|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  7  / 2 / 2020                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

مع صيحات المنتفضين في سوح التظاهر "اريد وطن" تتجدد اهمية هذا المقال عن الفنان العراقي عباس الكاظم وعمله المبدع الفائز بجائزة بينالي القاهرة الدولي عام 1998

 

عباس الكاظم الفائز بجائزة بينالي القاهرة الدولي

وطني سرير بلا شبكة ارقد عليه

ياسر رزق
(موقع الناس)

انتهى في أواخر العام الماضي بينالي القاهرة السابع بمشاركة دولية واسعة ومتميزة، ومشاركة عراقية خاصة لسببين: الاول تخصيص جناح لخمسة فنانين تشكيليين من العراق. اما الثاني فهو فوز أحد هؤلاء الفنانين الخمسة. عباس الكاظم بحصة الاسد من جوائز هذا البينالي الدولي الذي يعتبر وخاصة موسمه الاخير، احد ابرز الفعاليات الثقافية في العالم العربي.

لقد حمل الكاظم في بينالي القاهرة السابع احدى جوائزه الخمس المتساوية التي قيمتها المادية، عشرون ألف جنيه مصري ليتبرع بها لضحايا شعب العراق من القصف الامريكي - البريطاني الاخير. كما نال في الوقت ذاته - وهو امر نادر الحدوث في دورة واحدة – جائزة ثانية من منظمة يونيسكو الدولية. وفي مشاركته الاولى في معرض يستضيفه بلد عربي قدم عباس الكاظم عملين بدلا من واحد، فالى جانب عمله الفائز بجائزة البينالي الرئيسية واسمه "وطن" قدم الفنان التشكيلي العراقي مداخلة نظرية بعنوان "رحلات في بواطن الجسد - تفتيت الزمن والكشف عن اللحظة الفنية الراهنة"، حاول فيها رصد عامل الزمن من خلال تجربة 25 عاما من العرض في مختلف القاعات والبلدان والبحث عن الذات. ذات الفنان الذي يقول عن نفسه اقتباساً عن احد الشعراء "جميع اعضائي هادئة عدا العراق".

لقد وضع الفنان المغترب من بغداد الى روما ثم كوبنهاكن، المتنقل بين قاعات العرض والفعاليات الدولية في هولندا وبريطانيا والمانيا وايطاليا، ثم القاهرة، وضع الوطن العراقي في سرير قديم منتصف فوق هرم رملي بدون قاعدة تحمل من تراوده الرغبة الانسانية المشروعة في الاحتماء بدفئه والرقود في احضانه. وعمل "الوطن" عمل اكثر من رمزي، وهو فوق ذلك ملئ بابداعات الفكر والخيال، وكلاهما من سمات الفن قبل سواه.

وفي براغ عاصمة الجمهورية التشيكية الجذابة للفنانين، التقينا الفنان العراق قبل فترة قصيرة ليوصف لـ "الزمان" عمله الفائز بجائزة بينالي القاهرة الرئيسية وتفسير رموزه الصارخة.

"الوطن" سرير بدون شبكة يرقد عليها المرء ونوب عن قاعدته اخرى رمزية معكوسة الخيال في مرآة زجاجية تغطي سطح الهرم الرملي. ولا يخفى الرمز على التأمل، فالقاعدة الوهمية الرمزية ليست الا خيال ذكرى القاعدة الحقيقية المفتقدة انها مجرد صورة من الذاكرة.. انها سراب.. ويمطر وطن الناظر اليه بالرموز الواحدة تلو الآخر. فعلاقة المرأة بالرمل هي علاقة السراب بالصحراء، وخيال القاعدة الضبابي يشبه علاقة المنفي بوطنه.. ان "وطن" والحديث لم يزل لصاحبه المنفي عباس الكاظم تجسيد لمأساة الصورة عندما يكون الوطن مجرد هيكل في الذاكرة، ينتصب على هرم رملي متحرك، معتمدا على قوة الرياح القادمة غدا. ربما تلتهمه الرمال.. من يدري".

حقا ان "وطن" الفنان العراقي المائل من اليسار الى اليمين وبالعكس – وهذه الصورة غير المألوفة تتجلى بقوة تعبيرية وجمالية خاصة عندما يكون العمل ثلاثي الابعاد كعمل الكاظم- والمنتصب عارياً من القاعدة. على هرم رملي، انما يوحي في كل لحظة باحتمال السقوط، سقوط الذكرى وهي البديل المشروع للوطن البعيد، واختفائها بين كثبان الرمال الكثيفة من كل هبة ريح. من هنا ايضا ينبض الوطن بالحياة.

ويواصل الفنان حديثه: "فالسرير المتكئ على العوارض الحديدية الى كثب الرمل متطلعات لاي خيال قاعدته في المرآة الزجاجية، يكاد يقفز في كل حين الى المجهول تاركا في اعماق المتأمل عنصر الدراما والتوتر الكامنين في الحدث.. رمل وزجاج وحديد وألوان.. تشكيلة من ألوان "البيكمنت".. ايقاع هارموني.. وفكرة طريفة من نوعها هي تلك المرآة وعليها فيلم شفاف طبعت عليه صورة قاعدة السرير الغائبة والمرآة ترد الصورة معكوسة".

هذه التشكيلة الغريبة من المواد والالوان والرموز فازت عن جدارة بجائزة بينالي القاهرة السابع. وقد كان فوزاً مشرفاً للفنان الكاظم ولوطنه العراق في هذا الزمن الصعب زمن الاختيار المرهق لشعب وادي الرافدين.

وعباس الكاظم لا يبخل بكلمات الثناء والاطراء عندما يتابع عن انطباعه الشخصي من البينالي "قاعات عرض اقيمت للفن التشكيلي.. مواد اعلامية ممتازة حول المعرض.. ندوات وامسيات موازية طرحت خلالها افكار ومقترحات جديدة عديدة في عالم الفن التشكيلي.. لجنة تحكيم خاصة تضم نقاداً وفنانين واسعي الاهمية من ستة بلدان، واخرى شكلها اليونيسكو بمعرفة منظمة النقاد التشكيليين العالمية. اهتمام دولي بالغ، وتنظيم مصري جدير بالاعجاب، بدأ بافتتاح وزير الثقافة للبينالي، مروراً بتخصيص ثلاثة من افضل مراكز وقصور وقاعات الفنون والعرض المصرية، وانتهاء بالكم الهائل من طاقم العاملين والمشاركين وهم 215 فناناً يمثلون 54 بلداً من كل قارات العالم.

باختصار لقد كان بينالي القاهرة السابع آخر اكبر حدث في الفن التشكيلي العربي لهذا القرن". وما كان يصح الا ان نغتنم فرصة لقائنا بالفنان العراق المغترب بدون سؤاله عن ارهاصات الرسم والفن التشكيلي في القرن الحادي والعشرين الوشيك الحلول. قال عباس الكاظم: كفنام غترب وبالتحديد في اوربا، موطن تطور الفن التشكيلي عبر العصور، اجد اننا نعيش مرحلة تحولات مهمة، خاصة بوجود قنوات الاتصال الحديثة ووسائل الاعلام، نشعر بغياب الهوية الواضحة، اي الى وجود تمازج ثقافي الانتاج، حيث نجد الثقافات المتعددة في اعمال الفنانين، وان فنان اليوم يتجه نحو المعلومة اكثر مما يتجه نحو التقنية، ويجهد نفسه في ايجاد مواضيع قومية للايهام بوجود هوية لفنه، كما كان سائداً عند الفنانين اليابانيين اثناء حكم الامبراطور السابق الذي كان يوصي ويصر على عدم فسح اي مجال لأي فنان يقدم أي عمل غير ياباني، كذلك بعض الفنانين العرب الذين ارهقوا العمل الفني برموز جاهزة، ابتعدوا بها عن روح الفن العربي الذي بدأه الواسطي وفنانون كبار آخرون. حيث وضعوا امكنة للازمنة التي يعكسوها في حركات نتاجهم الابداعي لكي تعيش في كل وقت وهي حاضرة ابدا.

ويواصل الكاظم: "ان تجربتي في الاعداد والتنظيم لمعرض "تحت سماء اخرى" المقام في كوبنهاكن عام 1996، كان دليلا ملموسا وحيا عن صحة هذه الافكار، فلقد قدم 90 فناناً اعمالاً مختلفة شملت الطرق التقليدية في الفن الى آخر طرق وافكار الفن الحديث. لقد ساهمت فيه اربعون دولة، وكان تأثير الاعلام الحديث والتكنولوجيا واضح خلال ذلك العرض على نتائج هؤلاء الفنانين واظهر بشكل عام تناقضات واضحة الاختلاف هي باجمالها تشكل قوى جديدة موجبة تدعو لإعادة النظر في شكل ومفهوم الثقافة التشكيلية اليوم".

لقد لازمت فنان العراق التشكيلي المنفي عباس الكاظم منذ بداية مشواره الفني اوائل السبعينات، قناعة راسخة فحواها " ان العمل الفني غير معني بمحاكاة العالم وتكرار ما هو قائم في الطبيعة، واستنساخ الواقع بحذافيره.. ان جمالية العمل الفني تنبع من داخل مبدعه وليس من خارجه. انها تنبع من ذات الفنان وليس من الموضوعات الخارجية التي يصورها.. بهذه الصفة فقط يجوز اعتبار العمل الفني عملاً ابداعياً".

 

براغ
"جريدة الزمان"- 5/ 4/ 1999

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter