|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  15  / 4 / 2016                                 د. أكرم هواس                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الحياة المدنية... اشكالية..؟؟!!

د. اكرم هواس *
(موقع الناس)

خلال أسبوع حضرت مناسبتين للاحتفال السلبي... احتفال بمناسبة ذكرى أليمة في تاريخ العراق الحديث... الجينوسايد بحق مجموعة بشرية كانت تتحمل الكثير والكثير جداً لكي تبني وطنا كانت تؤمن به مستقراً و حضن أمان ( يمكن مراجعة مقالتي "الفيليون و مفهوم الجينوسايد القانوني" نيسان/ ابريل 2014) .. لكن لأسباب نحاول ان نناقشها تحولت "الحياة المطمئنة" الى اشكالية في التطور الاجتماعي السياسي.... المناسبة الثانية كانت قبل ايام قليلة في كوبنهاغن ... اما الاولى فكانت يوم الثالث من الشهر الجاري وقد كتبت يومها هذا البوست في موقعي على الفيسبوك :

"اليوم انعقدت الندوة الرئيسية التي جئت بشأنها الى ستوكهولم ... الندوة كانت بمناسبة الذكرى السنوية لقتل و تشريد آلاف العائلات من الكورد الفيليين من العراق سنوات 88-1980..

المشاركون في الندوة كانوا الدكتور كاظم حبيب و قد جاء من برلين في ألمانيا والدكتور عقيل الناصري بالاضافة الى الدكتور مجيد جعفر (صاحب الدعوة)... النقاشات دارت حول الوضع في العراق والدروس المستفادة في سبيل بناء مجتمع يتمتع فيه الجميع بالامان... مداخلتي كانت بعنوان (الحياة المدنية) وملخصها هو ان الفيليين كانوا يمثلون نموذجا من التفاعل المجتمعي المدني وقد جاء قتلهم وتشريدهم مقدمة للقضاء على الحياة المدنية التي حل محلها المنهج الميليشياوي والذي نشهد اثره الان في القتل والدمار دون أهداف واضحة ...

قلت ان المسؤولية في ذلك التطور الخطير لا يتحمله النظام السابق لوحده بل يتحمله الجميع حتى تلك القوى التي تدّعي الديمقراطية والتقدمية وحقوق الانسان... لماذا لم يفكر احد من هذه القوى ان اقتلاع الفيليين بهذا الشكل الرهيب كان يمثل تحديا للجميع خاصة ان هؤلاء الفيليين لم يمثلوا تحدياً لسلطة الدولة او النظام القائم بل كان تفاعلهم يمثل ركنا أساسيا في الهوية العراقية في بعدها المدني لان هؤلاء الفيليين رغم عددهم القليل نسبة الى العدد الاجمالي للعراقيين في بغداد الا انهم كانوا يلعبون دورا هاما و واضحا ًفي مختلف انواع النشاطات الرياضية و الفنية و الثقافية على مستوى العراق كله... نعم العديد من لاعبي كرة القدم في الأندية العراقية وفي المنتخب الوطني على مدى عقود كانوا من الفيليين... اما الفنانين و الموسيقيين و الرسامين و الخطاطين و الشعراء و الآدباء فكان هناك الكثير ... لماذا لم ينبري احد للدفاع عن هذا النمط من الحياة الحياة المدنية... لماذا يتصارخ الجميع الان بعد ان تحولت بغداد الى قرية كبيرة هائلة ليس فيها اي نظام اجتماعي او اقتصادي او ثقافي..؟؟.. قلت ايضا انه طالما ان صناعة السلاح منتعشة في العالم فان اي كلام عن حقوق الانسان يعتبر تهرباً من الواقع..."...

أهمية الموضوع هي ان القضية لا تتعلق بنموذج منفرد و إنما بنماذج متعددة لكنها تتشارك بنمط متقارب وهو ان المجموعات البشرية التي تمتلك جذورا في تاريخ العراق القديم كانت تعمل بجد و تتحمل المهانة و الذل احيانا من اصحاب السلطة ... ليس بدافع الوطنية كمفهوم سياسي وإنما بدافع بناء المجتمع الذي تنتمي اليه هذه المجموعات على أساس مفهوم تقليدي وهو ان المجتمع هو حاضنة طبيعية لحياة مدنية يمارس فيها الجميع حياتهم اليومية بكل ما تحمل ذلك من مفارقات واحلام وطموحات وتقاطعات وربما صراعات ومصالح مختلفة ... لكن ايضا هناك فعاليات تحمل طابعاً تضامنياً ... كان هناك فقراء وأغنياء وأفكار وجدالات ...الخ... لكن كل ذلك يشكل حياة مدنية بحيث يتشارك الجميع آخذاً وعطاء بالمفهوم القديم للحياة...

الذي حصل ان السلطة... لأسباب عديدة بعضها سياسي و بعضها الاخر يرتبط بظهور اولغاركيات عائلية حزبية والاستفادة من هيمنتها على السلطة ... قد أزاحت المجموعات التقليدية من التواصل البناء للمجتمع.... ولكن هذه الإزاحة قد تركت فراغاً لم تستطيع الاولغاركيات في تعويضها... هل كان ذلك بسبب الطبيعة البدوية لاهل السلطة و اوليغاكياتها (يمكن العودة الى قضية صراع البداوة والمدنية في أفكار ابن خلدون والتي أعاد إنتاجها علي الوردي)... ام ان انماطاً جديدة من الانتاج القبلي للتطور الاجتماعي هو الذي ساد ...؟؟.. شخصيا أميل الى التفسير الثاني حيث برزت في العقدين الآخرين أفكار و نظريات يمكن وضعها في إطارين متعاضدين و هما "القبلية الحديثة
The New Tribalism" و "القبلية المتجددة The Neo-Tribalism"... ملخص النظريتين هو انه رغم بناء الدولة الحديثة و تطور البناءات الاجتماعية فيها الا ان المنظومات السياسية... احزاب و منظمات ...الخ... ظلت محتفظة بروح القبلية في هيكلياتها بشكل عام ولكن بشكل خاص في علاقاتها مع الأفراد والجماعات غير المنتمية اليها...

شخصياً اعتقد ان الحياة السياسية السائدة في الدولة الحديثة في العالم العربي و الاسلامي يسّيرها تآلف غريب بين الأنماط التقليدية القديمة .... التراث السياسي وسلوكيات التطور الاجتماعي القديم .... من جهة ومن جهة ثانية أنماط مشوشة مما جلبه الاستعمار معه وكذلك مما يستورده أهل الحكم و النخب السياسية والاقتصادية والثقافية من المجتمعات الاخرى  خاصة المجتمعات الغربية.... ولعل وجود هذه الاولغاركيات التي تدعي امتلاك علوم الادارة و ثقافة الانتاج دون ان ان تثبت غير الفساد و الاستبداد و الفشل في خلق اية ارضية تنموية يمثل اشكالية معرفية في ذاته... بحيث ان الباحث يقف مشدوهاً ولا يستطيع مقارنة هذ الاولغاركيات بأية نماذج تاريخية سابقة... فهي ليست إقطاعيات ... او آغاوات... قديمة... كما انها ليست رأسماليات لانها لا تنتج شيئا.... ولا تسمح حتى للفقراء بالانتاج ولو كان هذا الانتاج شيئا بسيطاً.... وبالتالي فهي لا تسمح للحياة ان تستمر رغم انها تريد السيطرة على الاسواق مثلاً ... اي ان هذه الوليغاركيات لا تفهم حتى المعادلة البسيطة في ان ديمومة السوق تحتاج الى نوع من الانتاج او الاستيراد و كذلك تحتاج الى من يمتلك القدرة الشرائية الضرورية لتصريف او بيع المنتجات...

الاشكالية الثانية تتعلق بطبيعة الأفكار و السلوكيات .... اي الأهداف و الطموحات... التي تروج لها الأحزاب و التنظيمات التي ترفع شعارات الديمقراطية و حقوق الإنسان على المستوى الكوني (هكذا).... هذه الأحزاب و المنظمات لم تستطع ان تستقرأ النتائج الرهيبة لتعطيل دور المجموعات العاملة (الأقليات و منهم الصابئة المندائيين و الاثوريين و الكلدان و الايزيديين ... و.... و الفيليين.... الخ ... مع احترامنا للجميع..).. و رغم بعض الاصوات التي تمادت ضد ظلم الحكومة ... الا ان هذه الأحزاب و المنظمات قد فشلت في الدفاع عن الطبيعة المدنية لحياة الأقليات و دورها الكبير و شبه الحاسم في تطور الحياة الاجتماعية قياساً مع دور المجموعات السلطوية التي كانت تفتقر الى ابسط أسس و مباديء الحياة المدنية و التي ترتكز الى ضرورة تنازل الفرد عن الكثير من خصوصياته حتىى يستطيع ان يتعايش مع الآخرين ...

الان هناك كلام كثير بانه يتم تفريغ الشرق الأوسط من المسيحيين ... هذا الكلام صحيح و نحترمه ... لكنه يرتكز الى نظرة اختزالية لسببين مهمين وهما...

اولا... ان هذا التفريغ يشمل كل الأقليات تقريبا و هي بدأت منذ سنوات طويلة و لعل نموذج الفيليين ... موضوع هذه المقالة.... يمثل تجربة رهيبة...

ثانيا... ان المجموعات التي تحل في المدن بدلا عن الأقليات التاريخية قد حولت المدن الى قرى كبيرة لا تتمتع بأية صفة مدنية ... وبالمناسبة فان بغداد التي كانت يوماً عاصمة العلم و الثقافة في العالم .... ليست الوحيدة بين المدن الكبرى في الشرق الأوسط التي حل فيها الدمار حتى اصبحت أكوام القمامة فيها تنافس اعلى العمارات الشاهقة...

هناك اشكالية ثالثة مرتبطة بهذا المشهد الرهيب وهو ان البعض قد حول مناسبة الاحتفال بالجينوسايد الى بكائيات (و مع كل الاحترام لها) فإنها لا تنتج شيئاً غير المزيد من تشويش تطور البناءات الاجتماعية ... اما البعض الاخر من "المثقفين... أفراداً و احزاباً وتنظيمات" فإنها تختار التهرب الى أبراجها العاجية واعتبار كل الدمار من صنع الإسلاميين (هكذا دون اي تحليل علمي للواقع الاجتماعي)... اصحاب هذه النظرية "العظيمة" يبدو انهم لا يفرقون بين التطور الاجتماعي والسياسي الذي ينتج تفسيرات تعتمد نمطها التاريخي اكثر من القدرة على دراسة واستيعاب المفاهيم الاخلاقية التي تتجاوز المحليات والواقع المادي ...

في النهاية فان اي كلام عن تغيير و إصلاح لابد ان برتكز أساسا الى ضرورة تغيير مسار التطور... من فكرة الحشد و الميليشياوية و تكفير الاخر بناء على هذا او ذاك من التأويلات و التفسيرات.... الى قبول الاخر و التعايش معه ... و من التركيز على السلاح والقتال... الى التركيز على اعادة تأهيل الاراضي الزراعية و بناء مصانع و لو كانت صغيرة... و اهم من كل هذا هو تغيير أولويات الصراع و إرضاخ الاخر... الى العمل و التنمية حيث ان المجتمعات تمتلك الكثير من مقومات بناء اليات انتاج و علاقات طبيعية بين الناس و زرع فكرة التعايش السلمي و أهمية العمل و جمالية الانتاج و الأحلام و الطموح ..

لكن الإصلاح عند البعض هو مجرد اعادة انتاج للفوضى حيث يختلط الحابل بالنابل... و تفقد الأفكار و القيم قيمها و تصبح حقوق الانسان شعاراً للجميع و لا ندري ان كنّا ندافع عن حقوق العاملين في شركات تصنيع السلاح و أصحابها في حياة "كريمة" و مرهفة... ام في حقوق أؤلئك الفقراء و المحرومين الذي تقع القنابل التي المصانع على رؤوسهم دون ان يعرفوا لماذا...؟؟؟!!!.. (سأكتب لاحقا مقالة عن الإصلاح و مآلاته)...

وسط هذه الدوامة يجد البعض مهربا في نصب خيام البكائيات و من هول ما تذرف من الدموع و ما تهبط من كلمات الرثاء حتى ننسى ان الدموع قد تكون دموع فرح اصحاب السلطة تخلط في صورتها الفوضوية مع دموع الأمهات الثكالى والجوعى المشردين.. ثم ترفع الخيام و الى اللقاء في مناسبة قادمة... انها لحظة انتصار تعادل الف عام من الانكسار... عند البعض... اما الخاسرون فلا شيء يشفع لهم ولا من أحد في الارض....

الاحتفال بالمناسبة لا ينبغي ان يكون دعوة للانتقام و كره الآخرين ... بل محطة لاستدراك الدروس و بناء نهج افضل للتطور الاجتماعي البناء في التعايش السلمي ... هذا ما اؤمن به ... و هذا ما افتتحت به كلمتي في استوكهولم و كررتها في كوبنهاغن...

حبي للجميع ...

 

* اكاديمي عراقي - الدنمارك

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter