|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  28  / 9 / 2017                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

(الفكر الحر)

محمد عبدالرزاق *
(موقع الناس)

انا اشير إلى القمر والأحمق ينظر إلى اصبعي ... (مثل صيني)

اذا راجعنا بتمعن اسباب نهضة الشعوب المتحضرة وجدنا ان المثقف يقف ورائها بفكره الابداعي الذي صاغ به الحياة الكريمة المفعمة بالسعادة والمساواة.

في نهاية ستينات القرن الماضي ولدت وزارة (الثقافة والاعلام) العراقية على يد الحزب الواحد في ردهة ملوثة بميكروبات التخطيط الفكري المنحرف، تبنى تربيتها قساة قلوب، ومنذ نعومة اظفارها كانت ربيبة الازدواجية، وجُدت لمحق الراي الآخر تحت أي مسمى كان ومن أي جهة يصدر، وعلى وفق نظرية امــلاءات التـشويه (التفريغ والملىء) من بعدها المختبري لتحليل الأبداع (تهيئة المتلقي لحسن الاستماع)، غُلف انتاجها بلون حزبي قومي وحدوي، رُسم لها طريق باتجاه واحد (البعث.. طريقنا)، سيمالوجيا المعلوماتية (عفلقية)، سرعة السير محددة بقرارات مجلس رجال الثورة، المسار يفضي لبلوغ مؤسسات ثقافية معلومة العنوان يلج اليها كل ذي ابداع حاصل على تزكية امنية، يحفظ فرمانات حزبية مـفادها (نـفذ ثـم نـفذ)، يُسوق الإنـتاج ادبـي فـني ترفيـهي شريــطة ان ينــسجم وزاوية رؤيـة (حزبنا والا فلا)، واستحدثت للثقافة العراقية واعلامها مديريات قطاعية تهتم بالتنوع الثقافي على شاكلة التوثيق النوعي الممهور حزبيا حصرا، يتخللها موسيقى ثورية ممزوجة بتعبير جسدي لفئات عمرية مختلفة يتفق استعراضها ونسق مسير العسكر في ثكنة بحيرة البجع، اسندت جميع مفاصل ادارتها العليا والوسطى والصغرى إلى مثقفي واداري السلطة وجلهم قامات ثقافية نخبوية زيتونية يجيدون مهارة سحر اقناع المطلوب وطرد الطالب، خصصت لها موارد بشرية ومالية سخية منقولة وغير منقولة على وقع خطة تتناغم وطلاء الخبيث بلون العفيف اعدتها قيادات التنظيم الفلاني بمشورة رفاق مثقفين بدرجات حزبية متقدمة سواء كانوا من رفاق القطر أم من رفاق الاقطار الشقيقة الوحدوية، شرعت الوزارة بعملها في ظل ظروف صعبة على مستحدثيها تفرض قسرا برامجها غير المستساغة على الثقافة واهلها، تحرص على نشر ادبياتها الفكرية الفنية الشاذة المبنية على تعميد ذوق الانسانية بالمشانق والجماجم، ( لما سلكنا الدرب كنا نعلمُ ان المشانق للعقيدة سلمُ).

سقط حينذاك في فخ دوامة احادية الفكر عدد لابأس به من المبدعين وهؤلاء بالحقيقة اغلبهم ضحايا يمثلون ثلة قليلة من المثقفين، فمنهم من مورست بحقه طرق ترهيبية شتى ومنهم باع موهبته مكرها ليجمع زاد رحيله ويمضي قاصدا المجهول، وآخرين سلكوا طريق المجازفة بأرواحهم وارواح ذويهم مبتدعين اساليب مقاومة الفكر السادي عبر استخدام مناهج ثقافية عدة منها (احجي وياج تاريخي تراجيدي يابنتي، واسمعج بلكي افتهمتي شكول ياجنتي) وتارة أُخرى يعدون ويخرجون نصوص سيناريوهات (بالكوميدي وغُل ايدك)، ومنهم من اختار اسلوب المبدع المنولوجسة السياسي الرائع (عزيز علي) رحمه الله، وغالبا ما كان الابداع يُعتمد (مقوض منقوض) ببركة ختم لجان (مقص الرقيب) التي عملت بموجب فقرات قانون (على عينك يا تاجر)، حينذاك يخرج المنتج الفكري منقوص اللمسات المبهرة التي صاغها الأب الشرعي الصامت المذهول امام استهداف نتاجه الفكري، إلا فـي بعـض النتاجــات الثقافــية الفنية التي كُتِبَ لها ان تـرى الـنور (بقدرة قادر مقتدر) رغما عن انف السلطة في غفلة من الرقيب فكان لها صداها الخالد في المحافل الثقافية والاذهان النقية ليومنا هذا، كبرت وزارة الثقافة والاعلام على ذا المنوال لعوب تغري بفكرها العاري حديثي الثقافة، فيما يفوح عــطرها (البولسجي) من كل اطرافها المخابراتية الصارمة فيشفق عليه مثقفي العالم المتحضر، وانصب جل همها على تلميع قبح منتجها المثلي وطمس الجمال النوعي تنفيذا للإشارة القادمة من صاحب السيادة الالمعي، ومضى المنتج الابداعي سواء كان ثقافيا أم اعلاميا يستثمر لخدمة الفكر(العفلقيس) حتى بات الضد مفرغ منه أمام اصرار السلطة على تنفيذ منهاجها السياسي المتعجرف (فكري وبس بالدنيا) الذي لم يألفه من ذي قبل سياسي الاربعينات والخمسينات والستينات.

بيد ان الواقع المفروض من السلطة شيء وحقيقية ما يدور في خلجات المثقف العراقي شيء آخر، سيما وقد غفل مروجي هذه البرامج المؤدلجة من اركان الادارة العليا التي ترسم المناهج لوزارة الثقافة وشقيقتها وزارة الاعلام بعد الانشطار، اذ مثلما كان هناك مثقف سلطة منعم برضى الباب العالي مطرز الجبين بالأوسمة والنياشين، كان هناك المثقف العراقي الاصيل يقف مرفوع الراس اما في مديريات الامن وسجونها او عبر الحدود وفي بعض الاحيان خارج التغطية الانسانية، وهؤلاء لا يكاد يخلوا منهم زمان أو مكان على امتداد جغرافية العراق، صفاتهم القدرة بالتبحر في ملامح الواقع الاجتماعي للتأثير بقيمه وتحصينها بالأسمى، ومن هنا كانت ولا زالت مهمة المثقف العراقي الاصيل تكمن في حرصه على إظهار الأفكار الداعية إلى التغيير الايجابي والتنوير المفاهيمي، فالمثقف العراقي انسان ذو طبيعة أخرى أو هكذا يجب أن يكون ما يميزه وظيفته كفاعل أخلاقي لا يتقيد بحالات الانتماء الجبري لهذا الموقف أو ذاك وانما وضعه المميز داخل المجتمع يفرض انتمائه إلى الإنسانية فحسب، ذلك سقراط قديما تجرع السم ورخص حياته دفاعا عن حق الإنسان في استخدام عقله لإنتاج المعرفة وتداولها استقبل الموت امام اصراره على تبني الفضيلة الفكرية حتى اثبت للعالم اهمية دور الفضيلة والدراية وبدونهما لا تبحر سفينة الحياة في جوهر الانسانية مؤكدا قوله حين تعلوا الفضيلة تسمو الشعوب، وان الإنسان لا يتمكن من بلوغ غايته التي يروم الوصول إليها إلا إذا كان عالماً مثقفا واعيا بالوسائل التي تؤدي إلى هذه الغاية، وفعلها مفكرو الثورة الفرنسية حين سلكو ذات النهج دفاعا عن القيم الإنسانية وأعلنوا أمام جبروت السلطة تحيزهم المطلق للإنسان الحر الواعي فكان لهم ما نراه اليوم من ازدهار اوروبي ترفل به شعوبهم.

إلى ذلك إشرقت شمس التغيير على المثقفين وظنوا انه الخلاص من همومهم التي ما عاد لها حيزا للخزن في زوايا الذات، واذا بالمثقف يقف مهتزا بين نشوة التمتع بضوء شمس الحرية وبين رؤية بشاعة وحش الاحتلال البغيض الذي سرعان ما كشر عن انيابه وسال لعابه على خيرات فكر بلدا مثقل بالمرارات والآهات، ووفق برنامج اعُد في دهاليز الظلالة والغدرغرس المحتل في خاصرة اصالتنا خنجره الهجين الملوث (بالمحاصصة)، وما أدراك ما فعلت، طعنت المحاصصة بضمير المثقفين سيما وجراحهم لم تشفى بعد من تقرحات مناهج بوليسية مخابراتية رقابية منحرفة مورست بحقهم لعقود عجاف مرة حتى عادوا من جديد يلفظون وقع الاهمال الحكومي المغلف بالمحاصصة، وشواهد تلك المغلفات كثيرة منها هل يعقل ان حاضنة الابداع والمثقفين (وزارة الثقافة) تسترشد نهجها الفكري بفقرات قانون يمجد ثورة الزيتوني ويروج لمفاهيم دكتاتورية انقشعت، في الوقت الذي من المفرض ان نرفل في ظل دستور صوت له ابناء الشعب، فيما عادت وغُلقت الأبواب الجديدة بوجه المثقف والمبدع المنتمي للإنسانية حصرا الرافض للانحياز والثابت على الاصالة المحصن السريرة النقية لوطنه وشعبه، واستمرت المؤسسات الثقافية الحكومية باعتماد نهج الانتقائية وفرض اللامدروس الذي يفضي لحرمان المثقف عن اداء دوره في احداث التغيير الاجتماعي المنشود، وساد الجهل الفكري وشرعنة الاخطاء الفادحة واسندت مهام رعاية الابداع إلى غير مستحقيها الذين ما انفكوا يغيبون الرأي الآخر عن منابر الحرية الدستورية ، حينذاك عاد المبدع ادراجه بخفي حنين من حيث اتى ليكون جليس ذات مقعد الصمت تلاحقه مفردات تعود على سماعها من جلاوزة الامس (اخرس ومت بغيظك) التي اصبحت ملازمة لنتاجه الابداعي اينما ولى وجهه الكظيم، بات المثقف يعيش واقع مزري ينعى مشاريعه التي سبق وان أعدها أملاً منه ان ترى النور تحت سقف العراق الحر المنتصر على فكر الترهيب، عندها لم يجد المثقف بد سوى اختيار الرقود في احــدى مـقابر الاحـياء المــستحدثة تحت مـسمى (عشوائيات انسان القرن الواحد والعشرين في بلاد الحضارة النفطية والديمقراطية الصورية)، فالعاملون بمنهاج المحاصصة الافذاذ هم سليلي اباء واجداد ترعرعوا في ضمير حزب الضرورة وجلهم اليوم يمتلكون عصا طويلة غليظة لنقد المنهاج الابداعي، لغتهم ابجديتها الفساد، شيمتهم معاول هدم الذوق، مهارتهم ركوب الموجة.

بالله عليكم لو كانت وزارة الثقافة والاعلام قد تأسست على مبادئ احترام التعددية الفكرية ونهجها رعاية الابداع الانساني بلا انحياز إلا لمناهج الفضيلة على غرار وزارات الثقافة في الدول التي تطلق يد حرية فكر المبدع وتحرص على احتضانه، هل كان واقعنا اليوم على نحن ما عليه، الآن اقبل جبين من عرف إلى ما اشير إليه بإصبعي انه بلا شك الفكر الحر.

والان ايها المثقف العازف عن إبداعك قسرا بحكم الظروف راجع اسلوب حياتك وعد لسباتك الفكري في احدى مدن وادي الرافدين الاثرية، واطوي مرتسمات غيرتك الابداعية، ودعني اسدي لك النصيحة، واظـب على ســماع رائــعة كوكــب الـشرق (فات المعياد)، فلعمري في خلوتك الوجدانية الابدية مع الذات يتجلى الابداع والنجاة.
 

 * كاتب عراقي
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter