|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  30  / 3 / 2016                                 فخري كريم                               كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

في عزلة "ناظم علي" وتواريه: هل من معنىً للوداع في زمن الانطفاء الفجائعي؟

فخري كريم
(موقع الناس)


كان الوقت في زمننا ذاك مشدود الأعصاب مضغوطاً، ويتستّر في حركته بما كنا نشركه معنا في مشاويرنا السرية، ونحن نتنقل من بيت في زقاقٍ ملمومٍ على نفسه من شِدّة وعسر أهليه الى زاوية في شارعٍ يَحتفي بالمتطفّلين عليه دون أن يُفصِح عن هوياتهم أو يتلصص عليهم وهم يتبادلون الأوراق الملفوفة بعناية أو يلفظون كلمة السرّ إشارة تعارفهم.

كان الوقت مشدوداً، متوتراً وهو يتحرك بين الدقائق والثواني كأنه يريد أن نُسرع الخُطى، بعد كلّ موعدٍ ومهمة، تجنباً من وشاية أو كمينٍ أو صدفة عمياء تُوقعنا في أسر عسس النظام وحبائل أنصاره. وما أن نبتعد عن أماكن الشبهة حتى يتسلل الاسترخاء الى أصابعنا وتُبطئ الدقائق وتختفي الثواني، كما لو أنها تمنحنا بعض الرحابة لنتفرّغ لمتعنا الصغيرة المتوارية وراء شغف كل واحدٍ منّا بما في الحياة من مسرّاتٍ ولهوٍ، تغيب عن أعين الذين امتنعت أعينهم عن رؤية تلك المسرّات البهيجة، وهم يمرّون عليها كل يوم.

كانت تلك المسرات، وقد عبرنا مساحات الخطر التي كنا نتجاوزها في ذلك الزمن الجميل، بعض احتفاءٍ بعطاءات الطبيعة، وبما أضفاه الخلق الإنساني على تكويناتها وأنساقها وألوانها. في أرجاء بغداد كانت سنادين الزهور تنثر أريج الورد على اختلاف مواسمها، وتطفح جدران بيوتها المتواضعة بالجهنّمي و"المتسلّق". ولم تكن حتى محلاتها "المستورة" تخلو من أصص في مكان ما فوق جدرانها او شجيراتٍ تأخذ أماكن لها في زاوية شاغرة في موازاة تلك الجدران. وحين كان البعض منا مكتوباً عليه ان يتشارك قلق النشاط السري مع مثقفٍ ميسور الحال او رجل أعمال او مقاول أوتاجرٍ أو موظف كبيرٍ، أو ابنٍ "خان طبقته" فانحاز خارج دائرة ولاءات أسرته، وكم كان هذا شائعاً يومذاك، كنا نُبطئ الخطوَ ونحن في الطريق الى بيوتهم، لننعم البصر بآيات الجمال، عمارةً وأشكالاً هندسية تحيط بها من كل صوب صنوف الورود والأزهار، نستنشق بكل ما أوتينا من قوة سحر الرازقي والجوري والگاردينيا والجهنمي والياسمين والشبّوي والقرنفل، ونحن نجتاز شارع الأميرات، أو نتنقل في شوارع كرادة مريم الفسيحة، والأحياء الجديدة المتمددة من المسبح والكرادة خارج الى مشارف الجادرية.
كلّ ما نمر به أو يمر بنا يفوح منه أريج الرياحين، وتملأ عيوننا إشراقة الصبايا والكريمات بخفرٍ مُزدهٍ بنفسه.

أين نحن في زمن الانطفاء والكرب الثقيل اليوم من تلك المتع التي تُسحر العين دون خَدَشٍ ، وتُنعشُ القلب وقد تدفق الدم منه مفعماً بما طاب له من عطرٍ فوّاحٍ وهواءٍ مُشبعٍ برحيق الحياة الذي لم يتسمم بما صار يلوّث عقولنا وأفئدتنا، ويطفئ جذوة الروح والإقبال على المسرّات الصغيرة المتوارية عن أنظارنا لكثرة ما أصابها من كدر الأوجاع التي تحيطها كل يوم؟

اليوم تحولت متعنا تلك التي كانت منبع بهجتنا الى سوادٍ مظلم أينما ولّينا وجوهنا، وتحتفي جدران بغداد بصور الشهداء المغدورين المتلفّعين حتى قبل موتهم بالسواد وكأنهم يحملون أقدار نهايتهم وساعة رحيلهم، ويقدّمون العزاء لمن تبقى منا، رثاءً لصبرنا على مكاره من تسببوا بموتهم، ويجعلون منا "موتى أحياء"!

في لحظة عبور العراق الى زمن الانطفاء والفجيعة صبيحة ٨ شباط الأسود ، أطلّ من إذاعة موسكو العربية "ناظم علي" وهو يعلن أن غربان الحرس القومي الذين سفكوا دماء أشرف الناس لن يمروا، وأنّ الحزب الشيوعي سيظل حياً يفتح لهم أبواب جهنم. لم يكن الناس قد ألِفوا صاحب هذا الاسم الحركي، ولم يعرف غير رفاقه الأقربين أنّ ناظم علي هي كُنية عبد السلام الناصري الذي صار على رأس الحزب بعد تصفية سلام عادل ورفاقه.

من علامات ذلك الزمن، أنك لم تكن تميز بين الطوائف والأديان والأعراق، وكان عيباً أن تسأل عن تلك الهويات الفرعية. ربما اعتاد الناس على البحث عن هوية أخرى، فيٌثار التساؤل عن غريبٍ وافد أهو شيوعي أو قومي أو بعثي.

ومن مصادفات الحياة أن يتحدر الناصري من "عشيرة البو ناصر" التي يتحدر منها الجلاد الذي استباح دم العراقيين وأنهك وطنهم. وذِكْر هذا الانحدار يؤشر الى ذلك الزمن حيث الانتماء الوطني والفكري أعاد الاصطفاف الاجتماعي على أساس الانحيازات الفكرية والطبقية والانتماء الوطني، مجرداً من لوثة انتماءات اليوم الطائفية والمذهبية.

وُلد عبد السلام الناصري عام ١٩٢٣ وهاجر "أبو نصير" مع عائلته الى بغداد ثم استقرت في البصرة . لم يُكمل أبو ميلاد دراسته، فمارس الاشتغال بالطباعة مع شقيقه عبد الرزاق، والتحق بالحزب الشيوعي عام ١٩٤١، واعتقل عام ١٩٤٨ ليظل سجيناً حتى ١٩٥٨ لتُطلق ثورة ١٤ تموز سراحه مع رعيل السجناء الآخرين .

ظل يلتقط رزقه بصمت، متنقلاً من معملٍ للجلود الى غيره، ليفترش بعد الحصار زاوية في سوق الشورجة بيّاعاً للفافون، تاركاً في البيت زوجته لتنكبَّ على خياطة الأحزمة. وفي أوقاتٍ متفاوتة كان يتردد على مطبعة الأديب يُصحّح مطبوعاتها.

عند عودتي من المنفى بعد سقوط الدكتاتور بحثتُ عنه كما عن أصدقاء آخرين حتى أهتديت إليه. جاءوا به الى البيت وهو يرتدي بدلة تآكلت بفعل الزمن وحذاءً تظهر فيه الثقوب، وهو يُجيب على تساؤلاتي:"مستورة أبو نبيل" .

قلتُ له إنّ الرئيس مام جلال يريد ان يهديه سيارة. ذُعر ما ان سمع ذلك وسارع قائلاً : أرجوك ما أريد . سيقاني قوية.. احمني من الفضيحة. كيف أُفسر هذا إذا ما سألني الجيران : من أين لك هذا ..؟!

تردد في قبول مبلغٍ مالي قائلاً: مستورة ، وعائلتي مقتنعة بعيشتها، ولا نريد أن تُفسدنا الرفاهية بعد ان قاومنا كل هذا العمر!
قلت له: هذا حقٌّ لك علينا مثل كل من ضحّى. أجاب بأريحية: متى كانت تضحياتنا تُقابل بثمن؟!

ألححتُ عليه بالسفر الى بيروت للعلاج ، ولمّا عاد فوجئتُ بكريمته التي خُلقت كما كان يريدها أن تكون عليه، نقيّة ، مفعمةً بالصدق والأمانة، مُكدّةً، مُجدّةً، وهي تذهب الى مؤسسة المدى وتسلّم الدكتورة غادة العاملي مظروفاً يحتوي على مالٍ وقائمة بالمصروفات، قالت انه تبقّى من مبلغ العلاج والسفر. وعندما قيل لها أن تبقيه لمتابعة العلاج، رفضت ميلاد بإصرار الاحتفاظ بالمبلغ، وخلّفت وراءها غادة وهي تبكي وتردد السؤال عليّ: هل جماعتكم هكذا فعلاً… ؟!
ذاك كان زمننا الجميل، وما نعيش فيه اليوم زمنٌ ينطفئ بحسرة وتتوارى فيه أحزاننا الدفينة.

سلاماً عبد السلام الناصري، أبا نصير، وأنت تُطلّ على مجايليك من ذاك الزمن الجميل المتواري، خجلاً من هذا السواد الذي يحجب عنّا بهجة الشمس وفرحة القمر.
 

المدى
العدد (3611) 30/3/2016
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter