|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  2  / 2 / 2015                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

في ذكرى اربعينية المناضلة وارينة اوراها ، التي قدمت تضحيات جمّة طوال حياتها من اجل الحزب والشعب


رحلت نانا وارو *

منال عبد الاحد المالح

لا اريد ان ابكيها ولا اريد ان يبكي الاخرون فقدانها. انما اريد ان اذكر انسانة عزيزة على قلوبنا، برحيلها نستذكر ما علمتنا عندما كانت بيننا. وبهذا نحفظ ذكراها ما حيينا.

نشأت وارينة أوراها في عائلة كادحة مناضلة. حيث النقاشات اليومية تدور عن حق المواطن في العيش السعيد وفي الوطن الحر. ضمن علاقات هذه العائلة تتعرف على انسان طيب، محب و مناضل على نفس الطريق. فلا عجب ان يتفقا على السير سوية في درب الحياة والنضال من اجل الافضل. فيتزوجان (وارينة وصبري) في 1951 في زمن كان النضال محتدما من اجل السلم والتحرر.

رافقت نانا وارو ، العم صبري في الحياة "الاعتيادية" لمناضلي تلك الفترة ، متحملة بكل صبر قساوة تلك الحياة ، فمن زيارات السجون ، الى التنقلات والهرب من منطقة الى اخرى ، الى مواجهة تحريات الشرطة، ، او قضاء سنوات من الاختفاء في الجبل او في المدينة. كل ذلك وغيره الكثير ، كان جزءاً طبيعياً من حياتها ، اضافة الى مساهماتها الفعالة بنقل البريد الحزبي أو توفير بعض المستلزمات الضرورية للانصار الشيوعيين .

إن قساوة تلك الظروف وما رافقها من الصعوبات الاقتصادية لم تثنيها او تعيقها يوماً عن ايلاء الاهتمام والرعاية بأبنائها الخمسة و في كثير من الاحيان كانت تتحمل العبء لوحدها لاضطرار زوجها للاختفاء او الالتحاق مع الانصار. و كان في مقدمة اهتماماتها ان ترى اطفالها فرحين ومواظبين في مدارسهم .

كانت تقول: (انا لم اتعلم ولكن على اولادي ان يكونوا الافضل في مدارسهم). ورغم حرصها على تعليمهم ، لم تقف عائقاً امامهم حينما دخلوا معترك السياسة ، مناضلين اشداء من اجل الحرية والديمقراطية.

من خلال عملي الحزبي وعلاقتي بأبنتها تعرفت على نانا وارو في منتصف السبعينات وفي دارهم ، حيث كانت تُعقد الاجتماعات الحزبية واللقاءات السرية. الامر الذي جعلها تختار طوعاً وقدر الامكان ، الابتعاد عن العلاقات العائلية والاجتماعية "غير الأمينة" والتي قد تسبب الخطورة على ابنائها ، في وقت لم يكن من السهل رفض الزيارات او دعوات حفلات الاعراس وغيرها في ذلك الحين.

• نانا وارو تسهر الليالي في انتظار عودة احد ابنائها سالماً من نشاطه الحزبي.
• نانا وارو تصر على اعداد افضل انواع الطعام للرفاق والرفيقات اثناء اجتماعات تعقد في البيت .
• نانا وارو تحرص على مساعدة بعض هؤلاء الشباب او الشابات لأن الفقر يبدو عليهم.
• نانا وارو دائمة الاستعداد للعطاء والحنان ، دون ان تفارقها الابتسامة .

عندما دخلت بيتهم لأول مرة دعتني الى أكلة الباجة. فقلت لها انا لم اذقها سابقاً . فقالت : (ذوقيها اليوم وستأتين الينا في كل مرة نطبخها). احببت هذه الام من اول لقاء. ومن حسن حظي اصبحت زوجة ابنها فيما بعد.

في 1979 وبعد خروجي من المعتقل، زارتني نانا وارو وبصوت واثق قالت وهي تعانقني: (لا تهتمي. تستطيعين تجاوز كل معاناتك ونحن هنا سنبقى بالطبع الى جانبك). وهذا ما تحقق فعلاً في السنوات التالية.

رغم الظروف الصعبة والخطرة ايام هجمة البعث على الحزب لم تتردد نانا وارو من ان تفتح بيتها لاخفاء قريباتها من الشابات الشيوعيات ، وان تتكفل بمعيشتهن ولفترات طويلة. كنت ازورهم بين حين واخر والقى دوماً الترحاب واعيش الشعور بالامان في دار نانا وارو.

في العام 1984 اضطررت الى النزول من كردستان الى بغداد وانا حامل بطفلتي الاولى. استقبلتني نانا وارو بكل حب واعطتني مكانة الابنة في بيتها. وكسبت رعاية خاصة بسبب وجودي بشكل سري . لقد كان من الخطورة بمكان الكشف عن تواجدي في دارهم : فأنا شيوعية ونصيرة ، وزوجة ابنها الهارب، وحامل ايضاً ، وكلها بنظر نظام البعث جرائم كبرى ، عواقبها وخيمة على كل فرد من العائلة . نانا وارو لم تظهر امامي الخوف او القلق ، كانت مستعدة لحمايتي بدون تردد طوال فترة اختفائي ، ولسان حالها يقول : هذه هي حياتنا وانت جزء منها .

بعد ولادة طفلتي اصبحت الظروف اصعب ، اذ كان عليها اخفائي مع طفلة رضيعة ، على الرغم من تواصل زيارات الامن ومداهماتهم المفاجئة الى الدار ، وحتى الجيران بدأوا يسألون باستغراب عمن تكون هذه الطفلة. لكن بقوتها وبأبتسامتها كانت تجتاز العديد من الصعوبات ، وتتمكن من اخفاء وجودي سيما عند زيارات الاقارب . لم اكن ارى على وجهها سوى تلك الابتسامة وهي تخبرني بما قالته لضابط الامن او للجيران وكيف استطاعت خداعهم والحفاظ على سر وجودي.

لم اشعر يوماً انها كانت خائفة او تعبة او قلقة من وجودي انما العكس كنت اشعر بأعلى درجات الاطمئنان وهي موجودة بجانبي ، الى درجة كنت في بعض الاحيان لا ارغب بمغادرتها البيت للتسوق .

اضطررت مرة اخرى لتحميل هذه العائلة المناضلة والرائعة عبئاً جديداً في العام 1986عندما استلمت توجيهاً من الحزب بضرورة العودة الى كردستان. كان قراراً خارق الصعوبة في أن أترك طفلتي ذات العام والنصف والعودة الى صفوف الانصار. ولكن نانا وارو قالت: (حافظي على نفسك واذهبي الى كردستان. ابنتك عندنا في امان). كنت واثقة من موقفها وواثقة انها سترعى ابنتي كما ترعى ابناءها واحفادها الاخرين.

في عام 1988 وبسبب الهجوم الغادر لقوات البعث على منطقة كردستان وباستخدامهم السلاح الكيمياوي على كل مناطق مقرات البيشمركة والانصار وايضاً على القرى المسالمة، اضطررنا الى مغادرة العراق الى سوريا.

وهنا ، مرة اخرى كانت نانا وارو في وقفة جديدة ، اذ قدمت الى المناطق الحدودية التي تسللنا منها الى سوريا ، لتلتقي بنا وتصطحب معها ابنتي .

بعد سقوط النظام الصدامي المقيت في 2003 عبّرت نانا وارو عن فرحتها واملها بأن يلتم شمل العائلة وان تعيش مع كل ابنائها في سلام وسعادة.

كانت تتابع الاخبار يومياً وتناقش وترى ان ما يجري ، ليس ما كانت تحلم به ويحلم به الشعب العراقي. وبجمل بسيطة وقصيرة كانت تعبّر بعمق عن وعيها السياسي الفطري . فهي التي لم تقرأ ولم تكتب ، كانت تحرص على المشاركة في التصويت لتساهم في دعم مرشحي الحزب.

رحلت نانا وارو عنا بهدوء وسلام . رحلت وستبقى ذكراها خالدة في عقولنا وقلوبنا

نانا وارو - لي الفخر اني  ...
تعلمتُ منك الصبر والحزم
تعلمتُ منك النضال بصمت وبدون مغالاة
تعلمتُ منك الحنان بدون مبالغة
تعلمتُ منك الابتسام وقت الصعوبات
تعلمتُ منك التواضع والبساطة



* نانا : تعني جدتي وهذا ما كان ينادونها به احفادها
 وارو : مختصر اسم وارينة.

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter