|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  8  / 12 / 2014                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

فلم " بيشمركة مرة أخرى" … دعوة للتوثيق المنهجي

د. محمد البندر

فلم " بيشمركة مرة أخرى" مبادرة توثيقية لفريق تلفزيوني من قناة العربية لتصوير فلم وثائقي عن حياة الأنصار والنصيرات الشيوعيين العراقيين في فترة الكفاح في الثمانينات ضم كل من أبي ميسون، وردا البيلاتي، ومقاتل البيشمركة السابق أبو نهران والنصيرة جمانة وطاقم التصوير الذين تجشموا عناء الوصول الى تلك الأصقاع الجبلية البعيدة لتسليط بعض من الضوء على مسيرة كفاح البيشمركة الشيوعيين التي دخلت حيز النسيان إلا في ذاكرة من عاشوها ، وعرفوا معاناتها من الشيوعيين العراقيين الذين اختاروا بمحض إرادتهم مواجهة الدولة البعثية أسوة بباقي فصائل البيشمركة الكردية المتمركزة في أقاصي المناطق الجبال البعيدة ، وفي ظروف جغرافية صعبة لم يعتادها شيوعيو المناطق الجنوبية في الجبال، وعاشوها في ظل ظروف حياة بدائية تفتقر الى أبسط متطلبات الحياة اليومية للإنسان العادي وتحملوها بصبر وشجاعة.

لم تضع مخرجة الفلم هدفاً لها أن تركزعلى الجانب العسكري، أو المهمات العسكرية القتالية لفصيل البيشمركة في تلك المنطقة النائية بل اختارت مدخلاً آخراً للفلم متمثلاً في التركيز على تفاصيل الحياة اليومية لفصيل من البيشمركة، وتسليط الضوء على مفردات الحياة اليومية للأنصار، وطبيعة العلاقات الإجتماعية السائدة بين الرفاق والرفيقات في المعسكرات والمخيمات. وكيف استطاعوا التأقلم مع الظروف الجغرافية والمناخية للبيئة الجديدة.

ما قدمه الفلم كان قليلاَ جداً بحق الأنصار الشيوعيين وتاريخها الطويل الذي يعود الى الستينات من القرن السابق.ولهذه الحركة الأنصارية الشيوعية سماتها الخاصة التي تميزها عن بقية الفصائل الكردستانية الأخرى، منها، أنها ، وبخلاف الفصائل الأخرى، تتجاوز النظرة القبلية المتخلفة للمرأة، وكان الشيوعيون سبّاقون الى منحها دوراً مساوياً للرجل في المهمات والواجبات ، وسارت عديد من فصائل كردية معروفة مثل اليكتي لاحقاً على هذه التقليد الشيوعي العراقي الجميل وأصبح مثلاً يُقتاد به من قبلهم، حيث اعتدنا أن نرى مقاطع فيديو لفتيات كرديات بملابس قتالية إسوة بالرجال. ومن الميزات الأخرى هي الرؤية العراقية الأوسع في المدى الميداني من رؤية الأحزاب الكردية التي ترتفع فيها حدة العقيرة القومية ، وتذهب أحياناً بعيداً فيها في فهم العلاقة مع السلطة المركزية على أنها صراع قومي بين العرب والأكراد، في حين يأخذ الشيوعيون العراق ككيان واحد لافرق في أهداف تحريره بين الجنوب والشمال. وفي الوقت الذي عرفت فيه الحركة الكردية المسلحة انعطافات سياسية، ومفاوضات مع الحكومة وانقسامات سياسية داخلية حادة حافظ الشيوعيون على استقلالية نهجهم السياسي ، ووقفوا ضد محاولات جعل الشيوعيين بندقية للإيجار تنتقل من كتف الى آخر حسب الطلب، ودفعوا لأجل ذلك الثمن الغالي من حياة المئات من الرفاق والرفيقات في مجزرة بشت آشان البشعة عام 1983 وغيرها.

السمة الأخرى لتكتيكات البيشمركة الشيوعيين العسكرية أنها لم تتحدد باقتحام الربايا العسكرية وقتل جنود عراقيين مغلوبين على أمرهم من الجنوب بل تتميز بالتخطيط والتنفيذ لعمليات نوعية جريئة في المدن والقصبات الكردية، وتستهدف مفاصل مهمة من أدوات ومرتكزات النظام، وتحتفظ الذاكرة العراقية بذكرى معركة جبل هندرين عام 1966 الشهيرة التي قادها ونفذها البيشمركة الشيوعيون ، وكان من نتائجها توقيع اتفاقية 29 حزيران بين القيادة الكردية والحكومة العراقية برئاسة عبد الرحمن البزاز آنذاك نصت على الإعتراف بشئ من الحقوق القومية للشعب الكردي ، وأصدار جريدة التآخي للحزب الديمقراطي الكردستاني لصالح اليوسفي وفتح مقرات له في بغداد والمحافظات ، ونصت الإتفاقية على البدء في الإنفتاح السياسي وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين بمن فيهم الشيوعيين فأطلق َ سراح السجناء الأكراد فقط أما الشيوعيين فلا ، وهذه هي قسمتهم دائماً.. يصنعون النصر لكنهم يخرجون من المولد بلا حمص!

ومن العمليات النوعية الجريئة هي عملية احتلال مانكيش من قبل فصائل الأنصار الشيوعيين في 13/5/1985 حين دخلت السرية الثالثة للأنصار التي يقودها الرفيق وردا أوديشو (ملازم ابو ميسون) ، ثم السرية الأولى التي يقودها الرفيق سلام العبلي (ملازم نعمان) في حين تأخرت السرية السابعة ولم تستطع دخول البلدة حتى اليوم الأخير 17/5/1985. بقيت مانكيش تحت سيطرة البيشمركة لثلاثة ايام غنموا خلالها معدات عسكرية كبيرة منها ثلاث مدرعات نُقلت إحداها إلى مقر الفوج الثالث...

أبرز الفلم من جانب آخر جمال المنطقة الطبيعي الخلاب وتأثيره في استثارة مشاعر الخيال والرقة ، ولمسات الرومانسية في الشعر والعاطفة، وكأن هذه المنطقة خُلقت للجمال والتأمل والتعبد ولنسج الشعر واستلهام اللوحات الفنية المعبرة والجمال والإسترخاء ، واستثارة كل ما في الإنسان من رغبات في الرقة والعفوية والجمال أن تكون مسرحاً لأعمال عنف وقتال. فمجرى عين للماء الرقراق يمكن أن يتحول في لحظة مفاجئة الى هدف عسكري تنهال عليه حمم الموت من كل جانب.

وبالنسبة للمشاركين في العمل الإنصاري من الأنصار الشيوعيين كان الإحساس بجمال المنطقة الطبيعي في ذلك الوقت المتعة الوحيدة المتوفرة في ظروف العمل الأنصاري الشاق الذي لايسمح بالتأمل الفني المجرد..

كانت استعادة تلك اللحظات من حياة الأنصار من التجوال في وهاد الجبال وأصقاعها وتسلق الدروب الجبلية بخفة الماعز، كما كان يحلو لأبي ميسون أن يفعل في رحلة لإستعادة الذاكرة في تلك الأصقاع بالسهلة والهينة مطلقاً ، وما كان هؤلاء الأنصار والنصيرات القادمين من الجنوب خصوصاً للعيش في جبال كردستان، البيئة الجبلية التي لم يلدوا فيها أحلام رومانسية وردية ، بل رغبة في العطاء والتضحية والتحدي لتحقيق "حلم" ، كما عبر عنه أبو نهران ، وهو الحلم الذي راود أجيال من الشيوعيين، وكثير منهم خطفه الموت دون أن يراه ، ألا وهو تحقيق نظام العدالة الإجتماعية والمساواة الذي ثقفوا به الشعب جيلاً بعد جيل، وحاولوا تطبيقه في حياتهم الشخصية وعلاقتهم بالناس ، وبأفراد أسرهم، وفي الحياة الحزبية، لكن الموت، واستشهاد الشيوعيين في سبيله هو أقرب مفردة تحققت فيه. وكانت حياة النصيرات مسيرة مكملة لحياة الأنصار من الرجال فكان الحرمان ، أو القتل ، أو الوقوع في الأسر، أو الطعن من الخلف، ومواجهة عدو غير متكافئ مفردات لحياة يومية شاقة عرفتها النصيرات قبل الأنصار من الرجال سواء بسواء ، حملن السلاح، ولبسن ملابس الرجال بما فيها جمدانية الرأس وقاتلن في المعارك بشراسة، وكسرن كل التصورات النمطية عن المرأة العراقية وحياتها المحصورة بين المخدع والمطبخ وتربية الأطفال فقط ، ولم تكن النسوة الكرديات في القرى الكردية التي تزورها مفارز الأنصار للمبيت يصدقن أن هذه المفارز تضم نسوة مقاتلات شيوعيات، كما روته جمانة!. هذه كانت رسالة الشيوعييات الدائمة : تحدي وكسر التقاليد الإجتماعية المتحجرة الى النهاية حتى انتصار صوت العقل. كان حلم النصيرات المتواضع أن يكون لهن مأوى ً خاص بهن، كما ذكرت النصيرة جمانة.

ما نقله الفلم عن حياة الأنصار في فترة الثمانينات كان توثيقاً ورسالة مؤثرة ينبغي المضي بها من أجل هدف آخر لا يقل أهمية وجوهرية وهو وقف السرقة المنظمة للتاريخ العراقي المعاصر، من قبل دولة الإسلام السياسي التي تستخدم أوراق عفى عليها الدهر وشَرِب ضد الشيوعيين الذين علّموا الناس ألف باء النضال السياسي منذ نشأة الدولة العراقية المعاصرة، ورووا أرض العراق بالدم من شماله الى جنوبه ، ويشوهون مبادئهم ويصفونهم بالملاحدة والكفار الذين يسعون الى هدم بيضة الدين وهدر القيم الإجتماعية.

ورغم كل النكسات الخطيرة التي مر بها خطاب الحزب السياسي والآيديولوجي فإنه بمجمله يبقى خطاباً تنويرياً يملك أهمية متجددة حتى في وقتنا الراهن حيث يكون العقل العراقي بحاجة ماسة له وقد عاد الى الوراء، وغرق في ظلام دامس من الجهل والأمية والطائفية كما كان عليه في عقود ماقبل ظهور المسرح والسينما والفن والكتب والصحف والمدارس في العراق.المشروع التنويري الشيوعي هو مشروع سياسي واضح، علمي ومتطور يخاطب العقول وينميها في مواجهة مشروع الدولة الإسلامية الذي وضع لبناته حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين في مصر ، وأصبح لاحقاً المصدر الروحي للحركات الإسلامية في العراق.

ولم يفت الفلم الى أن يشير الى بعض المعالم التاريخية الواضحة في المنطقة ، ومنها الكنيسة الآشورية المبنية في داخل مغارة جبلية، في قرية "دورَه" التي ترجع بجذورها الى 1500 عام مضت ، وقد أرتبطت ذكراها بلحظة مهمة في حياة النصير الشيوعي أبي ميسون التي جلبته والدته ، وهو ما يزال آنذاك طفلاً صغيراً الى هذه الكنيسة القصية لتعميده فيها، وكان اختيار هذا المكان البعيد يحمل دلالة واضحة، وهي أن المسيحيين وكنائسهم وأماكن عبادتهم كانت تتعرض للإستباحة من القبائل الكردية المحلية في ذلك الوقت الذي لم يكن فيه وجود يُذكر للسلطة العثمانية فكانت الكنيسة التي يُراد لها أن تكون مركزاً القرية المسيحية في السهل اضطرت الى الإنتقال الى الجبال البعيدة طلباً للحماية ، والحديث عن معاناة المسيحيين في قراهم يقودنا الى تاريخ مؤلم من النكبات والكوارث لا تكفيه عشرات الافلام ، ومن هذه القرى المنكوبة التي نسى التاريخ ذكرها ، أو قُدمت على أنها قرية كردية كانت "كوندي كوسا" القرية الآشورية التي فنى أهلها جميعاً أثناء الهجوم بالأسلحة الكيمياوية.

لم تُعط حركة الأنصار الشيوعية التوثيق الضروري من قبل إعلام الحزب الذي يجب أن ينبري لهذه المهمة ويستنهض جهد توثيقي لتراث الحزب السياسي والثقافي، وما قدمه رفاقه لهذا الوطن المنكوب من جهد وتضحيات على جميع الأصعدة. في رأيي أن الحزب الشيوعي العراقي في اللحظة الراهنة ، وبعد أن انتقل الى العمل العلني ، وساهم أعضائه في البرلمان ، واستيزروا في الحكومة يمتلك القدرة على إطلاق مبادرة تأسيس مركز متخصص بالدراسات العلمية لتاريخ الحزب ومراحله المختلفة ، واستنهاض جهد توثيقي لتراث الحزب في العمل السري والنقابي العلني ودوره في الحركة الأنصارية ، وفي المسيرة الفنية والإجتماعية والرياضية ، وتاريخ الحركة الطلابية والعمالية والفلاحية وغيرها. لابد في رأيي من أن يُدعى لمبادرة لتأسيس مجموعة عمل (أو مركز ابحاث للدراسات الإجتماعية والسياسية والإستراتيجية) خاصة بالحزب ليس بالضرورة أن يكون العمل فيها مرتبطاً بأجرة ، بل بالعمل التطوعي لرفاق واصدقاء ومناصرين ومحبين للحزب يأخذون على عاتقهم صياغة خطوط عامة لهذا المركز وجهده التوثيقي.

وبمناسبة الحديث عن المبادرات نشير الى مبادرتين عفويتين مهمتين: وهما تأسيس رابطة الأنصار الشيوعيين ، ودورها في التوثيق بحركة الأنصار من خلال اجتماعاتها السنوية والأخرى هي " صفحة الشهيد الشيوعي " على الفيسبوك التي لاقت نجاحاً منقطع النظير، وقد ساهمت شخصياً بامداده، وما زلت أمده بمعلومات عن شهداء عديدين للحزب لا تعرف الأجيال المعاصرة عنهم شيئاً..



 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter