|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  27  / 9 / 2016                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

حروف من سيرة الفقيد باسم الصفار

عبدالإله الياسري
(موقع الناس)

شرع الأستاذ المصريّ إبراهيم السنوسيّ يدرّسنا اللغة العربيّة ، في الصف الثاني المتوسّط، في ثانويّة الخورنق، في مدينة النجف، للسنة الدراسيّة 64 - 1965م. وما إِنْ حان درس الإنشاء، فدخل الصفّ مشيداً بموضوع لأحدنا؛ حتّى ظننت أنّ موضوعي هو المعنيّ.

وبينما أنا قد هيّأت نفسي لقراءته؛ دعا الأستاذ زميلي باسم حميد الصفّار، ليقرأ علينا موضوعه المشاد به. ساءني ذلك، واغتظت آملا في أن أدحر غريمي الصفّار، في الشوط القادم من درس الإنشاء. لكنّه لم يندحر. بل دام هو السبّاق في كلّ الأشواط...

كان زميلي الصفّار يميل إلى الشغب البريئ في الدرس. واذا ما تلبّس على الأستاذ الأمر؛ اعترف بشغبه صادقا جريئا. وكنت أُجلّ فيه خصلتي الصدق والجرأة. ومن شغبه أنْ طفق الأستاذ يشرح قول شوقي:"وسقى الله صبانا ورعى". فسأله عن معنى "الله". فردّ الأستاذ المؤمن عليه سؤاله باللهجة المصريّة :"ده كفر وإلحاد يا صفّار! ده شيوعيّة!". فاحتجّ تلميذ منا : "الشيوعية خير لك يا استاذ. لولا اعتقال المدرسين العراقيين الشيوعيين في 8 شباط 1963م؛ لمَا جئتَ الى العراق، ولمَا سمعنا منك هذا الكلام".

لعل استاذنا المصريّ الكهل الطيّب لم يدرك عقبى الاتهام بالشيوعية في العراق حينذاك. ولكننا نحن ــ التلاميذَ الأغرار ــ أدركنا عقبى قوله. فضجّت حناجرنا تظاهراً عليه ،حتى بلغ ضجيجنا ادارة المدرسة، فأقبل الاستاذ محسن البهادلي مُغضَبا، وطرد الصفّار والآخر المحتجّ من الدرس فورا. وتوعّدنا منذراً؛ لكنّ الإحتجاج لم ينتهِ بطرد زميلينا، ووعيد المدير، بل استمرّ مُغيّراً مجراه الإنفعاليّ؛ إذ دسّ أحد شياطين الصفّ صورة بيننا، للممثّلة المثيرة "بريجيت باردو"، وهي عارية. فتلاقفتها الأيدي سرّاً وعلانية. فراب الأمر الأستاذ. واضطرّته الحال، إلى أن يوقف الدرس مذهولاً بإزاء القوّة الخفيّة التي زلزلت التلاميذ، وصرفت عقولهم عن الدرس. حينئذ رغبتُ بالغياب عن الحضور. فاستأذنت الأستاذ خارجاً، ووقفت حيث يقف زميلاي المطرودان.

سألني زميلي الصفّار :"ما الخبر ؟". ولمَّا سمع مني الخبر اليقين. قال:"لو لم يحسب المدير أني أتملّقه، ليعفو عني؛ لأعلمته اسم صاحب الصورة العارية، لينال جزاءه . ما ذنب هذا الأستاذ المصريّ المسكين؟". أعجبني قوله، ووقع مني موقعاً حسناً، بنَى أساسا لصحبة طويلة...

قضيت عطلة الصيف، أقرأ كتب "المنفلوطيّ" و "جبران"، واتمرّن على "البيان" فيهما استعداداً لمنازلة صاحبي في الإنشاء؛حتى مضت العطلة واستُؤنفت الدراسة، لسنة 65 - 1966م. وبيناً أنا أفكّر في هزمه أدبياً في الأشهر الأولى من الثالث المتوسّط؛فإذا هو أصبح بطل درسي الهندسة والجبر، إذ أبدى تفوّقاً عجيباً فيهما. لا حول ولا قوّة لي عليه. فاستسلمت له طوعاً،وجعلت أستدرك غلطي بصوابه في حلّ تمارينهما. ولم يعد يحفل بدرس الإنشاء،إذ تجاوز الخاطرة والقصة القصيرة،الى ما هو أعمق واغنى، متأثراً بالرواية والمسرحية.وكاد مسرحنا المدرسيّ يعرض له مسرحيّة. لكنّها رُفضت. وأنّى لمثل صوته أن يُسمع، وقد أصمّ أولو الأمر سمعهم؟، ولكم ضقنا صدراً بصممهم! . ولم نتنفّس الصعداء، وتنشرح الصدور، حتى تاسسست "ندوة شموع الأدب" في صيف 1966م ، لتحتضن مواهب أدبيّة، لفتيان غِضَاض، لمَّا يبلغوا العشرين بعد. فيا حبّذا تلك الندوة الأدبيّة، التي رحبت لطموحاتنا، وأنمتها شعرا ونثرا!. ولئن عرفت صاحبي قاصّاً من قبل، فقد عرفته في أماسي هذه الندوة المباركة ناقدا طامحاً. وبين القص والنقد بات شعاعه الأدبي يسطع بين لِداتنا، في كلّ أمسية. وما كان نجمه ولا مثله ليأفل ، لو لم تستولِ عصبة 8 شباط على السلطة ثانية، في عام 1968م، فتطفئ تلك الشموع الأدبية المضيئة توجّساً، واستهانةً بالأدب، وبقيمة الإنسان وكرامته...

حين جزنا الثالث المتوسط ناجحينِ، ووقفناعلى مفرق طريق. ذهب صاحبي الى مدينة كربلاء، ليدرس في مدرسة المعلّمين، ومكثت أنا بمدينة النجف، لأدرس في اعداديّة النجف. وبعد أربع خلون من السنين، تعيّن معلّماً في كركوك في عام 1970م ، بعد أن أنهى سنة من الخدمة الإلزاميّة في الجيش.

وعلى الرغم من التباين الدراسي والمكاني بيننا، لم يقطع صلته الفكرية والروحية بي. ولم ينِ عن أن يحضّني على التكلّم بالمسكوت عنه في نوادي الشعر، والتفكير في اللامفكر فيه اجتماعيا وسياسيا ودينياً،. كنّا اثنين يبدوان كالواحد، انقطاعاً الى بعضهما في عمق الإخاء وصدق المودّة...

وفي يوم من ايّام السبعينيات السود، تعجّل في طلبي قادماً من شماليّ العراق الى الكوفة، وتعجّلت في تلبيته، وكلانا تحت مطرقة الحزب الحاكم، ومجهره السريّ. لا لشئ، إلا لأننا لا نريد ان نفكّر في شئ ، بعقل غير عقلنا. وانطلقنا نتحدّث بما يتحدّث به الجنديّان المجروحان في جيش منهزم. وما فتئت أذكر من الحوار الطويل بيني وبينه أشياء. سألني : "ما أخبار التعليم في النجف والكوفة؟". قلت له بهمس ووجل محاذراً عيون السلطة المبثوثة، في كل مكان من حولنا : "دخل المعلّمون والمدرّسون في الحزب الحاكم ابتغاء النجاة من الموت، ولم يفضل من أصدقائنا إلا القليل القليل الذي لا يرى معنى لحياته، من دون حريّتة الفكريّة، كمثل الذين سافروا ولم يعودوا الى العراق، وكمثل الإستثناء الأستاذ محمّد تركي المعمار. ذلك المعلّم البطل الذي تحدَّى قرار تبعيث التعليم، وآثر السجن على العبودية والخنوع للسلطة ، معطياً درساً تاريخيّاً في البطولة لمعلمي العراق. لله درّه! كأنّه جيش وحده ."

قال لي بصوت خفيض : "إنّ الحبل يوشك أن يلتفّ على كلّ الأعناق الباقية. لعلّك لن تراني، أو لن اراك بعد اليوم. حان أن يقول كلّ للآخر: وداعاً." ثم أطرق وقال بألم شديد : "أيّ حزب هذا الحزب الحاكم ؟ أيدعو الى الحريّه شعاراً، ويُكره الناس على الإنتساب إليه بالقوّة، ويرهبهم بالموت؟ ".

قلت معلّقاً : "من ينتسب اليه يمت أكثر ممن لا ينتسب. نحن لا نرفض الإنتساب اليه، لأننا نكره الحياة ، ونحبّ الموت بل لأننا نحبّ الحياة، ونجلّها عن أن تكون به رخيصة وتافهة."

قال : "نعم. أعتقد أن الإبادة الجسدية هي أقلّ قسوة من الإبادة الفكرية والروحية للشعوب. أيّ حياة للإنسان مع القطيع؟"... ثم نجوت من الموت الزؤام في العراق لوذاً بموت مختلف الأسم في المغرب. في عام 1979م. وانقُطِع بي . فلا بريد بيني والعراق. لكنّي لم اكفف عن السؤال عن أهلي وأصدقائي وتلاميذي ، ما استطعت الى ذلك ، بين السيّاح العراقيين القادمين الى المغرب. ولم أقف على أثر لصاحبي، حتى تهيأ لي زائر عراقي كركوكيّ في المغرب ، واطمان له قلبي، فسألته عنه واصفاً إياه (هو معلم نجفيّ اسمه باسم لكن اسمه الرسميّ عبدالأمير حميد الصفار...) قال : "ان كنت تسأل عن باسم ، فاني لم اسمع به بين المعلمين في كركوك.وإن كنت تسأل عن المعلّم عبدالأمير، فانه قد قُتل في الحرب قبل سنين..."... أضحت إقامة المواطن العراقيّ في المغرب، أواخر الثمانينيات، مشروطة بصلاحية جواز سفره، أي برضا الحكومة العراقيّة عنه، بعد أن تقاربت حكومتا الرباط وبغداد، زمن الحرب العراقية ـ الإيرانية؛ فإذا أنا في مرمى الحكومتين. ولم أشعر بالأمان من بغتاتهما، حتى التجأت الى الزمهرير الكندي في عام 1989م .وإذا ضمّدت كندا كثيراً من جراحي النازفات، فان جرحاً نازفاً على صاحبي لمّ يتضمّد .

وفي يوم قارس من شتائها في عام 1994م، حمل إليّ البريد رسالة من دمشق، من المفكّر هادي العلوي ـ طاب ذكره ـ يقول لي فيها :" أدعوك لأن تدعم مجلة "عشتار" النظيفة جداً في استراليا. وهذا عنوان رئيس تحريرها : باسم حميد (...)" كتبت مستجيباً له، وأنا شاكّ في ماهيّة المكتوب اليه. أهو صاحبي القديم أم غيره.؟ ولم أكد أصدّق أنه هو عينه، حتى وصلت إليّ من السويد رسالة أخرى من أ.د. فاخر جاسم ــ طال بقاؤه ــ وفي طيّتها بطاقة لي، من استراليا، ذُيِّلت بإمضاء "باسم حميد الصفار". فكان ما كان من فرح لا يكاد يصفه حرفي.

ثم انعقد حبل الوصل لنا مجدّدينِ ما بليَ من حبّ، وباعثينِ ما مات من أمل .. وبينما نحن نتساجل في مختلف الشؤون مكاتبة حيناً، ومهاتفة حيناً آخر؛ باغتتني رسالة قادمة من صاحبي، في حزيران 2000م :"عندي خبران لك يا عبدالإله : جيّد وسيئ. أمّا الجيّد : فقد أتممت رقن مخطوطتك الشعريّة (أرق النجم) إعدادا لطبعها. وامّا السئ، فإني أريد أن أراك، في استراليا او كندا،حسب ظروفك ، بعد سفري للسويد، في تموز القادم ؛ لأن مرض السرطان لا يمهلني إلا قليلا"... لم أكن على يقين ، من أنْ سيتاح له من الوقت في الحياة لأراه؛ فاعتزمت السفر إلى السويد، قبل فوات الأوان. ووجدته ينتظرني في مدينة "هلسنك بورك" السويدية، وقد هدّ جسمه الإعياء، وغيّره المرض. وما كدت أعرف منه إلا ابتسامته الجميلة، التي أضاءت وجهه المرهق بالعراق والمرض. ولكنّه كان رابط الجأش، راسخ الكلمة، دمث الخُلق... وقبيل عودتي أشار عليّ، وعلى صديقنا أ.د. فاخر جاسم ، أن نجتمع لأمر ما في نفسه، فاجتمعنا.

قال : "نحن نعيش بخير. ولنا أصدقاء يعيشون في جحيم، تحت الحصار الإقتصادي في العراق. ولهم حق علينا. فلنتعاهد على مساعدتهم بالمال شهريا، ولنبدأ الآن قولا وفعلا..."... رحم الله أبا أحمد، الأستاذ باسم حميد الصفار راحلا في 13 - 9 - 2003م ، وإنّي لثكلان ومُرَزَّأٌ برحيله.

المجد والخلود لروحه،في ذكراه السنوية الثالثة عشرة، والصبر الجميل لذويه ومحبيه.
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter