|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  17  / 4 / 2016                                 فخري كريم                               كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

"الـمــرعـــال" فــي مـسـرح لا مـعـقــولـــنــا..

فخري كريم
(موقع الناس)


عندما يعجز الإنسان عن تفسير ظاهرة حياتيّة، يرجع بذاكرته إلى المأثور في التراث، لعله يعثـر فيه عن ضالته. وليس مأثور التراث وحده ما يشكّل مصدراً في مثل هذه الحالة، فالقاضي في دولٍ عريقة مثل الولايات الأميركية والمملكة المتحدة وغيرهما، يعتمد على أحكام سابقة لإصدار حكمٍ في حالة مشابهة لا موادّ قانونيّة لها يستند إليها.

والمملكة المتحدة ليس فيها دستور يجري الاستناد إليه في إدارة شؤون المملكة التي كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وإنما مورثٌ في المعالجات والمواقف والأحكام والقوانين تحوّلت إلى ما يشبه الدستور.

ومصيبة الدول المستحدثة التي تشبه لا دولتنا المتضعضعة، إنها لا تحترم دستورها، ولا تحتكم إلى الموروث أيضاً.

وفي بيئة اللامعقول التي صرنا نعيش فيها، وجدتُ من المعقول أن نسوح في بعض مورثاتنا التي قد تصلح أو تنطبق على حالتنا التي انحدرنا إليها، ما دام دستورنا وقوانينا انقلبت علينا ولم تعد لها من أهميّة.

وفي موروثنا السياسي "مراعيل"، قفزت إلى صدارة المشهد في غفلة من الزمن وطار صيتها في الآفاق، وتحولت الى سابقة تنفع للذكرى، إنْ نفعتِ الذكرى، ومنها ذاك الذي انقلب على نفسه، وكان رئيساً للوزراء وأصبح رئيسا للجمهورية وكالة في غياب الرئيس، ونسيَ بسبب ارتباكه وقلقه أنّ الدبابات التي أمرها بالتحرك باتجاه القصر، كانت تستهدف الانقلاب عليه فهرب..!

وفي موروثنا القضائي، يُحكى أنّ شكوى رُفعت على بقّالٍ، في تسعينيات القرن الماضي، بتهمة إهانة مقام الرئيس (صدام حسين). وحين سأل القاضي عن وجه الإهانة، ذكر المشتكي أنه اشترى تمراً من البقال فوضعه هذا في ورقة جريدة فيها صورة صدام فالتصق التمر بالصورة وشوّهها.! وكتب القاضي الذي عُرف بضلوعه في علم القضاء ونزوعه نحو العدالة، إلى الضابط الذي رفع الشكوى :
جاء في حديث نبوي شريف "أنّ النخلة عمّتنا"، ولمّا كانت النخلة عمّة النبي فهي مقدّسةٌ، وما تطرحه من ثمار فهو مقدّس إيضاً، ولفُّ صورة الرئيس بالثمار المقدّسة يُضفي عليه تقديساً، واستناداً إلى ذلك قرّرنا الإفراج عنه.

وفي الموروث السوري مقاربة، تكاد تشبه في بعض جوانبها، فصلاً من مسرح اللامعقول الذي تتردّد أصداؤه في بغداد هذه الأيام. وهي مأخوذة من ذاكرة عجوزٍ عزّ عليها ما انتهت إليه عنزتها الوحيدة التي ائتمنت راعي القرية عليها، فقد صادف أن "مرعال" القطيع بيع من قبل صاحبه، فلم يكن من الراعي الحائر إلّا أن يضع الجرس في عنق عنزة العجوز، ولم تكن العنزة تصلح لذلك لنحولها وضعفها، والمرعال، وهو قائد القطيع، في الوضع الطبيعي يقع عليه الاختيار من قبل الراعي من بين أضخم الخرفان وأشدّهم بأساً وأكبرهم قرناً ليقوى على حمل الجرس والسير به بمهابة وقوّة شكيمة، فيجعل القطيع رهن إشارته يسير خلفه بانتظام، تحرسه الكلاب من كلّ اتجاه. وشاء سوء حظ العجوز أن تتعثر عنزتها وتتمايل ببطء، ولم يعد لجرسها من صوت، فتشتّت القطيع في كل اتجاه، وحارت الكلاب أتُحَرِّض المرعال المسكين على الجري بالعضّ والقفز عليه، أم تلاحق الأغنام المتفرقة في كل اتجاه؟
وفي حُمّى الفوضى، صار القطيع نهباً للذئاب السائبة..

معاذ الله أنْ أُشبّه ما يجري في العملية السياسية هذه الأيام بما تعكسه موروثاتنا، فالفصول في مسرحية اللامعقول لم تكتمل بعد، لكن نهاياتها مفتوحة على كل احتمال، والأدوار فيها محكومة هي الأخرى بالمفاهيم المعتمدة في نصوص اللامعقول. وليس حِكراً على مشعان الجبوري مثلاً أن يتقمّص دور رئيس "مجلس قيادة الثورة" مع احتمالات تبدّل الأدوار وانكشاف المستور وتغيّر المواقف كما عكسه البيان الذي سجله وأذاعه ليلة أول من أمس، وهو يحذّر سليم الجبوري من الدخول إلى البرلمان بحراسته الرئاسية، فهو لم يعد سوى عضو في المجلس، يمكنه أن يدخل بسيارته عبر بوابة البرلمان مثل الرئيس الأسبق المشهداني. ويمضي في البيان الأول قائلاً: سنمضي إلى النهاية في ما قرّرناه من الإطاحة بالرئاسات الثلاث، وإكمال عملية الإصلاح..!

ألم يعد هذا الوطن مدعاةً للخيبة والخجل بعد أن صار مشعان قائده؟ يتحالف معه كل من ظهر في صدارة المسرح يوم اقتحام البرلمان والاعتصام فيه، وهم تنويعات مختارة من بدر والأحرار والفضيلة واتحاد القوى والقائمة الوطنية والمجلس والعصائب والكرد المتمرّدين، وفي واجهتهم "دعوة المالكي" ودولة قانونه، تُحيط بهم حنان وعالية!

اللهمّ قد ضاقت بي السبل وصرتُ في حيرة من أمري..
أيجوز لي في دوّامة مسرحنا اللامعقول هذا أنْ أقول متجرّعاً السمّ الزعاف: أشهدُ أنّي أستقيل على كراهةٍ من هذا الوطن..!
 

المدى
العدد (3626) 17/4/2016
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter