|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  3  / 6 / 2015                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 


 

"الدولة المدنية " الجذور.. المفهوم ..المبادئ ..الوظائف

احمد ستار العكيلي

مقدمة :
ظهرت فكرة "الدولة المدنية " عبر محاولات فلاسفة التنوير في أثناء " عصر النهضة " والذي هو عبارة عن حركة ثقافية استمرت تقريبا من القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر، وكانت بدايتها في أواخر العصور الوسطى من إيطاليا ثم أخذت في الانتشار إلى بقية أوروبا، والهدف من فكرة " الدولة المدنية " هو لنشأة دولة حديثة تقوم على مبادئ المساواة وترعى الحقوق، وتنطلق من قيم أخلاقية في الحكم والسيادة ، ولقد تبلورت فكرة "الدولة المدنية "عبر إسهامات لاحقة ومتعددة من مصادر مختلفة في العلوم الاجتماعية .

ولكى يبلور المفكرون طبيعة الدولة الجديدة لجأوا إلى تصوير حالة الطبيعة التي تقوم على الفوضى وعلى طغيان الأقوى، فهذه الحالة تحكمها مشاعر القوة والغضب والسيطرة ، فتفقد الروح المدنية التي تتسم بالتسامح والتساند والتعاون من أجل العيش المشترك.

إن تأسيس الدولة المدنية هو الكفيل بسيادة هذه الروح التي تمنع الناس من الاعتداء على بعضهم البعض من خلال تأسيس أجهزة سياسية وقانونية خارجة عن تأثير القوى والنزعات الفردية أو المذهبية، تستطيع أن تنظم الحياة العامة وتحمى الملكية الخاصة، وتنظم شؤون التعاقد، وأن تطبق القانون على جميع الناس بصرف النظر عن مكاناتهم وانتماءاتهم وتمثل الدولة إرادة المجتمع .

ظهر مصطلح الدولة المدنية يتداول في الوطن العربي ، حيث كان أول استخداماته في مصر/ عهد الرئيس أنور السادات، لأن وقعه أخف على الجموع من العلمانية والليبرالية.

وظهر هذا المصطلح " الدولة المدنية " بقوة مرة أخرى ابتداءاً من عام 2011م ، حين بدأت الإحتجاجات في أقطار الوطن العربي والتي سميت ب " الربيع العربي " ، وقد بدأت

الشرارة الأولى لهذه الإحتجاجات في تونس واتجهت فيما بعد نحو مصر ، وليبيا ، ثم اليمن ، وليس آخرها سورية .

جذور " الدولة المدنية " :

مفهوم " الدولة المدنية " ليس بالجديد ، وإنما يرجع إلى أن حكماء بلاد اليونان الأوائل في عصور ما قبل الميلاد هم أول الفلاسفة عبر التاريخ الذين وضعوا نظرية الدولة المدنية، لتكون مؤسسة مناهضة لسلطة الاستبداد بعد أن هيمنت على إرادة المجتمع اليوناني لفترة من الزمن

وكان لظهور ونمو الفلسفة وأساطينها الدور الكبير في تبلور مفهوم الدولة المدنية مرتكزة على احترام حقوق الإنسان ، لكن نقطة اختلاف مفهوم الدولة آنذاك عن مفهوم الدولة الليبرالية الحديثة تمثلت في تقسيم المجتمع اليوناني إلى طبقات اجتماعية كطبقة الأشراف وتتكون من أفراد الحكام والكهنة والقضاة ، ثم طبقة أصحاب المهن تليها طبقة الفلاحين الفقراء ، ثم تعقبها طبقة الأرقاء، وهذا التصنيف يأتي انطلاقا من طبيعة مؤهلات أفراد الطبقات، وذلك لرؤية الفلاسفة اليونانيين آنذاك لا يمتلك أفراد الطبقات الثلاث التي تلي طبقة الأشراف من حيث الأهمية والنفوذ السياسي والاجتماعي والفلسفي ، القدرة والثقافة والحكمة التي تؤهلهم لتسلم مناصب الدولة العليا فانحصرت هذه الوظائف بأفراد طبقة الأشراف ليقوموا بوظيفة إدارة شؤون الدولة قانونيا ومدنيا وسياسيا، ومعنى ذلك أن كل فرد في المجتمع ينتمي إلى الطبقة التي يستحقها ، وينال حقوقه ومساحة حرياته وفق مستواه الفلسفي والثقافي.

أما في أوروبا الحديثة فإن الدولة اتخذت مسارا تاريخيا سياسيا جديدا مغايرا ، بعد أن نشأت على أنقاض سلطة الاستبداد الإقطاعية الكنسية، وكان أبرز مفهوم نظري حقوقي وقانوني ، وأهم وظيفة ارتكزت عليها تطبيقيا، هي آلية الاحتكام لسلوك العقد الاجتماعي الذي يتطلب احتراما والتزاما متبادلا بين كافة أفراد المجتمع دون أدنى استثناء بالنسبة للحقوق والحريات والوظائف والواجبات ، سواء كانت مادية أم معنوية، وأسلوب الاتفاق اجتماعيا وسياسيا ما بين المواطنين، يتم تفعيله بواسطة تشكيل المنظمات والأحزاب السياسية غير المتصارعة بل المتنافسة فيما بينها التي تضم طيفا محددا من الأفراد، يتبنون مبادئ وأهدافا تتضمن احترام الحريات والحقوق العامة والخاصة لكافة المواطنين بموجب دستور العقد السياسي ، ونتيجة لهذه الثقافة وقيمها وتطبيقاتها تم إبعاد سلوكيات التعصب الأهلي بمختلف أنواعه عن المجال السياسي داخل نطاق الحكومة ونظمها الإدارية ، لأن ثقافة التعصب تتضمن إقصاءاً سياسيا لطيف أو طوائف اجتماعية من قبل فئة متعصبة مستبدة سواء كانت تنتمي إلى طائفة دينية أو مذهبية أو قبلية أو قومية أو عرقية أو سياسية ، وبهدف توفير فرص المساواة بين المواطنين خاصة في مجال الحقوق السياسية نشأت نظرية الدولة المدنية البعيدة عن الاستبداد والتهميش (3) .

مفهوم " الدولة المدنية " :

"الدولة المدنية" ، هي دولة تحافظ وتحمي كل أعضاء المجتمع، بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينة أو الفكرية، وهنالك عدة مبادئ ينبغي توافرها في الدولة المدنية والتي إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة ، أهمها أن تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث أنها تضمن حقوق جميع المواطنين، ومن أهم مبادئ "الدولة المدنية" ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر، فهنالك دوما سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم(4).

وهي تعني ايضاً اتحاد من أفراد يعيشون في مجتمع يخضع لنظام من القوانين، مع وجود قضاء يطبق هذه القوانين بإرساء مبادئ العدل، فمن الشروط الأساسية في قيام الدولة المدنية ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر ، فثمة دائما سلطة عليا ـ هي سلطة الدولة ـ يلجأ إليها الأفراد عندما تنتهك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك.

هذه السلطة هي التي تطبق القانون وتحفظ الحقوق لكل الأطراف، وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم، ومن ثم فإنها تجعل من القانون أداة تقف فوق الأفراد جميعا (5).

مبادئ " الدولة المدنية " :

للدولة المدنية مبادئ ترتكز عليها ، وأهمها الآتي :

1. أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة ، كما أنها لا تُعادي الدين أو ترفضه ، فرغم أن الدين يظل في الدولة المدنية عاملا في بناء الأخلاق وخلق الطاقة

للعمل والإنجاز والتقدم، حيث أن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية، كما أن هذا الأمر قد يعتبر من أهم العوامل التي تحول الدين إلى موضوع خلافي وجدلي وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة، وهذا ما نعيشه في الوقت الراهن في وطننا العربي وحتى في بعض الدول الإسلامية .

2. المواطنة ، والذي يعني أن الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين .

3. تتأسس على نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات.

4. الثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة، حيث أن هذه القيم هي التي تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق ووجود حد أدنى من القواعد يتم اعتبارها خطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها.

5. الديمقراطية ، هي التي تمنع من أن تؤخذ الدولة غصبا من خلال فرد أو نخبة أو عائلة (6).

وظائف "الدولة المدنية " :

بصورة عامة تتجسد وظائف الدولة المدنية وتتلخص في الآتي :

1. توفير فرص العمل والعيش الكريم لمواطنيها ، لكن الشرط الأساس لحصولهم على الدخل المالي العادل هو اشتراكهم في عملية إنتاج السلع والخدمات ، وتجنب تحولهم إلى عاطلين يشكلون عبئا على الميزانية العامة أو مثالا للبطالة المقنعة ، أو مصدر هدر لجزء من المال العام فيلحقون الضرر بمنافع بقية المواطنين باعتبار أن هذا الضرر الجسيم هو صورة للفساد المالي والإداري الذي تعاني منه العديد من دول العالم الثالث كالعراق مثلا الذي ترتفع نسبة البطالة المقنعة فيه لتصل إلى مستويات خطيرة جدا ، إضافة إلى البطالة التقليدية التي بسببها لا يجد الكثير من المواطنين السكن والدخل الاقتصادي الذي يلبي حاجاتهم المتعددة .

2. بناء مجتمع اقتصادي نموذجي ، وتأهيل أفراده ليكونوا منتجين وليسوا عاطلين يشكون الفقر باعتباره ظاهرة اجتماعية سلبية تتناقض مع قيم ومثل وثقافة الدولة المدنية الحديثة.

3. توفير المناخ الأمني والاستقرار النفسي لكل المواطنين، باعتبار أن الحاجة إلى الأمن ضرورة اجتماعية ونفسية لا يمكن الاستغناء عنها .

4. تهيئة سبل التعبير عن حرية الرأي بشتى الطرق وفق ضوابط قانونية محددة ورسمية، وحرية التعبير هذه مفتوحة ومتاحة في مجالات عديدة منها حق الاشتراك في تحديث السلطة التشريعية ترشيحا وانتخابا، وإبداء وجهة النظر عبر الصحافة الحرة وتفعيل سلوكية الاحتجاج والتظاهر والاجتماع وإقامة المؤتمرات والندوات، وتأسيس المنظمات والاتحادات والنقابات المدنية للدفاع عن الحقوق وممارسة عملية تثقيف أعضائها بضرروة المحافظة على مسؤولياتهم المهنية والاجتماعية لتطبيق قيم الثقافة المدنية.

5. بناء المؤسسات التعليمية وتهيئة مستلزماتها ، لنشر المعرفة المهنية والثقافة العامة من أجل تنمية المواطنين معرفيا ومهنيا ، فليس هنالك تقارب في مستوى العمل المهني والخصوصيات الثقافية والوعي بأنواعه المتعددة بين الفرد الأمّي والفرد المتعلم ، الذي يكون مؤثرا وفاعلا في تأدية واجباته تجاه نظرائه المواطنين، بينما يبدو الفرد الأمي عاجزا أو قليل التأثير بالنسب لموقعه المهني في المجتمع سواء من حيث المهنة التي يمتهنها أو مستوى ثقله الثقافي والمعرفي ، فالبلدان المتقدمة في مجالات متعددة تطورت بفضل المتعلمين والعلماء ، أما البلدان المتخلفة فبقيت عاجزة عن مواكبة التطور لانخفاض نسبة المتعلمين فيها وارتفاع نسبة الأميين.

6. بناء المؤسسات الصحية وتضمينها الوسائل التقنية الحديثة لمكافحة مختلف الأمراض والأوبئة وتوفير سبل الوقاية منها لتأمين الأمن الصحي والنفسي والمعنوي لأفراد المجتمع.

7. بناء مؤسسات الحفاظ على البيئة ، والتشجيع على تأسيس منظمات الدفاع عن البيئة أو السلام الأخضر ، وتوفير الدعم اللازم لها لتمارس دورها الإنساني في حماية البيئة وإصلاحها .

8. اعتماد الحكومة نظام الضمان الاجتماعي لرعاية كبار السن والمعوقين والمتقاعدين.

9. للحكومة سلطة اقتصادية ليست مطلقة تتجسد في الانتاج والاستثمار عبر مؤسسات وشركات قطاعها العام، إضافة إلى ممارستها لوظيفتها الإدارية بالإشراف على تطوير

السوق المالية والمصارف وحمايتها من الاحتكار والأزمات والتضخم بكافة أنواعه عبر تنفيذ برامج مالية محددة، لكن هذه الوظيفة لا تعني منع رجال الأعمال والقطاع الخاص والمختلط من المستثمرين والمنتجين من ممارسة نشاطاتهم الاقتصادية التجارية بصورة مستقلة شرط أن لا تمس النظام الاقتصادي العام.

10. تتبنى الحكومة مبدأ المساءلة من قبل جهاز تؤسسه لمتابعة سياسات وزاراتها ووزرائها والمدراء العامون والموظفين الكبار والصغار واقتفاء آثار الفساد والمفسدين لتقديمهم إلى القضاء العادل لمحاسبتهم.

11. عدم السماح بالتداخل في الوظائف والحقوق بين المؤسسة العسكرية الاستثنائية وسلطة الشرطة والأمن الداخلي باعتبار أن سلطتهما مدنية تعمل على توفير الأمن للدولة داخليا وتنظيمه ضمن قطاعها العام وكذلك القطاع الخاص (7) .
 


المصادر :
(1) أحمد زيد ، موقع دولة مدنية .
(2) التغيير نت ، 12 نيسان/أبريل 2013.
(3) الموسوعة الحرة .
(4) يعقوب يوسف جبر الرفاعي ، بناء الدولة المدنية الصالحة ، موقع أخبار الديمقراطية .
(5) أحمد زيد ، مصدر سابق .
(6) الموسوعة ، مصدر سابق .

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter