|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  28  / 9 / 2017                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

علي خلف غزال: فقيد المحمودية الوديع

قاســم محمــد غــالي
(موقع الناس)

في العام (2015) اتصل بي الصديق عقيل ابراهيم (الحجي) ليبلغني خبر وفاة الفقيد (صديقنا المشترك) علي خلف غزال، لقد كان ذلك الخبر مؤلما وغير متوقعا. حدث هذا بعد سنة على رحيل الصديق الكاتب احمد المهنا، الذي ذهب، هو الاخر سريعا، تماما كما فعل علي خلف، فهو مازال في حيويته وفي عز نشاطه المتميز في المجالين الوظيفي والاجتماعي. ولم الاحظ عليه اية علة او دالة تشير الى ضعف او وهن في حالته الصحية، وهو لم يشكوا من مرض او اي شيء يتعلق بصحته او حالته المادية خلال لقاءاتنا الكثيرة اثناء وجودي في المحمودية، حيث حرص على زيارتي بشكل شبه يومي بعد عودتي للوطن عام 2003. عندما سمعت بذلك المصاب، كنت وقتها في ظروف صحية صعبة ومنشغلا في اجراء فحوصات طبية ارغمت نتيجة لها على اجراء عملية جراحية والاضطرار للاقامة في المستشفى لما يقرب من الشهر.

وعلي خلف غزال، الصديق الثاني الذي صدمني رحيله بعد سنة تقريبا (اب 2014) على وفاة الصديق الكاتب احمد المهنا، انها حقا لخسارة مؤسفة، خاصة بالنسبة لمن عرفوا الفقيدين وعاشوا معهما، وهي بالنسبة لي اكثر من ذلك، فالصديقان كانا من المقربين لي، وجمعتني بهما زمالة دراسة امتدت لسنوات طويلة، وتجربة عمل في المجال الطلابي والسياسي لفترة تميزت باحداث عاصفة تخللها الكثير من الالم والتضحيات والخيبات. لا ادري لماذا انتابني هذا الشعور بالقلق لفقدان هذين الصديقين في اوقات متقاربة، وتدور في راسي افكارا شتى، وبسبها بدأت استرجع ذكريات كثيرة.

علي خلف شخصية رائعة، تسرك معاشرته، وتجذبك صداقته، وهو انسان نشط ويتمتع بحيوية مميزة، يلعب ويتكلم، يشرح ويتحدث دون ملل. يحب الاصدقاء ويختلط مع الناس بسهولة، اهتمامه بالرياضة حولته الى شخص معروف في المحمودية، خاصة بين الشباب، وفي سنوات قليلة كان علي احد ابرز نجوم كرة القدم في القضاء. انضم الى اهم الفرق الرياضية في المدينة، كالشباب ومنتخب الثانوية، ثم منتخب القضاء.

(قرابة نصف قرن) تعلمنا انا واحمد المهنا في المدرسة الاولى (الابتدائية) واكملنا المرحلة المتوسطة والثانوية في ثانوية المحمودية (الوحيدة في القضاء) وفيها التحق بنا علي خلف غزال الذي جاء من المدرسة الثانية (الابتدائية) وهناك بدأت صداقتي معه واستمرت حتى مغادرتي العراق. كان علي خلف غزال من الطلبة البارزين في مجال "النشاط الرياضي" بينما كان اهتمامي الاول هو القراءة "قراءة الكتب" التي كنا نطلق عليها انذاك "خارجية" بمعنى خارج المنهج الدراسي. وكنت الى جانب عدد من الاصدقاء، نتولى مهمة تحرير النشرة المدرسية بتكليف من ادارة المدرسة، قبل استيلاء الاتحاد الوطني عليها وتولي فلاح الكاهجي ومحمود العجيلي الملقب ب "تشاريب" تلك المهمة. اما احمد المهنا، فبالاضافة الى اهتمامه بالقراءة وفي وقت مبكر، فقد كان من ابرز لاعبي كرة السلة في فريق تانوية المحمودية، بينما كان علي خلف ابرز لاعبي كرة القدم.

كان النشاط الثقاقي (من قراءة كتب، متابعة احداث، ارتياد المسارح والسينمات، التردد على المراكز الثقافية، الروسي والالماني) الذي كنا نمارسه، قبل انقلاب البعث عام (1968) محط انظار الكثير من الطلبة والشباب ومراقبة اجهزة الامن الروتينية، قد جذب نفر قليل من الطلبة وساعدنا فيما بعد على تشكيل منظمة طلابية في ثانوية المحمودية (فرع اتحاد الطلبة). في ذلك الوقت كان هناك عدد صغير جدا من البعثيين، اتذكرهم جيدا، واعرفهم بالاسماء، يقومون بمهمة "وسخة" هي مراقبة نشاطنا ويسلمون تقاريرهم حولها الى "الامن" باعتبارهم وكلاء.

الشيء الاخر، الذي ساعدنا في تنمية نشاطنا الثقافي، ما شهدت ثانوية المحمودية في تلك السنوات من تعيين مجموعة من المدرسين (من خيرة المثقفين العراقيين) منهم الشاعر المعروف فوزي كريم الذي جاءنا ومعه "حيث تبدأ الاشياء" والفنان المبدع نعمان هادي، وسعدي الشذر عاشق الشعر والموسيقى، وبسمارك (المسيحي) الانيق والدكتور عباس الدباغ، الاكاديمي البارع. والبعثي الوحيد بينهم حسن هاشم الذي تولى مسؤوليات مهمة في وزارة التربية فيما بعد. اذ كان لوجود هؤلاء في الثانوية تاثيرا مهما على مستوى وعينا واهتماماتنا الثقافية وتوسع مجالات نشاطنا.

تعاون علي خلف غزال معنا في تكوين تنظيم طلابي، كان التنظيم المهني الوحيد الموجود في المدرسة وربما في القضاء كله، وكان هذا التنظيم يمارس نشاطه بفعالية الى حد ما وشكل قوة التحدي الرئيسية التي واجهت تنظيم البعث (الاتحاد الوطني) الذي سعى منذ البداية الى فرض هيمنته الكاملة على طلبة الثانوية بوسائل الترغيب والترهيب او بهما معا بعد عام 1968، حيث استولى البعثيون على السلطة، وكشف اتحادنا زيف ادعاءات البعث الثورية والتقدمية.

واتذكر اولى لقاءاتنا لغرض تأسيس المنظمة الطلابية مع المناضل الطلابي الشجاع لؤي ابو التمن الذي كان وقتها مسؤولا عن ثانويات بغداد. تمت تلك اللقاءات في مقهى الحيدرخانة في شارع الرشيد وبواسطة صديق كان طالبا في كلية الاداب في جامعة بغداد. بعد ذلك واصلت الاتصال به لفترة من الزمن تعلمت منه الكثير عن النشاط الطلابي وتوجيهات عن كيفية العمل بين الطلبة وعن تاريخ الحركة الطلابية التقدمية في العراق.

ومن الاسماء التي ساهمت في ذلك النشاط بالاضافة لنا، معن عبدعلي، عماد خلف حمادي، عباس شمخي، الشاعرصلاح مهدي، الفنان قاسم حمزة، الكاتب احمد المهنا، عباس معن، عقيل ابراهيم، عقيل مزهر، صبحي عبيد، حمزة طاهر، محمد كاظم، تركي الشطب، علي حمد، رافد محمود، موفق حمود، حسام السيد حمزة حسين مطر،خالد عبيد، طه صبري وغيرهم ربما خانتني الذاكرة في تذكرهم، جميعا فمعذرة.

فقدان هذا الصديق الوديع، ذهب بي بعيدا في الماضي، والى خزين من الذكريات، ذكريات عن المحمودية، التي كنت اتحرق شوقا، ورغبة للعودة للعيش فيها. اذكر نهاية عام 1969 (تشرين الاول) كنا في اجواء التحضير للانتخابات الطلابية، وهي اول انتخابات تجرى بعد الاحتلال البعثي للعراق، شكلنا لجنة تحضيرية لغرض الاتشراف على العملية وتولي مهمة الاعداد لها. وكان علي خلف احد اعضاء تلك اللجنة بالاضافة الى البطل علي حسن، حسين الشطب، وانا وشخص اخر لا ارغب في ذكر اسمه لاشكالية حدثت ومعلومات مازالت مجهولة عنه.

ومن المفارقات ان تعقد اللجنة اجتماعا لدراسة التحضيرات والخطط المقررة لخوض الانتخابات في منزل الفقيد الاخرعبد الرزاق شعلان المسؤول الاول لمنظمة الحزب في القضاء، حتى اللحظة لا استطيع التفكير، ولا الاجابة على التساؤل المشروع، لماذا نعقد مثل هذا الاجتماع في منزل شخص معروف وربما هو تحت مراقبة الاجهزة الامنية. فربما كنا على اعتقاد او ثقة بان النظام البعثي "جاد" في مشروعه التقدمي، او هو ملتزما بتعهداته "اجراء انتخابات حرة وفي اجواء ديمقراطية" او هذا ما كانت تردده ابواق الاعلام البعثية. المهم اننا عقدنا ذلك الاجتماع في المكان الخطأ.

وانا اعيش اليوم لحظات حزن لفقدان هذا الصديق الطيب، تذكرت تفاصيل ذلك الاجتماع ، وما دار فيه، وما حدث بعده. حضر الاجتماع عبد الرزاق شعلان، علي حسن، علي خلف غزال، و(س) وانا، تخلف عن الحضور لظروف امنية، عضو اللجنة الاخر حسين الشطب. استمر الاجتماع حتى ساعة متأخرة من الليل تجاوزت منتصفه. وتم الاتفاق على ما جاء من قرارات للهيئة الطلابية ومنها اسماء مرشحينا، مرشحي "القائمة الديمقراطية" في مواجهة القائمة البعثية "الموحدة" وكان الاختيار قد وقع على الاسماء التالية:
علي حســن عن ثانوية المحمودية
حسين الشطب عن ريف اليوسفية
طارق الجنابي عن اللطيفية

كان الاخير من البعث (اليساري) الذي دخل معنا في تحالف لخوض تلك الانتخابات، لكنه قبل يوم من موعد اجراء الانتخابات "اعلن" انسحابه من المشاركة" وادى موقفه الى فشلنا وفوز القائمة المنافسة.

خرجنا نحن الاربعة من الاجتماع (علي حسن، علي خلف والشخص (س) وانا) وما ان خطونا بضع خطوات باتجاه يسار المنزل، انقسمنا حيث توجه علي حسن شمالا نحو سوق المدينة بينما مضينا نحن الثلاثة باتجاه اليسار. لم تمضي دقيقة او اثنان حتى سمعنا اصواتا تنادي "قف.. قف ..قف" فبادر الصديق علي حسن الذي وقع في الكمين بالتلويح لنا ان "اهربوا" فركضنا الى الامام ودخلنا اول مخرج (دربونة) تقع على اليمين وتؤدي الى سكة القطار، التي عبورها يعني النجاة لصعوبة متابعتنا الى الجهة الاخرى. ما ان دخلنا تلك الدربونة، اختفى الشخص (س) فوقفنا انا وعلي نحاول ان نجده، لكن عبثا ذهبت محاولتنا، اختفى وكأن الارض قد ابتلعته.

المهم تمكنا (علي وانا) من عبور سكة القطار ودخلنا في طرق وعرة بين اشجار البساتين الممتدة على طول الطريق حتى النهاية الثانية لمدينة المحمودية حيث وصلنا شارع السينما في محلة الجديدة حوالي الساعة الثالثة صباحا. تمشينا في الشارع (السينما) المؤدي الى الشارع الرئيسي حيث المقاهي مازالت فاتحة والمطاعم تهيئ وجبات الافطار. دخلنا احدى المقاهي وقمنا بازاحة الاتربة والطين عن اجسادنا المتعبة وشربنا الشاي، ومن هناك قررنا الذهاب الى بيت علي القريب في محلة السراي. وما ان وصلنا فوجئت بان يفتح لنا الباب والد علي الذي كان صاحيا على ما يبدو، استقبلنا بالترحيب مع ابتسامة عتاب اكثر منها زعل او غضب.

والد علي، انسان طيب ولطيف ومؤدب وكثير الحرص على ارضاء الناس. عمل شرطيا لسنوات طويلة (سائق) وتولى (قيادة) السيارة (المسلحة) الوحيدة لشرطة المحمودية، وهي خضراء اللون وتتميز بوجود المدفع الرشاش فوق قمارتها. كان ذلك قبل عام 1968، كان لهذه السيارة حضور واضح في المحمودية لان مهمتها "ملاحقة" المجرمين ومنهم "الهاربون من وجه العدالة"، هذه "الشغلة" تغيرت، واختفت المسلحة، وحل بدلها الكثير من السيارات (الرسمية والسرية) ومعها الشرطة رجال الامن الذين تضاعف عددهم في القضاء، واصبحت المهمة ملاحقة نشاط، كل نشاط سواء كان سياسي، ديني، او رياضي، او فني، تقافي، خاصة التقدمي منه. اقصد هنا النشاط غير البعثي حيث كانوا يرون فيه تحديا لهم وتهديدا لسلطتهم.

جلس والد علي معنا بعض الوقت، بعد ان احضر لنا "الفطور" ثم تركنا محذرا من ان هذه الاعمال "ما وراها فايدة" بقينا نستعيد تفاصيل الحدث ونحلل ونستنتج الى ان بلغت الساعة الخامسة او السادسة صباحا، فقررت الخروج، وتركت علي الذي همس في اذني وهو يودعني عند الباب، الى النوم فورا.

وانا في طريقي الى البيت الواقع في الجانب الاخر من المدينة، سلكت عدة ازقة فرعية خشية ان يراني احد في المحلة (السراي) في ذلك الوقت المبكر من الصباح، ومن تلك الازقة الى سوق المدينة، الواقع في قلبها، ويشكل شريان الحياة الرئيسي لها. وانا اتذكر اليوم تلك الاحداث، تذكرت هذا السوق وشخصيات شعبية مثلت علامات بارزة فيه.

سوق المحمودية، اشبه بمهرجان في ساعات الصباح الباكر، حيث تنطلق حناجر الباعة ب"الصراخ" احيانا، بينما يتجول الموظفون وبعض الوجهاء من اغنياء المدينة يتسوقون، واثناء ذلك يعلقون او يكتفون باستعراض اناقتهم. دخلت السوق من الجانب الايسر حيث تجلس بائعات القيمر والحليب (اتذكر اسماء بعضهن حمزية، فضيلة، زنوبة، ولكل واحدة منهن شخصيتها المميزة) وتحتل الجانب المقابل "فرشات" لباعة التمر والفواكة وكبة "علية".

تذكرت حسين الملا علوان وهو ينادي ترويجا لبضاعته "تمر يا عرب" الى ان يبلغ به اليأس اخر النهار فيتحول الى "نعل يا عرب" وكان هذا الرجل الطيب احد معالم السوق ويشكل هو وصاحبة الكبة الشهيرة "علية" ثنائي محبوب يقصده الكثير من الفقراء والشغيلة الكادحة من ابناء المحمودية والفلاحين الفقراء من الريف المحيط بالمدينة.

لم يتوقف هذا الشريط السينمائي عند هذا، تذكرت شخص اخر لا ارغب في ذكر اسمه هنا، كان هو الاخر "معلما" او هكذا تحول بسبب صياحه. كان ذلك قبل انقلاب شباط عام 1963، حيث يصرخ وينادي "عاش الزعيم الزود العانة فلس" لكن ذلك الامر تغير بعد البعث الثاني 1968. واتذكر يوم جاءني ومعه صديق عزيز (قريبه) ليأخذ رأيي في رغبته "التقديم" الى الكلية العسكرية.

كنا انذاك في السنة الاخيرة من الدراسة الثانوية، وكنا نحضر للامتحانات العامة (البكالوريا) ذهب هذا الشخص الى غايته، واصبح ضابطا في الجيش، وكان يجيد استعراض البدلة التي تتلاءم مع غروره، وحبه الشديد للمظاهر والفخفخة.

تنكر هذا الشخص ل "من زود العانة فلس" الذي ضحى بحياته من اجل بناء عراق مزدهر تسوده العدالة والرفاه. ولم يكن الوحيد في فعلته هذه، فقد تنكر الكثير من العراقيين لما قدم الزعيم عبد الكريم قاسم من تضحيات وما انجز من مشاريع في فترة حكمه القصيرة. ونسوا او تناسوا القيم ونبل الاخلاق التي جعلته ابرز حاكم وطني عراقي تميزت شخصيته بحس العدل والانصاف والتسامح والرحمة، الى جانب نصرة المظلوم، والدفاع عن حقوق المظلومين، واكثر من هذا كله، في عهده، وفي سنوات حكمه، كان الوحيد بين حكام العراق، الذي لم يميز بين عراقي وعراقي اخر، بسبب دين او مذهب، قومية او عرق، او معتقد، كانت المساواة بين ابناء الوطن، في رأيه، جوهر الحياة الحرة الكريمة.



 

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter