|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  11  / 1 / 2018                                                                                                                         آداب

 
 

 

قصّة قصيرة مترجمة

الأخوان بانياسكو

إيتالو كالفينو
ترجمة - هلال حميد
(موقع الناس)

أنا أمكث خارج البيت أشهر وأشهر ، واحيانا سنوات . أعود بين أونة وأخرى ، وبيتي هو دائما على قمة الرابية .. ضارب الى الحمرة بسبب ملاط قديم يجعله ملموحا من بعيد ، بين اشجار الزيتون الكثيفة كالدخان .

انه بيت عتيق ، مع عقود حجرية وأقواس شبيهة بالجسور ، وجدران مزينة برموز ماسونية ، قد وضعت من قبل والديّ لترويع وطرد الرهبان .

في البيت يوجد أخي .. الذي هو دائما يطوف في انحاء العالم ، هو كذلك . لكنه غالبا ما يعود الى البيت ، أكثر مني . وحين أعود أجده دائما هنالك .. اما هو حين يعود يشرع في الحال في التنقيب حواليه ، الى ان يعثر على أدوات الصيد ، والصدرية المصنوعة من الكتان ، والسروال المبطن بالجلد ، ولايختار الغليون الذي يسحب جيدا ، و يدخن .

- آوه . - يقول لي عندما أصل ، وربما مرّت سنوات بدون ان نلتقي ، وهو لم يكن ليتوقع عودتي .
- هلو ، - أقول أنا ، وهذا ليس لأن ثمة حزازة فيما بيننا - ولو كنا التقينا في مدينة اخرى ، لكنا قد احتفلنا بذلك ، وربما لأعطى كل منا ضربة خفيفة على كتف الاخر .. انظر .. انظر ! لقلنا لبعضنا البعض - ولكن ، لأن الوضع في بيتنا يختلف .. ففي بيتنا جرت العادة هكذا دائما .

حينئذ ندخل سوية الى البيت .. مع الايدي في الجيوب .. متحيّرين بعض الشىء ، وعلى حين غرة ينطلق أخي في الكلام ، وكأنما كنا قد قطعنا حديثا قبل قليل .

- ليلة البارحة ، - يقول ، - ابن جياتشنتا أراد أن يوقع نفسه في الهلاك .
- أن تطلق النار عليه ، كان يجب عليك ، - أقول أنا ، حتى وإن كنت لا أعرف المسألة التي يتحدث عنها . ومع ذلك ، كانت لدينا رغبة في التساؤل .. من أين نأتي .. وأى مهنة نعمل .. وإن كنا نكسب .. وما اذا كان لدينا زوجات أو أطفال ، ولكن ثمة وقت لنتحدث عن كل ذلك فيما بعد ، الآن سيكون ذلك مخالفا للتقاليد .

- هل تعلم أن ليلة الجمعة هي نوبتنا للحصول على الماء من البئر الطويل ، - يقول هو .
- الجمعة ليلا ، هي ، أقول أنا مؤكدا ، بأني لم اتذكرها ، وربما ما كنت قد تذكرتها ابدا .
- هل تظن بأننا كل ليلة جمعة يكون لدينا الماء في أرضنا ؟ ! - يقول . - انهم يدوّروه الى أرضهم ، ما لم يمكث احد ما هنالك لعمل الحراسة . في الليلة الفارطة أمرّ من هناك ، حوالى منتصف الليل ، وأرى أحدهم يركض مع المعزقة : كان مجرى الماء محولا باتجاه أرض جياتشنتا .

- أن تطلق النار عليهم ، كان يجب عليك ! - أقول أنا ، وكنت استشيط غضبا : منذ أشهر وأشهر قد نسيت ان ثمة مسألة تتعلق بالماء من البئر الطويل ، وخلال اسبوع سوف أرحل وسأعود على نسيان كل ذلك ، وحتى الآن أنا محمل بالغضب من اجل الماء الذي سرقوه منّا في تلكم الاشهر الفارطة والذي سيسرقوه منا في الاشهر القادمة .

في هذه الاثناء أطوف في السلالم والغرف ، مع أخي ورائي ينفخ في الغليون ، في السلالم والغرف المعلقة فيها بنادق قديمة وجديدة ومطرات لحشو البارود وقرون للصيد ورؤوس الشموا .. السلالم والغرف تسودها رائحة انغلاق قوية ورائحة العث والعفن ، مع الرموز الماسونية بدلا من الصلبان .

أخي يحكي لي عما سرقته عائلة مانينتي : من المحاصيل التالفة .. وماعز الغير الذي يسرح في مروجنا .. ومن غابتنا حيث يذهب اليها كل سكان الوادي لقطع الاخشاب .. وأنا أمضي مستخرجا من الخزانة الجبّة والحذاء الفرساني والصدرية ذات الجيوب الطويلة ، وأعود لأضع فيها الخراطيش ، وانضو عني ملابس المدينة المبعجة ، وأشاهد نفسي في المرايا .. مزهوا متأنقا في ملابس الجلد والكتان .

بعد ذلك بقليل نمضي هنالك تحت في الممرات الوعرة مع البنادق ذات الفوهتين .. لنطلق بعض العيارات النارية على ماهو طائر متحرك أو ساكن مستقر . وما ان خطونا مائة خطوة حتى بلغتنا حصباء صغيرة على الرقبة .. سددت بقوة .. تبدو بواسطة مقلاع . وبدلا من أن نلتفت في الحال ، تظاهرنا بعدم الاكتراث .. واصلنا السير محدقين البصر في جدار مزرعة الكروم . من بين الاوراق الرمادية غلى اثر السلفات يطل وجه صبي صغير .. وجه مدور قاني الحمرة .. مع النمش المحتشد تحت العينين .. مثل خوخة ناضجة مأكولة من قبل حشرات المنّة .

- أما والله .. حتى الاطفال يحرضونهم علينا ! - أقول ، واندفع في صب اللعنات عليه .
هو يطل برأسه ثانية ، ويطلق صفير الاستهزاء والاستهجان بلسانه فيلوذ بالفرار . أخي يمضي الى بوابة الكروم ويأخذ في مطاردته بين صفوف الاشجار .. دائسا البذور المزروعة .. معي أنا وراءه .. الى ان نضعه في المنتصف. عندئذ أخي يقبض عليه من شعره .. وأنا من أذنيه ؛ أنا أعلم باني أؤلمه ، وأشعر اني كلما أؤلمه كلما ازداد غضبا .. ثم نصرخ :
- خذ .. هذا لك وحدك .. والباقي سيكون لوالدك الذي ارسلك .
الصبي يبكي ، يغضّ أصبعي ويهرب ؛ ثمة امرأة متشحة بالسواد تظهر من بين صفوف الاشجار ، تخفي رأسه في طيات المريول .. وتندفع بالصياح علينا .. مهيجة قبضتها :
-  جبناء ! تتحاملون على الاطفال ! دائما نفس المستبدين أنتم . ولكن ستجدون من يهتم بأمركم ، كونوا على يقين !
لكننا مضينا في حال سبيلنا ، هازين اكتافنا لأنه على النساء لاينبغي الإجابة .
و نحن نمشي نلتقي باثنين ، محملان بالحزم .. منحنيان بزاوية مستقيمة من الثقل .
- هيه .. انتما الاثنان ، - نوقفهما ، - من أين اخذتما الخشب ؟
- حيثما يحلو لنا ، - يقولان وهما يحاولان المضي قدما .
- إذا اخذتماه من غابتنا فسنلزمكما على اعادته الى مكانه ، وأكثر من ذلك على الاشجار سنعلقكما ، انتما الاخران .
هذان يضعان الحمولة على الجدار الصغير .. يحدقان فينا وهما يتصببان عرقا من تحت قلنسوة الجراب التي تحمي رأسيهما وكتفيهما.
- نحن لا نعلم انها ملككم او ليست ملككم . نحن لا نعرفكم .
في الواقع ، يبدو انهما حديثي العهد بالمكان .. ربما عاطلان ، شرعا في جمع الحطب . ومع ذلك هذه ذريعة كافية للتعارف فيما بيننا.

- نحن عائلة بانياسكي . أما سمعتم بها ؟ .
- نحن لا نعلم شيئا عن ايما احد .. لقد جمعنا الخشب من غابة البلدية .
-  لا يمكن قطع الاخشاب من غابة البلدية .. سنبلغ الشرطة ونضعكم في السجن .
- ايه .ايه .. هيا ، نحن لا نعرف من أنتم ، - ثم يثب أحدهما ، - تتصورون ان الجميع لا يعرفكم .. دائما مستعدين لجلب المتاعب للناس الفقراء ! ولكن في يوم ما سينتهي كل ذلك ! .
-  أنا أبدأ :- سينتهي ماذا ؟ هيه ؟ .. بعد ذلك نقرر بعدم التعمق اكثر في الامر .. ابتعدنا ونحن نتبادل اللعنات .

الآن أخي وأنا ، حينما نكون في بعض البلدات الاخرى ، نثرثر مع سواق الترام ، ومع بائعي الجرائد ، نمرر عقب السيجارة لمن يطلبها منا ، ونطلب عقب السيجارة ممن يمررها لنا . ههنا الوضع يختلف ، ههنا كنا دائما هكذا ، نتجول مع البندقية ونثير الصخب في كل مكان .

في مقصف معبر الوادي يوجد مقر للشيوعيين : في الخارج وضعت لوحة للاعلانات مع قصاصات الجرائد وبعض الكتابات الملصقة بالدبابيس . نحن نمر ونرى قصيدة معلقة تقول : ان السادة لا يتغيرون أبدا .. واولئك الذين كانوا مستبدين في الامس هم اخوة لأولئك الذين يستبدون اليوم . كلمة (( اخوة )) تم التأكيد عليها لمغزاها المزدوج ضدنا . ونحن نكتب على الورقة : " جبناء وكذابين " ، ثم نوقع : " بانياسكو جاكمو و بانياسكو ميكيله " .

ومع ذلك عندما نكون خارج البيت نأكل الحساء على الطاولات الباردة المشمعة حيث يأكل الرجال الاخرين الذين يعملون بعيدا عن البيت ، نحفر بأظافرنا في لب الخبز الرمادي والموحل ؛ عندئذ يتكلم احدهم ،الجالس جوارنا عن الاشياء الموجودة في الجريدة ، ونحن كذلك نقول : - ما يزال ثمة مستبدين في هذا العالم ! .. ولكن في يوم ما ستمضي الامور على نحو أفضل . - الآن ، ههنا ، سوف لن يتغير شىء ؛ ههنا ثمة أراضي لا تعطي ثمارها ، ههنا عائلة مانينتي تسرق ، ههنا العمال ينامون اثناء العمل ، والناس عندما نمرّ يبصقون وراءنا لأننا لا نريد العمل في أرضنا ويقولون - اننا لا نجيد عمل شىء سوى استغلال الاخرين .

نصل الى مكان حيث ينبغي ان يكون فيه ممر الحمام البرّي ، نبحث عن مكانين للانتظار . ولكن سرعان ما نحس بالتعب من المكوث دونما حركة وأخي يشير لي الى بيت تتواجد فيه بعض الشقيقات ، ويصفر لواحدة منهن التي هي عشيقته . هي تنزل : لها صدر عريض وسيقان كثيفة الشعر .

- انظري فيما اذا يمكن لأختك آديلينا ان تأتي هي ايضا ، اذ يوجد معي أخي ميكيله ، - يقول لها هو .
هي تعود الى البيت وانا استعلم من أخي ،
- أهي جميلة ؟ أهي حلوة ؟ ..
وبعد فترة صمت يقول : - انها سمينة . هي موافقة .

تخرج الفتاتان ، كانت صاحبتي بدينة وضخمة حقا ، ولظهيرة كتلك الظهيرة يمكن ان تكون مناسبة جدا . في بادىء الامر اختلقتا بعض الاعذار والقصص : بانهما لا تستطيعان الخروج معنا خوفا من عداء سكان الوادي لهما ، لكننا نقول : ألا يكونا بلهاوات وسنأخذهما الى ذلك الحقل ، في المكان الذي ننتظر فيه مرور الحمام البري . وبين حين واخر يطلق اخي بعض العيارات ؛ فهو اعتاد الذهاب الى الصيد بصحبة الفتاة . وبعد فترة وجيزة وأنا مع آديلينا ، أشعر بوصول رشقة حصى ما بين الرأس والرقبة . المح الصبي ذو النمش يلوذ بالفرار ، ولكن لم تكن لي رغبة في ملاحقته ورحت اصب عليه اللعنات .

وفي الاخير قالت احداهما انه يتوجب عليهما الذهاب الى المباركة .
- إنصرفا عنا .. ولا تصادفن مرة اخرى معنا ، - قلنا لهما .
بعد ذلك يشرح لي اخي بانهما عاهرتان مشهورتان في كل الوادي ، وتخشيان ان يراهما الشبان معنا فيثير ذلك غضبهم عندئذ لن يذهبوا معهما الى الفراش . وأنا أصرخ في الريح : - عاهرات ! - ولكن في قرارة نفسي شعرت بالاسف من ان لا يأتي معنا غير الفتاتان الاكثر دعارة في كل الوادي .

في الساحة المجاورة للكنيسة احتشد سكان الوادي في انتظار المباركة .
عندئذ يفسحون لنا الطريق وهم ينظرون الينا نظرة شزراء ، حتى الكاهن ، لأننا نحن آل بانياسكو منذ ثلاثة اجيال لم نذهب الى القداس.
وفيما نحن نمضي قدما ، شعرنا بشىء ما يسقط عن كثب .
- الصبي ! - نصرخ .. وكنا على وشك الانطلاق لمطاردته . ولكن ، كان مجرد زعرورة فاسدة عفنة انفصلت من احد الاغصان. عندئذ تابعنا السير ونحن نضرب الحصى برؤوس اقدامنا .


 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter