|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  2  / 6 / 2015                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

"وشم في ذاكرة الأنصار" (*)
سرد واقعي بموضوعات منتقاة وخاتمات إدهاشية

عبد الله عبد الكريم

ينحو السرد الواقعي التاريخي المسند إلى وقائع حقيقية حاصلة، إلى ناحية السرد الأدبي الواقعي المعمول به ضمن إطار حكائي مدعم بعناصر السرد الفنية وبشروطه. وعلى الرغم من أن النوع الأول يعتمد الذاكرة كخزين يستقى منه الحدث، إلا انه يمكن أن يقارب النوع الثاني المستند إلى الخيال وما ينسجه أو يؤلفه من بُنى حدثية، وتشكيلات ومواءمات مقصودة، عبر إعادة خلق مفردات الواقع بصيغ مختلفة عن الأصول، وهذا ما يحقق أحد أهداف الفن وضروراته.

إن التقارب بين السرد المستند إلى وقائع حقيقية، والآخر المستند إلى وقائع مختلقة خياليا، يتحدد بأسلوب السارد، وبالأدوات والعناصر التي اعتمدها كأساس في اشتغاله. إذ لا ضير إن كان الحدث حقيقيا أم غير حقيقي، بكون الفرق يتحدد بأسلوب تسطير الأحداث وبالأدوات المستخدمة في ذلك.

في كتابه الموسوم "وشم في ذاكرة الأنصار"، يشتغل الكاتب عدنان اللبان على ثيمات سردية واقعية غير متشعبة من ناحية الإطالة والإمعان في التفاصيل. فهو يسرد أحداثا واقعية شهدها وعاشها أبان فترة الكفاح المسلح (1979 – 1988) الذي خاضه الأنصار الشيوعيون في جبال كردستان العراق ضد النظام البعثي الدكتاتوري، ويحيل اللبان تلك الأحداث إلى موضوعات مصورة معبرة، متعلقة بأزمنة وأمكنة معينة، ومجسدة بنصوص محكمة بإطار فني، تكاد تقترب قليلا أو كثيرا، أسلوبا، من القصة القصيرة. والقصص التي ضمها الكتاب مستقلة إحداها عن الأخرى من حيث الموضوعات والعناوين والأحداث، وعددها 24 قصة.

الكتاب، ومثلما أوضح الكاتب في مقدمته، هو الثاني بعد كتابه "صفحات أنصارية". وقد وثق فيه محطات من التجربة الأنصارية التي عاش تفاصيلها هو ورفاقه.

ويشير اللبان إلى أن الكتابين - المتشابهين أسلوبا - يتناولان "تجارب حقيقية بأحداثها وأماكنها وأسماء شخوصها، سوى بعض الأسماء التي تم استبدالها لضرورة النشر".

وبالرغم من أن الصفة السائدة في الكتاب، لا سيما عتبته "وشم في ذاكرة الأنصار"، تشير إلى تجربة الأنصار الشيوعيين في الكفاح المسلح، إلا أن المؤلف سرد أحداثا من الواقع العراقي ما بعد التغيير 2003، وتناول تجارب عراقيين عديدين عرفهم، نزحوا صوب إيران هربا من بطش النظام الدكتاتوري المباد، أو هجروا قسريا بتهمة التبعية لإيران.
***
لست هنا بصدد اقتصار اشتغالي على القصص أو الحكايات الواقعية التي جاءت في الكتاب بالاستناد إلى أدوات نقدية أدبية، أو بتناول الجانب الفني ومناقشته. لكون المشروع الذي باشره اللبان في كتابيه، لم يقصد به – بحسب ما اعتقد – توكيد متعة الأدب أو خلق الإثارة الحسية، أو التلاعب بخيال المتلقي وبمشاعره. فمشروعه تاريخي أكثر مما هو أدبي بحت، أراد من خلاله أرشفة تجارب سياسية ونضالية واجتماعية عاشها، وأحداثا شهدها أو سمع عنها.

ولكن، وفي الوقت ذاته، لا يمكنني التواني عن تشخيص بعض الجوانب الأدبية والفنية التي تضمنتها نصوص الأحداث المسردة، بقصد أو بغير قصد. فقد طغت على الكثير من هذه القصص، مسحات درامية معززة بتخصص الكاتب اللبان في الفن المسرحي.

إن ترجمة الواقع بصيغة حرفية صادقة، لها أن تؤشر نقلا موضوعيا للأحداث. وقد تكون دقة هذا النقل وتطابقاته مع الواقع ذات نسبٍ عالية (نظرا لتوقف ترجمة الأحداث على نسب إمكانات الذاكرة، والقدرة على التجسيد اللغوي، والتعبير الانفعالي، وهذا الأمر نسبي بين المترجمين الناقلين حدثا بعينه). ولكن لو ترجم هذا الواقع عبر انتقاء أقانيم معينة منه، وعبر إعادة حبك تلك الأقانيم وغربلتها في عملية إضافة وحذف، وتنميط ومواءمة، سيشير ذلك إلى أن المترجم تدخل في عملية نقل الحدث – ربما - بقصد وغاية وتخطيط مسبق. قد يكون صاغه (الحدث) بترتيب زمني معين يختلف عن الترتيب الأصلي، أو قد يكون سلط الكثير من الضوء على حدث ضمني، والقليل منه على آخر، وبحسب اختياره، أي انه انتقى ما يمكن له أن يشكل نسبا عالية من الإثارة لدى المتلقي، وهذا يعني أن المترجم يسعى إلى – فضلا عن ترجمة الحدث بموضوعية - تأسيس بنية نصية دراماتيكية لها أن تثير انفعال المتلقي وتتحكم في مزاجه.

إن ما جرت الإشارة إليه تتسم به القصص الواقعية التي يسردها اللبان في كتابه. فهو يعالج الحدث بأسلوب انتقائي، وينقله بلغة لها قدرة على الوصف الأقرب للدقة، لا سيما انه يتعامل مع أحداث تسود فيها انفعالات الخوف والقلق والجزع ويغمرها الوجع والمعاناة وتعم فيها اللحظات المربكة. والتوصيف في هذه الحال يجب أن يستند إلى لغة ذات صياغات محبكة ومفردات تعبيرية مصطفاة، لتكون مؤثرة عاطفيا وانفعاليا، وقادرة على تركيب المَشاهد وتوليفها وعرضها على القارئ. فالنص هنا سيكون أشبه بعارضة سينمائية للأحداث.

في العديد من القصص التي سردها اللبان في كتابه، نجده راويا مشاركا و"أنا شاهدة"، أو ذا رؤية بانورامية واسعة، لها أن تعالج الحدث من الداخل والخارج، وهي عارفة بما وراءه. إذ ان اللبان يدعم سرده بإشارات تحليلية أو تفسيرية تدلل على انه محيط بما وراء الحدث. ولا ينأى هذا الأمر بعيدا عن توقع أن الكاتب ترجم أحداثا نقلتها إليه شخصيات خارجية لم تتضمنها القصص الواقعية المسردة تلك، وتضمنتها أخرى في بعض الأحيان، مثل "أم علي والحلم المغدور"، التي دعمها الكاتب بشهادات لـ باقر إبراهيم، وساجدة عبد الرحيم.

يسعى اللبان في غالبية قصصه، إلى تقديم وصف دقيق لشخوصها، من الناحية الشكلية والانفعالية والتاريخية، وهذا الأمر يساهم كثيرا في تصوير الحدث بدقة:

- "نائب ضابط كامل من أهل البصرة، طويل ليس نحيفا ولا ضخما، أسود فاحم..". (الأوسط).

- "كان عبد الحسين "حنبليا" في استقامته، جديا في كل شيء. من شدة جديته لا يستجيب للنكتة أو اللطيفة إن لم يكن مستعدا لتقبلها (...) كانت أحلامه الصوفية التي اكتسبها من البيئة الدينية المحافظة في النجف، قد فرضت عليه سلوكية صلبة..". (كان شهيدا وهو في عز الشباب).

- "علي تجاوز الخامسة والعشرين، متوسط الطول ووجه أسمر مستدير، وصوت مبحوح دائما، تلقائي وسهل في سلوكيته وهو سبب تعلقنا به". (وشم في ذاكرة الأنصار).

على الرغم من أن غالبية الأحداث التي سردها اللبان في كتابه تطغي على صياغاتها اللغوية صفة التقريرية أو المباشرة، في مطالعها بخاصة، إلا ان نوعية الحدث بإمكانها إثارة انفعال القارئ بأبسط المفردات، لا سيما لما يتمتع به السرد من إيجاز مكثف. فالكاتب يحاول جاهدا النأي عن الأسلوب الأدبي في السرد، بيد إن تأثير نوعية الحدث ينتقل عبر المعنى الذي يتشكل في ذهن القارئ، من دون التشديد على المفردة اللغوية في التعبير التصويري.

وكان اللبان موفقا في اختيار العناوين الجذابة، والمتساوقة مع الحدث، والحاملة للكثير من الدلالات التي يتضمنها المتن، وجرت الملاحظة في عديد من القصص، أن خاتمات المتن متعلقة بالعناوين كثيرا.

تتميز خاتمات القصص التي ضمها الكتاب، باحتوائها على عناصر الدهشة والفجائية غير المتوقعة، ما يمكن أن يثير مشاعر المتلقي ويشحن مكنوناتها، وينحو به صوب مسار آخر، ويفتح أمامه آفاقا مغايرة للتوقع، ويغرس في مخيلته عديدا من التساؤلات التي يمكن أن تتجاوز حدود الحدث المسرد. فالقارئ على الدوام بانتظار الخاتمة.. يبني تصورات، ويرجح توقعات، لكنه يتلقى الصدمة بعد أن تبوء توقعاته بالفشل، وهذا ما تميز به اشتغال اللبان في أكثر القصص الواقعية التي نقلها. إذ إنه – ربما - يتعمد إيهام القارئ بخاتمات عديدة، ووفق لعبة ذكية، لكنه يصدمه بما هو غير متوقع من الخاتمات المكثفة المنقاة من شوائب التفاصيل غير المجدية.

إن خاتمات الأحداث التي سردها اللبان في كتابه، اضطرارية، ولا تقبل الاحتمالات أو التدخلات من حيث المعاني والنتائج، بكون الأحداث واقعية حقيقية وليست مفتعلة خياليا، ولكن الترتيب الزمني للأحداث التي سردها، والقصد في تضمين النص فقرات تفسيرية أو اعتراضية، هو ما جعل لتلك الخاتمات وقعا كبيرا على القارئ. فلو انه سرد الحدث بأسلوب تصاعدي مباشر، وألحقه بخاتمة قد تكون متوقعة من قبل القارئ، لن يكون للحدث ذلك التأثير نفسه. وهنا نجد أن الكاتب ارتأى إحالة الحدث الواقعي إلى مشهد ذي تأثير كبير على المتلقي، من خلال إعادة تفكيكه ومن ثم توليفه وبنائه وفق خطة فنية.

وعبر حكايات لا تخلو من نقيضي الحزن والفكاهة، الكوميديا والتراجيديا، الحلو والمر، التردد والإصرار، يسوق عدنان اللبان مقتطفات مما تجود به ذاكرته، وذاكرة رفاقه، ويدفق الصور معززة بالزمان والمكان، وبالأوصاف الدقيقة، ويعيد إنتاج الانفعالات التي رافقت تلك الأحداث، داخل النص، لتنعكس مدلولاتها مباشرة على القارئ، حتى الذي لم يخض تجربة مشابهة، أو شبه مشابهة.

إنها سنوات من الأوجاع والمعاناة.. سنوات ساد فيها القلق والهلع، أبطال أحداثها أناس آثروا النضال في سبيل مبادئهم، ورفضوا الرضوخ لنظام دكتاتوري متوحش أحال الواقع إلى فنتازيا سوداء غير مبررة.. هي سنوات مشحنة بالملاحقات الأمنية.. بالأقبية المظلمة، أعواد المشانق، الموت العبثي، التشرد، ضياع الأمنيات، زهوق الأحلام.. سنوات تستدعي أرشفتها جهودا إبداعية لها أن تثير الانفعالات، وتجذي الأحاسيس. وهذا ما حققه الكاتب عدنان اللبان في كتابيه.



(*) صادر عن "دار العالم للطباعة والنشر" في بغداد عام 2015، ويقع في 192 صفحة من القطع المتوسط.

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter