|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  24  / 5  / 2024                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

هل الجندي قاتل؟

هشام يوسف
(موقع الناس)

أقامت النيابة الألمانية العامة دعوى قضائية ضد جريدة "تاتس" الألمانية، المقربة من الخضر، سنة 1994 بتهمة الإهانة المتعمدة والتحريض على كراهية الجيش الألماني. واقتحم فريق من رجال التحقيق والشرطة مكاتب الصحيفة ببرلين لأغراض التحقيق وفي محاولة لاعتقال المحرر مايكل غروس.

لم يكن ما حرك "كتائب" الجيش الألماني ضد الصحيفة غير رسالة من القاريء الشاب توماس كيللر وصف فيها الجنود بأنهم "قتلة مأجورون"، ونشرها المحرر غروس في اليوم الثاني. كان الجيش الألماني يروج حينها للانتقال من التجنيد الإلزامي إلى الجيش المحترف وصارت طائرات الهيليكوبتر توزع المنشورات، التي تدعو الشباب للتطوع في الجيش، عبر طائرات الهيليكوبتر فوق مدينة زالسغيتر. قارن كيللر بين حركة الطائرات فوق سماء مدينته بحركة طائرات صدام حسين التي "قصفت الأكراد بالغاز السام".

قبلها، كانت وزارة الدفاع قد أقامت الدعوى على حزب الخضر، وأحزاب يسارية أخرى، لأنها عممت ملصقاً يحمل عنوان "الجندي قاتل"، واعتبرته إهانة متعمدة للجنود والجيش الألماني. وحصل كل ذلك بعد أن قررت محكمة الدستور الاتحادية سنة 1994 تحرير الجيش من قيود الدستور، التي فرضها الحلفاء بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي تقضي بعدم جواز إنزل الجيش الألماني خارج حدوده.

في ألمانيا يخشى اليساريون من الجيش المحترف لقناعتهم بأنه يحول الإنسان إلى قاتل محترف يتدرب8 ساعات يومياً أو أكثر على إبادة الآخرين بمختلف الأسلحة. وتعود هذه القناعة إلى نص كتبه الأديب الألماني المعروف كورت توخولسكي في الثلاثينات، أي خلال العهد النازي، وقال فيه إن "الجنود قتلة".

آنذاك، درست المحكمة الاتحادية شكوى وزارة الدفاع بتأن وتوصلت إلى قرار لن ينساه العسكر الألمان مدى الحياة: لا غبار على استخدام تعبير"الجندي قاتل" شرط ألا يستخدم عمداً لإهانة الجنود. كان هذا القرار اعترافاً غير مباشر بالمهنة التي يمارسها الجندي، وهو ما أحبط زحف الجيش الألماني حينها ضد الصحافة اليسارية التي تستخدم تعبير توخولسكي المذكور.

وكورت توخولسكي (1890-1935) كاتب وحقوقي وناشر ألماني يساري مات (يقال انتحاراً) في منفاه في السويد بعد أن عجز عن تحمل الآلام التي تسببت بها النازية لألمانيا وللعالم و له. كان مقرباً من الحزب الاشتراكي الديمقراطي في عشرينيات القرن العشرين ثم التصق بالحزب الشيوعي الألماني حتى مماته، لكنه لم يكن عضواً فيه.

لماذا العودة إلى موضوع "الجندي القاتل" الآن؟ لأن وزارة الدفاع الألمانية تدرس إمكانية النكوص عن نموذج "الجيش المحترف" الذي تحولت إليه حكومة انجيلا ميركل سنة2011 بعد أكثر من ستين سنة من نموذج الجيش الإلزامي الذي وضعه الدستور الألماني قبل75 سنة. أي أن وزير الدفاع الألماني الحالي بوريس بيستورياس يحاول العودة إلى الجيش الإلزامي بعد13 سنة فقط من تطبيق نموذج الجيش المحترف.

عولت الحكومة الألمانية على نموذج الجيش المحترف لزيادة عديد الجيش الألماني والإرتفاع بقدراته القتالية إلى مستوى جيوش الناتو الأخرى. لم يصبح الجيش جذاباً للشباب الألمان، ولم تدر الرواتب العالية والأمتيازات رؤوس الشابات. وللمقارنة ينال الجندي الألماني البسيط راتباً صافياً يبلغ 38 ألف يورو كمعدل في السنة، في حين يتلقى العاطل عن العمل 12 ألفاً كمعدل. كيف يبدو الجندي الألماني بهذا الراتب بحسب مقولة توخولسكي؟

ينظر معارضو الاحتراف في الجيش الألماني إلى القضية من منظار اجتماعي اخلاقي قبل كل شيء. فهم يخشون أن يحول الاحتراف الجيش إلى مؤسسة عسكرية مغلقة ومنعزلة عن الحياة الاجتماعية في البلد. وهذا ليس كل شيء، لأن تجربة الجيش الأميركي تثبت ذلك، فالاحتراف حوّل الجيش إلى مجتمع من طراز خاص تسود فيه أعمال العنف والمخدرات والشذوذ الجنسي والاغتصاب. وتتحدث معطيات الجيش الأميركي عن آلاف حالات الاغتصاب(ضد المجندات والمجندين على حد سواء) والقتل داخل المؤسسة العسكرية سنوياً. ارتفع عدد حالات الانتحار بين الجنود بنسبة 15%سنة 2023، وتوفر "المدن المغلقة"، التي أقامها الجيش الأميركي بالقرب من فرانكفورت ونورمبيرغ، وأعمال العنف التي يرتكبها الـ (
Jarhead/ تعني بالانجليزية "رأس الجرة" والمقصود هو رأس الجندي الاميركي الأقرع الكبير الفارغ والرنان مثل الجرة (البستوكة)، أمثلة حية للألمان على مثالب الاحتراف.
والاحتراف حسب رأيهم يتعارض مع الأسس الوطنية التي أقيم الجيش على أساسها. فمعظم المحترفين في الجيش الأميركي هم من العاطلين والسود والضائعين الذين لا يجدون أسهل من الاحتراف لتوفير لقمة العيش. وكشفت أخبار ما بعد احتلال العراق عن آلاف الجنود الاميركيين المتطوعين، من ذوي الأصول اللاتينية والشرقية والأوربية، الذين يودون تزكية مواقفهم الوطنية الاميركية والحصول على الجنسية بفضل الحرب على العراق.

يعتقد الاميركي "الوطني"(الباتريوت) بديهياً أن الثقافة الاميركية هي أفضل ثقافة في العالم، وأن همبرغر ماكدونالد هو الأفضل في العالم، وأن الجيش الأميركي هو الأقوى في العالم. ولن يتردد هذا "الباتريوت" في الهجوم كالصاروخ ليكسر رأسك، كما كسر صاروخ الباتريوت رأس سكود أبان حرب تحرير الكويت، إذا ما قلت له إن الجندي المحترف "قاتل". واعتقد أن "الوطني" بريمر كان يعتقد جازماً أيضاً أن نظام الاحتراف في الجيش هو الأفضل عالمياً ما دام هو النظام المعمول به في الولايات المتحدة، وهذا هو سبب انحيازه "البديهي" لقرار الاحتراف في الجيش العراقي. هذا إذا استثنينا هنا دوافع الاحتلال الأخرى المعروفة.

كان قرار حل الجيش العراقي من أول القرارات التي أتخذها الحاكم الأميركي المدني على العراق بول بريمر بعد سقوط الصنم. وإذا تجاهلنا الجدل حول صحة هذه الخطوة من عدمها ، فلا بد أن نقول أن السيد بريمر، ومجلس الحكم، انتقلا إلى صيغة الجيش المحترف في حينها للتعويض عن الجيش العراقي المنحل دون أي أساس قانوني يستندون عليه.

قد يكون للهجوم "الخاطف" إلى "الإحتراف" في الجيش العراقي، قبل أن تحترف فرق كرة القدم العراقية، مسبباته وشروطه الموضوعية، لكن ذلك لا يعني أنه حقق هدفاً نظيفاً بلا حالة"تسلل". فالأمم المتحضرة تترك القرار حول الجيش، هذه المؤسسة الفائقة الأهمية في الدفاع عن الوطن، إلى برلمان وطني ديمقراطي منتخب، كما يثبت نموذج الجيش في الدستور، وما إذا سيكون إلزامياً أم محترفاً، وتحدد التفاصيل حول التجنيد وفترة الخدمة الإلزامية، أو التطوع وحده الأدنى.

يدفعنا هذا القرار لطرح السؤال التالي: إذا كان جندي الثلاثينات(جندي توخولسكي) المكلف "قاتلاً" فكيف هي الحال مع الجندي المحترف هذا اليوم؟ الرد يذكرني بحكمة شهيرة لبرنارد شو يقول فيها "إذا سقطت المرأة أصبحت عاهرة وإذا سقط الرجل أصبح شرطياً". أنا متأكد أن شو لم يشاهد في زمنه شرطية، ولو عاش وشاهد شرطيات اليوم لحار في وصف حالة "امرأة وشرطية".

ملاحظة: (ربما سيرفع أحدهم دعوى قضائية ضدي إلى محكمة الدستور بتهمة إهانة الشرطة كما فعلت وزارة الدفاع الألمانية ضد مستخدمي وصف "الجندي قاتل").

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter