|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  8  / 3 / 2019                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

أنا وشاكر حسن آل سعيد 
تعليم رهيف بين المرض والصحة 

سهيل سامي نادر
(موقع الناس)

سوف أصف أشياء أكثر تحديداً، تخصني ومرتبطة بتجربة شاكر حسن، ففي واحدة من إخفاقاتي العمانية في الاتصال بغائبين أحبهم انتبهت إلى أنني أنظر بعين لاتني تنزلق إلى أماكن غير مسكونة، وكنت أدير النظر فيها كما لو أنني أبحث عن شيء ضائع، أو كأنني أنتظر شبحاً يلبد في تلك الظلمة يظهر لي ويحدثني. وأتذكر شاكر حسن: إنها نظراته نفسها في عامي 2000 أو 2001، كان يراني ونظراته تخترقني، تنزلق عني، تذهب خلفي، تخترق الحائط الذي ورائي، كنت أراه يبتعد ويتوغل، ثم يلتقي شبحا ويتحدث معه حديثاً صامتاً. 

في تلك الأيام كان شاكر يتوغل في الشيخوخة والمرض والصمت. وفي لحظات مرضي أنا رحت أستعيد شاكر حسن بوصفي واحدا من أقرانه، وبوصفه المريض العراقي المثالي الذي جعل من مرضه واحداً من قواه الإبداعية. والمريض الذي كان يكرر إخفاقه في الاتصال بالغائبين من دون كلل، المريض الذي لا يشفى أبداً، ولا يريد الشفاء، المتحول ما بين المرض والصحة، اللاعب بينهما، المنتفع الشجاع من إمكاناتهما، والذي ما عاد مريضاً ولا صحيحاً، لأنه أضحى متخصصاً في صدوع القلب البشري من دون أن يشفي قلبه أو يشفينا. 

لقد مثل شاكر جدراننا المصدوعة في اللحظة التي كانت صدوعنا الاجتماعية تتوسع ، وكان قبل ذلك قد استبدل الفاعلين ، فبدلاً من فاعل مشخص أضحى الفاعل غائباً، وكلما ازداد تجرداً كان يشرك الصبغة في مواد مختلفة ثقيلة الوزن، وكان هذا المعادل الواقعي يقيم توازناً بين التجريد وفعل المطاردة العاطفي خلف آثار الغائبين. الصدع تحول إلى كسر عميق وشق يجري كالنهر. وفي تلك الأيام كانت السياسة نفسها تستبدل القيم، المجتمع يذبح لمصلحة فرد واحد. الرسم لا يتحدث في السياسة لكن يغير خطته، يلعب لحساب الغائب.

أي جدران مصدوعة ! إنها صدوعنا لو تدرون، صدوعكم، صدوع قلب، صدوع مجتمع، صدوع أرواح، وصدوع الذكاء غير العادي، المنسحب، المتألم، الحزين في الصحراء العراقية المنبسطة على الجهل والعنف والتفاهة والفاشية. 

لقد أنقذني شاكر حسن دائماً من دون أن يدري، ولقد تابعت عمله الفني باسم النقد (هذا النقد الذي أكرهه اليوم تماماً) من دون أن أدري أنني أتابع مرضي وشفائي. من دون أن أدري كان بطل روايتي (التل) هو شاكر حسن نفسه لكن ليس هذا الذي يصدّق روايته عن نفسه كما كان يفعل شاكر بما يثير غيظي أحياناً، بل شاكر الذي أعدت صياغته بوصفه راوية لا يأخذ مأخذ الجد ما يرويه حتى وإن كانت روايته قابلة للتصديق. راوية كان يهدّ ما يبنيه، ويشك في أحزانه وأفراحه، شاكر الآخر الذي يفضل الشك على سلامة النية والإيمان المخادع والمصالحة. وشاكر الذي يسعى للشوق والاتصال والملامسة ليس لكي يكرر الأيقون بل لكي يتلف أثره من دون أسف ولا رجوع ماسحاً آثاره خلفه، ثم شاكر الآخر المبتلى بالمرض من دون أن يصدق مرضه أو الشفاء منه، مفضلاً عليها حالة نقاهة دائمة مرعبة! 

في ليلة عمانية رائعة بدأت أكتب عن شاكر حسن من خلال علاقتي به ابتداءً من مرضه ومطلع شيخوخته الواهنة الجليلة. وكنت أفكر بإمكانية موته كإمكانية موتي أنا نفسي. كان يعنيني - بالتأكيد – أن أقدم شروحاً إضافية عن عمله الفني، لكنني حقيقة كنت أقاوم بشاكر مرضي وخذلان تجاربي في استدعاء الغائبين. وكنت قد توصلت قبل هذا التاريخ إلى استنتاجات لم أحدّدها بوضوح بشأن الشروخ التي صورها على الجدران أو خطوط الكسور التي تمتد في لوحاته، إذ رأيت فيها خطوط هرب وحرية نمتلك جميعاً نظائرها ومعداتها، وتمثلاتها وأشواقها ، إلا أننا لسبب من الأسباب لا نمدها إلى حيث يجب أن نمدها : جروحنا وحرياتنا.

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter