|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  26  / 9 / 2017                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

فاضل جويس
الرجل الصاخب والثوري العنيد

قاســم محمــد غــالي
(موقع الناس)

سمعت بخبر وفاة فقيدنا المناضل فاضل جويس بعد فترة ليست قصيرة على هذه الخسارة الصادمة لانسان عزيز، ونصير حقيقي لقضايا الشعب وفكر الطبقة العاملة. وما لفت انتباهي لشخصه صلابته وتمسكه بافكاره، رغم قسوة المعاناة وما تعرض له من تعذيب وحرمان في وقت مبكر من حياته. اتصلت بالصديق العزيز والرفيق الشجاع جواد كاظم الطائي (ابو اوس) اسأل عن الامر، فلم يقصر في الاجابة ولا في التوضيح وكذلك في العواطف الصادقة اتجاه الفقيد، اذ كان قد جالسه وتحدث معه قبل ايام قليلة من وفاته.

تعرفت على فاضل في مقر الحرس القومي في المحمودية في شباط عام (1963) في النصف الثاني من ذلك الشهر. يقع المقر في الطرف الشمالي للمدينة، وكان قبل احتلاله من قبل الحرس القومي المبنى الخاص لنقابة المعلمين - فرع المحمودية. وهذه قصة مهمة سأروي تفاصيلها بعد الحديث عن شخصية فاضل واحواله ونشاطه السياسي. لا زلت اذكر جيدا ملامح وجهه المدمى واثار التعذيب حول عيونه. كما عرفت من بقية المعتقلين الذين كانوا معه، حجم التعذيب الذي تعرض له، وعرفت ايضا انه الاصغر سنا بينهم واقلهم حجما واضعفهم جسدا، مع ذلك تحمل كل هذا الاذى بصمود وارادة قوية.

عندما عدت للوطن بعد عام (2003) زارني فاضل بشكل مستمر، حدثني عن حياته وعن عمله وعن اسباب انتقاله للعيش في تكريت. حدثني عن اشياء كثيرة واحداث مهمة وعن حجم المعاناة التي تعرض لها العراقيون في ظروف الحرب والارهاب والحصار وتردي الاحوال المعاشية وكل شيء تقريبا. كان يتحدث بمعرفة عميقة وبصيرة جيدة واهتمام لم ينقطع بقضايا الناس.

اعتاد شباب او لنقل ابناء المحمودية على ارتياد المقاهي، البعض اتخذ منها مقرا له او عنوانا للوصول اليه، وكنا نتنقل بين عدة مقاهي، اذكر منها، مقهى ابو صيدا ومقهى كاظم علي النجار ومقهى مشوار ومقهى محمد بحون والشباب وغيرها. وتحول هذا السلوك (عادة جديدة وظاهرة ثقافية) بعد ان كان مجرد تعبير عن رغبة للهو وقضاء الوقت، حيث تفشت النقاشات السياسية والاهتمات الثقافية وانتشار الافكار الجديدة، عن احوال اهل البلاد واحلام الشباب وتطلعاتهم، وتخللها متابعة الاخبار وتبادل الكتب والصحف والمجلات.

كان لفاضل حضور مميز عندما كنا نلتقي في مقهى، او نجتمع في مكان عام، حيث تسمعه بوضوح وتتعرف عليه بسهولة، حين يعلق على موضوع او يروي حادثة او يقول نكته، بصوته المدوي وحماسه الشديد. لا يعرف الهدوء، ولا يتوقف عن الحركة. وينطبق عليه وصف الرجل الدؤوب والانسان المكافح. كانت تعليقاته لاذعة ومصيبة جدا، اما نكاته فذكية حادة لا يقوى على تأليفها او صياغتها ابرع كتاب وادباء الفكاهة والكتابة الساخرة.

فاضل انسان طيب وقريب من الناس وشديد الاهتمام بالاخرين، وهو ثوري حقيقي وعنيد. انتمى للحزب الشيوعي في وقت مبكر من حياته، وتعلم فيه القيم الوطنية والثورية والتزم العمل بجدية في خدمة قضية الشعب ومساندة مطالب الفئات الكادحة وخاصة الطبقة العاملة. وكان من اوائل العمال الذين عملوا في معمل الاسكندرية للالات الزراعية. هذا المشروع نفذته الخبرات السوفياتية في اطار اتفاقية التعاون بين العراق والاتحاد السوفياتي (سابقا) قبل عام (1968) وكان من المشاريع الصناعية الناجحة حتى جاء البعث فحوّله الى ثكنة عسكرية لصناعة "ادوات" الدمار والقتل.

كان يحب الطبقة العاملة بشغف لا نظير له، وعندما سألته ذات مرة عن سبب هذا الحب، لا زلت اذكر اجابته البسيطة لكنها بليغة، وكأني لم اسمع مثيلا لها. اجاب لاننا بدونها (الطبقة العاملة) نموت جوعا. يقصد ان الطقة العاملة هي منتج "الخيرات المادية".

جاء فاضل من عائلة متوسطة الحال، فوالده (بياع شراي) وتطلق هذه التسمية على من يقومون بشراء وبيع الحيوانات (الدواجن) خاصة البقر والغنم والماعز، وبحجم اقل الخيول والحمير. وقد عرفت والده عندما كنت صغيرا ارافق والدي اثناء ذهابه الى "الوقفة" وهي السوق الذي تجري فيه صفقات البيع والشراء، كان والدي على علاقة طيبة بوالد فاضل، وهو انسان رائع وطيب وسهل المعشر، ولا يبخل في عرض مساعدة او تقديم خدمة دون مقابل ودون تذمر. ولفاضل اخوان منهم، جاسم (معلم) جسام (موظف في المحكمة) سلمان (بقال) وعباس (عبوسي مصاب بالتوحد) تسكن عائلتة في محلة الجديدة، قريبا من سكن عائلة الصديق جواد كاظم الطائي (ابو اوس) الذي يعرف عن فاضل اكثر مما اعرف واظن انهما على علاقة طيبة وقديمة.

هذا السوق، الذي يدعى "الوقفة" يقع في قلب محلة الحسينية، جاءت هذه التسمية، حسب اعتقادي وتحليلي (اتمنى ان يكون سليما) نتيجة وقوف الناس (طرفي عملية البيع والشراء) وكذلك الحيوات (مادة التجارة) في مستوى واحد، في مكان واحد، دون تعال او تميز، وهذا امر في غاية الجمال والجاذبية. يبدأ السوق في الصباح ويستمر لساعات تبلغ الظهيرة ثم ينفرط بهدوء وكأن شيئا لم يكن. انه اشبه بالمسرحية او احتفالية تتخللها الكثير من الفعاليات والتحديات والانجازات. وكان من بين الوجوه التي لها حضور شبه دائم في السوق، زبالة الحمد، احمد كرشه، العم كريم (والد قيس ومخلص) اولاد سلمان الفرج، وعدد اخر لم تسعفني الذاكرة للوصول الى تلك الاسماء.

في الاعوام بين (1964 و1968) شهدت المحمودية، كما بقية ارجاء البلاد، حراكا سياسيا وثقافيا، صار ينمو بسرعة مذهلة، واستقطب الكثير من شباب المدينة، وبدأ المناضل المغدور عبد الرزاق شعلان يعمل من اجل اعادة بناء منظمة الحزب التي تعرضت الى ضربة ٌمدمرة في انقلاب شباط الاسود عام 1963. ولم تمض سنتان او اكثر بقليل حتى تمكن ابو رفاق من تحقيق ذلك الهدف، واستطاع ربط التنظيم الجديد بالحزب. وكان فاضل من ضمن الفريق الذي ساهم في انجاز تلك المهمة. واصبح احد اعضاء لجنة تنظيم المحمودية حتى عام (1970)، حيث تعرض التنظيم لضربة قاسية من قبل اجهزة البعث القمعية، حلت على اثره المنظمة الفتية. ونتيجة لهذا التطور فقد فاضل دوره، لكنه بقي لصيقا بالحزب وفيا لمبادئه.

بعد ذلك الحدث، حصلت اشياء كثيرة وتطورات سريعة وتحولات متعددة تتعلق بنشاط الحزب الشيوعي في تلك الفترة لا يتسع المجال لذكرها في هذه المناسبة. لكن شهادة مهمة لا اريد تجاوزها، هي تعرفي عام (1970) على المناضل حسين سلطان (ابو علي) ودوره المؤثر والفعال في اعادة بناء المنظمة حيث كان المسؤول الاول لتنظيمات اطراف بغداد. وقبل ذلك على الكادر الطلابي المعروف الذي تعلمت منه الكثير لؤي ابو التمن.

ومن المفارقات الطريفة في حياة فاضل، وتحديدا، بعد انقلاب (1968) ظهرت في المحمودية (دون سابق انذار او تحضير) شخصية عسكرية مثيرة (عريف شرطة) يمتطي دراجة بخارية لان احدى رجليه معطوبة (شيع انها من ايام النضال البعثي) اتضح لي ان هذا الرجل "الجديد" هو عم احد اصدقائي في مرحلة الثانوية (طه عبيدغنام) وهو شاب لطيف وعلاقتي به قوية جدا. لكن مع ظهور "العريف" تبين ان صديقي هذا كان ينتمي لحزب البعث، هذا الاكتشاف ادهشني لاني لسنوات لا اعرف عن صديقي اي اهتمام سياسي. لماذا اورد هذه القصة؟ وما علاقة فاضل بها؟

السبب في ايرادها هو ان العريف الذي اسمه هادي غنام بدأ القيام بمهمة خارج الدوام الرسمي، يقال "تطوعية" بسبب كراهيته للشيوعية. ناصب هذا "العريف" فاضل جويس العداء، عداء غريب، والسبب ان تعليقات فاضل كانت تصله ويسمع بها مما اثار حنقه، واخذت تزيده حقدا ورغبة جامحة في الانتقام. تفنن فاضل في توصيف العريف، وفي شرح مؤهلاته الثورية وافكاره المثير للسخرية.

تأتي الان قصتي في الوصول الى مقر الحرس القومي، اذ كان بين المعتلقين خمسة افراد من ابناء عماتي الثلاث. كلهم اتهموا بالانتماء للحزب الشيوعي، وتعرضوا لمقاطعة من قبل الاباء وتركوا فريسة لجلاوزة البعث الذين كانوا على عداء وخصومات ومشاكسات معهم تعود الى عام 1961، حيث شارك عدد منهم في كسر اضرابات الطلبة ضد حكومة عبد الكريم قاسم. لقد جاء الوقت المنتظر، وحانت لحظة الانتقام، فتعرضوا للتعذيب والفصل والسجن.

وفي مساء يوم بارد (وقت الغروب) من شهر شباط، اظن منتصفه، داهمت بيتنا عمتي الكبيرة، وهي تبدو على عجلة من امرها. تحدثت بسرعة غير معهودة في تصرفاتها وفي شيء من الحنق والالم. فجأة اشارت لي بأصبعها، وفهمت انها تريد مني ان اتبعها، خرجت فورا وسرت اتقفى خطاها الى بيت عمتي الثانية الواقع جوار بيتنا. قالت "ذوله الولد راح يموتون جوع وهذوله اللي ميخافون الله يريدون يموتوهم". عرفت من نبرات صوتها وقلقها وخشيتها ان يعرف زوجها، جعلها تعمد الى هذه السرية وان هناك مهمة تنتظرني. عمتي هذه لها ولدان بين الخمسة، وهي الاكبر سنا، والاكثر نفوذا في العائلة، والاقوى شكيمة وقدرة على التصرف، وكذلك الاغنى ماديا، لكنها الابخل. رغم كل تلك الصفات، اكتشفت فيها عاطفة نبيلة ومحبة وعطف على اولادها وعلى اولاد اخواتها وعلى بقية المعتلقين بشكل متساوي. كانت تردد "يمه كلهم ولدنا". كان احد هؤلاء الخمسة يعمل وزوجته (معلمين) في مدينة الرطبة، القريبة من الحدود الغربية، جاءوا بهما لغرض الاعتقال في المحمودية. وتلك قصة لا مجال لروايتها هنا.

طلبت مني ان اقوم بمهمة ايصال اكل للجياع "المعتقلين" وبشكل سري ويومي. وضعت خطة محكمة، تأتي في الصباح وتترك "السفرطاس الثلاثي القدور" في بيت عمتي المجاور لبيتنا بوقت محدد في الصباح، ثم يأتي دوري بأخذه والذهاب به الى مقر الحرس القومي الواقع في محلة النعمان، مسافة ليست قليلة. ويتكرر ذلك لوجبة ثانية (العشاء) وبشكل يومي. قالت "ماكو غيرك عمه اعتمد عليه وهاي شغلة صعبة".

لم تكن مهمة يسيرة، وما يجعلها ممكنة اندفاع الشباب وخاصة الصغار منهم، للمغامرة وحب التحديات. اذهب الى هناك فأدخل المقر بسهولة، الكل يعرفني، فهم جميعا من ابناء "الولاية" وابقى وقتا يطول احيانا الى ساعة من الزمن. الى جانب فاضل، كان هناك العديد من المعتقلين من ابناء المحلة (الحسينية) الذين اما اعرفهم او اعرف اهاليهم، لكن شخص واحد ما تزال صورته شاخصة امامي حتى اليوم، ذلك هو قاسم زبالة. هو من الجيران، يقع بيتهم خطوات من بيتنا. ارى والده يوميا. والسبب في ذلك هو الاسلوب الذي داهمت به "قوات" كبيرة من الحرس القومي بيت قاسم لغرض القاء القبض عليه، حيث كان مختفيا في مكان بعيد وجاء لبيتهم لغرض ما او حاجة. لقد كان مشهدا مرعبا، تحولت "الدربونة" الى موقع اشتباك مسلح قابل للانفجار في اية لحظة.

تببن لنا فيما بعد، ان معرفة الحرس القومي بوجود قاسم في البيت، كان بفعل وشاية من جارتهم التي تدعى "نسوم الهوى" وهي امرأة شرسة وسليطة اللسان، وتكره الشيوعية بشكل غريب، لان تلك الكراهية ناتجة عن جهل وتدني خلق.

سمعت الكثير عن اساليب التعذيب البدائية من ضرب بالايادي واللكمات وبالالات الجارحة و(الزناجيل) والاجهزة الكهربائية، خاصة (الاوتي) يرافقها الشتائم والاستفزاز والقهر المعنوي والنفسي. اتاحت لي تلك المهمة، وفي ذلك الوقت المبكر من حياتي، معرفة الحقيقة المروعة عن مدى السقوط والانحطاط الذي يمكن ان يصل اليه الانسان بحيث تجعل منه او تحوله الى كائن "شاذ" او وحش "كاسر" يعذب ويقتل دون رادع او قلق او خوف.اي شيء يمكن ان يبرر هذا الفعل القبيح. عرفت كل الاشخاص الذين كانوا يقومون بهذا العمل "القذر" واتجنب هنا ذكر هؤلاء او الاشارة الى الاسماء.

عدد من هؤلاء، غادر هذا الدنيا غير مأسوف عليه، وبعضه ما زال حيا طليقا. وما يثير غضبي، وشعوري على الدوام بفقدان العدل وضياع الحقوق، هو ان اي من هؤلاء لم يحاسب او "يتبرع" بالاعتذار للضحايا، لا الرؤوس الكبيرة ولا الصغيرة. اتذكر احدهم، عرف عنه قسوته في التعذيب، بل قل "وحشيته" وقتها، كان يعمل مدرسا في ثانوية المحمودية، كوفىء بعد انقلاب (1968) بتعيينه مديرا لها، وتدرج بالوظائف بسرعة صاروخية ليصبح وكيلا لوزير التربية للشؤون المالية والادارية في غضون ثلاثة اعوام. هذا الرجل لي قصة معه لكني لا اريد روايتها او الاشارة لاسمه، عندما كان مديرا لثانوية المحمودية كنت ما ازال طالبا فيها.

كما لا اريد وصف الغرف التي يجري فيها التعذيب بشكل مرتب في الصباح الباكر وعلى وجبات وتكليفات منظمة بأشراف مباشر من قيادة الحرس القومي ومنظمة حزب البعث او بالتنسيق بينهما، لانها من الوساخة والبشاعة ما يثير القرف والاشمئزاز.

وانا اكتب عن فاضل، توقفت اتأمل تلك الاحداث التي مضى عليها ما يزيد على خمسة عقود من الزمن، كنت صغيرا، وكانت مهمة صعبة، لم اخبر اهلي بها، لم تكن مجرد مهمة صعبة، كانت "مغامرة" شعرت وقتها بالشجاعة والرغبة في التحدي. كانت بالنسبة لي اول مهمة "نضالية" في حياتي التي لابد ان يكون لها الاثر في اختيار الطريق الذي قادني الى الانتماء لقضية الشعب والدفاع عن مصالحه.

ذهب فاضل وقبله اصدقاء ورفاق عدة، تساقطوا خلال هذه السنوات، الواحد تلو الاخر، كما تتساقط اوراق الشجر، ويتركوا وراءهم كل هذا الفراغ، وهذا الحزن، والالم. هذه لعبة الحياة، قاسية احيانا ومؤلمة اكثر الاحيان.

 

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter