علام البكاء؟ إن اسم ابنه مدون في ثرى الأرض وفي مياه النهر. أمثال هؤلاء ليسوا أمواتاً ! لسوف تحبك حولهم الأساطير والحكايات وترتل الأناشيد والأغنيات. ولن يذكرهم أحد بسوء.

أودع العجوز ابنه الثرى. نبتت في ذلك الموضع شجيرة ورد مهيبة بهية. كل من مر بها – راكباً او راجلاً – كان يهتف من عجب: (آه، ما أبدعها!).. لكنْ، لم يكن الجميع يعرفون أي مليح بهي كان الولد نفسه.

منذ زمن بعيد والراعي العجوز راقد تحت التراب، أما إبنه فلم يزل حياً يرزق.

 

 لندن في 20/05/2016




 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter