|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس   20  / 6 / 2019                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

توقف القلب … سكن الآلم … أنتهى العذاب

سركون بابا
(موقع الناس)

نعم مات نعيم الزهيري (أبو واثق) … مات الرجل الطيب .. مات القلب الصافي ..مات الرجل الهادئ .. مات الجليس المؤنس .. مات الجار الوفي .. ماتت البسمه الرقيقة العذبه...مات الكلام الجميل.

أنتهى الألم والعذاب ..نعم لقد مات عمي العزيز "أبو واثق" .. لقد مات "نعيم الزهيري" .. نعيم ..أسم على مسمى .. شخص لا تمل مجلسه والتحدث اليه .. شخص هادئ بطباعه .. موزون .. قليل الكلام ولكن ذو حكم .. شخص مسّلي في مقالبه البريئة مع أهله وأصدقائه .. شخص محب للناس والأنسانية .. شخص ذو قلب كبير أبيض صافي .. شخص يديه دائمة الأمتداد للمساعده وعدم البخل بها للذي بحاجتها ..شخص صبور على الملمات والصعوبات وما أكثر التي مرت به صارعها وتغلب عليها .. شخص ذو عقيدة جبارة لا يتنازل ولن يتنازل عنها.. أعترك الحياة بأشكالها وكان لها صدرا وسدا منيعا أنه نعيم الزهيري (أبو واثق) المناضل المقدام .

الى الأب الغالي أبو واثق
الى العم العزيز أبو واثق
الى الأخ الكبير أبو واثق
الى الصديق الصامد القوي أبو واثق
الى جاري الوفي أبو واثق
الى رحلة العمر الجميله أبو واثق

لقد كنت لي كل هذه التسميات الجميله .. لم أشأ أن أفقدك بصورة المرض اللعين ،
لم أشأ أن أفارقك بهذا الوهن الكبير .. لقد عرفتك قويا صامدا ، وكنت أتمنى رحيلك وأنت بهذا الجمال .. سوف أتذكرك دائما وأنت قوي وصبور وستعيش هذه الصورة عنك عندي الى الأبد

بداية تعارفنا
نعيم الزهيري ..لم أكن أعرفه من قبل ، وكان لقائي الأول به في مخيم اللأجئين وكان التعارف سطحيا وبسيطا ولم يتعدى سوى القاء التحية والسلام، وعند أنتقالي للمخيم الثاني تكون الصدفة أن ينتقل "نعيم" الى نفس المخيم وهناك تطورت العلاقة لصغر العالم الذي أنتقلنا اليه ولقلة عدد الناس فيه ، وأصبح اللقاء به كثيرا والتحدث اليه أكثر فأكثر، وكان "نعيم" حينها وحيدا ولم تكن عائلته معه .. وبعد فترة وبعد ان ألتأم شمل العائله ، أصبحت علاقتنا أكثر تطورا وبدأت بيننا الزيارات المتبادله وكان الشعور بالراحة من قبل الطرفين لبعضهما يزداد مع الوقت .. وتشاء الصدفه أن ننتقل سوية مرة أخرى الى السكن الدائمي وبنفس المنطقة ولم يفصلنا عن بعض سوى الفسحة بين العمارتين السكنية ، ، وهناك تأصرت علاقاتنا أكثر وأكثر وكثرة الزيارات وكان طفلاي الصغيران يحبون كثيرا الذهاب الى بيت نعيم الزهيري وكانوا يطلقون على العم وزوجته بـ (جدو و نانا، أي جدو وبيبي) وكان كل شيئ في بيت جدو طيب المذاق بالنسبة لأطفالي .. وكان عمي يعمل لفات خبز وفيها قطعة جبن بيضاء مع بعض الخضروات ويقدمها لهم وهم يلتهموها بشراهة .. أنا وزوجتي ننظر اليهم بدهشه وتعجب .. حتى أننا ( أنا وزوجتي) قمنا بأخذ ما متوفر للأطفال من الطعام من بيتنا لبيت جدو لكي يأكلوه هناك لأنهم لا يرغبون به في بيتنا .. وكنا نضحك كثيرا لهذا الموقف … هكذا كان التعارف مع بيت أبو واثق وعائلته وأمتد هذا التعارف الى يومنا هذا ولم ننقطع في المواصلة مع بعضننا ابدا .

الهواية
أبو واثق وأم واثق كانت لهم هواية محببة جدا وكنت أشاطرهم بها، ألا وهي صيد السمك ، لذلك كنا نقوم برحلات صيد كثيرة ويشاركنا بها عائلة أبو واثق وأحفاده حيث كنا نفترش العشب الأخضر بجانب النهر وككل العوائل العراقية عندما تقوم بالرحلة..كانت السندويشات والكعك والجرزات حاضرة دائما وطبعا لا بد من الشاي المهيل الطيب المذاق .. وكانت الخاله أم واثق تتفنن بصناعة الشاي ، وكانت الرحلة تمتد لساعات طويلة من دون ملل ، وكان ركض الأطفال وتمتعهم باللعب صورة رائعة ، وكانت الأحاديث الجميلة بمواضعيها المختلفه شيقة وكان ترنيم الأغاني العراقية القديمة والتي كان العم أبو واثق يعشقها حاضرة ونحن نترم بها معه، "عمي يا بياع الورد، حركت الروح لمن فاركتهم ، ،يا عشكن ، وغيرها" والشيئ الجميل في رحلة الصيد هو أن سنارة أم واثق دائما كانت تتشابك خيوطها ، وعندها تسلم السنارة الى عمي أبو واثق ليفك خيوطها وهي تستلم سنارته ..يجلس العم بكل هدوئه وهو يترنم بأغنية ما ليحل العقدة وهكذا في كل مرة . وكنا دائما نرجع بصيد وفير ألا في المرات القليلة لم يحالفنا الحظ .. وبعد الصيد تكون دعوة أم واثق لي ولعائلتي لننتاول الغداء عندهم ، وهكذا كانت أيامنا تمضي سعيدة وجميلة ومرحة .

مقالب أبو واثق
كانت للعزيز أبو واثق خصلة جميلة تدخل السرور الى قلب سامعها وهي مقالبه مع عائلته وأصدقائه والتي كان يرويها بكل هدوء وكأنه تصوير فيلم سينمائي ونحن نضحك لها كثيراً .. ومن مقالبه،
كانت أبنة أبو واثق الصغرى تصلي دائما وفي أحدى المرات سألت والدها عن القبله ، فما كان من العم أن أشار لها عن أتجاه معين .. وأخذت البنت تصلي كل يوم على نفس القِبله ، الى أن جاءت أحدى قريباتهم في زيارة ووجدت البنت تصلي على تلك القِبله ..قالت لها أن هذه الجهه غير صحيحه للقِبله ، وأشارت أليها على القِبله والجهه الصحيحه ، وبعد أن أستعلمت من والدها عن قِبلته .. ضحك العم أبو واثق ، حيث كانت على الجدار صورة ماركس وصورة لينين.

مقلب أخر مع زوجة أخيه
أثناء رجوعه للبيت في محافظته ميسان (العمارة) مر بالقرب من بستان النخيل وكانت زوجة أخيه مشغولة بالحراثة وترتيب جذع شجرة نخله تعود لها ..وسألها أبو واثق عن عملها ولا تعرف ماذا تعمل..فأشتكت له هذه النخله بان تمرها ورطبها ليس حلواً ولا تعرف ماذا تعمل لتحسينها فما كان من أبو واثق إلا وان أشار لها بالحل ..وهو أن تشتري كيلوين سكر وتحرث التربه دائريا حول جذع الشجرة وتنثر السكر عليه وسيكون التمر والرطب حلو المذاق .. وصدقته المرأة وفعلا ذهبت وأشترت السكر وعملت بنصيحة أبو واثق ورآها زوجها تقوم بذلك وسألها من قال لك أن تقومي بهذا العمل ، وعندما أخبرته بأنه شقيقك أبو واثق ، قال لها "ولج ما تعرفين أبو واثق ، هذا يضحك عليج" وهكذا أنطلت حيلة أبو واثق على المسكينه.

مزحه مع زوجته أم واثق .. أحيانا كانت الزوجة تقول له أنا أموت عليك .. يسألها هو
"جا يمته"
أذا سألت أبو واثق شلونك عمي .. يقول أحسن من أم واثق .. وهكذا كانت مداعباته الجميله مع الكل .

مؤلفاته وطبعها وتكريمه
كان لنعيم الزهيري هواية محببه جدا لنفسه ألا وهي الكتابه وتوثيق الأحداث التي عاشها ومرت على حياته وعلى حياة رفاقه الذين عاصرهم في النضال والسجون .. وكانت له عدة مؤلفات وقد كتبها بخط يده ، وللحفاظ عليها أراد أن يطبعها على الحاسوب الالكتروني (الكومبيوتر) ويحتفظ بها خوفا من تلفها مع مرور الزمن وكان يسألني مساعدته في طباعتها .. وقمت بالفعل بطبعها جميعها تقريبا وأرسلتها له كي يحفظها في حاسوبه أو على الكاسيتات ولا زلت أحتفظ بقسم منها لدي ومن مطبوعاته "رصاصتنا الأولى ، مانكيش ، كردستان تحترق ، القيد وأناشيد البطولة ، فوزيه ،النخلة العراقية ، حسن الركاع، حوائر السكائر، سالم ، رسالة سنجار، قضايا راهنه... وغيرها" وغيرها من المؤلفات.

تكريمه
لقد تم تكريم نعيم الزهيري من قبل الحزب الشيوعي العراقي مرتين خلال فترة معرفتي به في المرة الأولى كان قبل عدة سنوات ، وأثناءها قمت ببمازحته قائلا .. أبو واثق هاي مو عداله أنا أطبع كل مؤلفاتك وأرتبها لك وبعدين التكريم يجي بس بأسمك .. وكنا نضحك لذلك .

التكريم الثاني كان قبل وفاته بـ(10) أيام وكنت حاضرا في بيته وكان التكريم بمناسبة الذكرى الخامسة والثمانين لتاسيس الحزب الشيوعي العراقي وجاء توقيت التكريم ملائما جدا وهو في حالة صراعه مع المرض حيث أحسست بأن التكريم قد أعطاه قوة معنويه كبيرة للتغلب على المرض في تلك اللحظة ، وكان التكريم لائقا به وحظى بفرح كبير عنده وشعور بالثقة لسنوات النضال التي خاضها وألقى كلمته وهو واقف رغم المرض وكانت كلمة رائعه قال فيها أنه سعيد بهذا التكريم وبقيمته المعنويه وأنه يعني الكثير له .. وأنه سيبقى مستمرا في مسيرته النضاليه وسيبقى صامدا وغيورا على الحزب ، وأنه لن يتخاذل أبدا .. وبعد التكريم جلس أبو واثق مع رفاقه على مائدة الغذاء وشاركهم الأكل ، وأبى أن نساعده في اطعامه، بل أخذ بنفسه الملعقه وبدأ بالأكل .. كأن هذا التكريم زاده قوة وصلابه .

حالته الصحية وبداية مرضه
كان أبنه واثق قد أخفى مرض والده (السرطان) عن العائله والمعارف جميعا خوفا من أنهيار الوالده وأخواته ، وأحتفظ بسر المرض لنفسه .
قبل ثلاثة أشهر، وأثناء أحدى زياتنا العائليه لبيت عمي ابو واثق لمسنا شيئاً في تدهور حالته الصحيه وبعد الأستفسار منه قال انه يشعر بأنه دماغه يصغر وأنا كنت سمعت من عائلته بأنه مصاب ببداية مرض "الزهايمر" وفي كل مرة كنا نزوره فيها نجده قد أصابه النحول وصحته في تدهور مستمر، وبدأت عنده أنعدام الشهية للأكل وكان يعاند العائله عند الطلب منه أن يأكل ويمتنع .. فما كان من زوجته ألا الأستنجاد بي وبزوجتي لكي نأتي ونطعمه ، وفعلا كنا تقريبا كل يوم عندهم ونقوم بذلك وكان هو يفرح كثيرا لرؤيتنا وكنا نجلسه على الأريكه ونطعمه وأنا أبدأ التحدث اليه وأعيد معه الذكريات ولكنه كان قليل الكلام وأحيانا يصمت أو ينسى ما هو الموضوع ، وأستمر الحال على ذلك لمدة ليست بقصيرة ، ثم جاءت أبنتا اخويه "أم شارت" و "زهراء" التي كان يسميها "زهرة البنفسج" وبدأتا بأطعامه وتنظيفه طوال فترة تواجدهما الى أن ساءت حالته كثيرا وعلى أثرها نقل الى المستشفى، وأستمرت ألاختان برعايته هناك أيضا ولم يبخلا بأي جهد في سبيل راحة عمهما ، حتى في أحدى مداعباتي لعمي أبو واثق قلت له (عمي أنا بدأت أغار من أم شارت وزهرة البنفسج) لأنهما أخذتا مكاني في أطعامك ورعايتك )أبتسم عمي للمزحة كما كانت هي عادته)، تحية تقدير وأحترام وأعتزاز للأختين العزيزتين لما قدماه لعمهما . .

المستشفى
نقل أبو واثق الى المستشفى وهناك تلقى العلاج الذي لم يساعد على أعادة صحته وبدأ المرض يأكل منه شيئا فشيئا وقلة شهيته للطعام أو تكاد تنعدم وأخذ جسمه بالأصفرار ، وفي كل يوم يضعف أبو واثق عن سابقه وكنا في زيارة مستمرة له وكان أبنه واثق يرافقه في المستشفى ويبقى معه ليل نهار، وكان الأبن البار ، قام بواجبه على أكمل وجه وكان أهلا للمسوؤلية تجاه عائلته كلها ، وكان هو الشئ المرجو منه، وكانت العائله كلها بقدر المسوؤلية حيث زوجته بقلقها الشديد عليه، وضعفها من الحزن لكنها أبدت شجاعة في التحمل وأطلاق النكات والمزح في كل مناسبة كان أبو واثق يفتح عينيه فيها ولو للحظات بسيطة ، وكانت أبنته واثقة دائمة السفر من السويد كلما سنحت الفرصة لها تاركة عائلتها هناك ، أما أبنته الكبيرة أنتصار والتي تعيش في كندا لم يمر يوم ألا وجرس الهاتف يرن عدة مرات للأستفسار عن والدها، حتى أنها ضحت بأمتحان أبنتها الصغيرة لهذه السنه كي تطير قبل موعد سفرها وتجتمع بوالدها في أيامه الأخيرة .. الشيئ الذي أفرح الناس هو أن عمي أبو واثق أجتمع بعائلته جميعا ومع أحفاده وكانت فرحته كبيرة لرؤيتهم ، وشكرنا الله كثيرا ، بأنه فارق الحياة وقد تمت رؤية جميع أفراد عائلته.

اللحظات الأخيرة
في ذلك اليوم كنت في المستشفى ولم أشاهد في عمي سوى ذلك النفس الصاعد والنازل منه وعرفت أن نهايته قد أقتربت ..وتمنيت الموت له في تلك اللحظة .. ليس لأني أريد ذلك ..بل في سبيل تخلصه من العذاب والآلم وبقيت عنده عدة ساعات وقبل مغادرتي حظيت للمرة الأخيرة من ان أسقيه قطرات ماء، وتبليلي شفتيه به، وتحدثت أليه ببضع كلمات أخيرة أحتوتها كل ذكرياتنا وسنوات صداقتنا وجلساتنا .. وأخيرا طبعت قبلتي الأخيرة على جبينه والدمعة تسقط من عيني على وجنتيه .. ودعته وأنا لا أرغب في توديعه لأنها المرة الأخيرة التي سوف أراه فيها ، غادرت المستشفى وأنا كلي حزن وأسف على فراقه .. وأوصيت أبنه واثق أن يتصل بي في حال حدوث أي طارئ .. ولم يستغرق الأمر سوى ساعتين وأذا بواثق يرسل لي رسالة (الوالد انطاك عمره)، وفي الحال أخذت زوجتي وذهبنا الى بيت عمي العزيز.. مات عمي أخيرا .. وأرتاح من الآلم والعذاب.

أمنيتي
أمنيتي الأخيرة كانت يا عمي العزيز شوقي الكبير أن أشارك في غسلك وتحضيرك باللبس وحملك الى مثواك الأخير ، ولكن الطقوس الدينية وأصولها والتي أحترمها وأقدرها حالت دون ذلك ، ولا أخفي عليك بأني شعرت بأن يدي وقلبي قيدت ، وشعرت بأني لم أكمل واجبي تجاهك . معذرة يا أبي الغالي ، ويا عمي العزيز .

أخيرا .. أقول لك بأنك ستعيش معنا دائما وذكرياتنا سوف تبقى شاخصة أمامنا.. نم قرير العين في مثواك الأخير .. ونحن سوف نصلي دائما لك لتبقى عزيزا دائما .. وسوف نقول أن أبا واثق " نعيم الزهيري" لم يمت .. ولن يموت.




الأربعاء 19/6/2019


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter